من أدب الحوار
إنما أعظكم بواحدة
عبد العزيز بن ناصر السعد
تكلم الكاتب في الحلقة السابقة عن الأصل الأول: أن تقوموا الله. ويتابع هنا
عن الأصل الثاني: ثم تتفكروا..
الأصل الثاني: العلم:
ويدخل تحته التفصيلات التالية:
١- الاتفاق:
على منهج الاستدلال والتلقي قبل البدء في نقاش أي مسألة علمية لأن النقاش
والمنهج مختلف سيؤدي إلى الدوران في حلقة مفرغة، وسوف لا يسلم أي طرف
لما عند الطرف الآخر من دليل أو استنباط، وحتى تتضح هذه المسالة أكثر نضرب
لذلك بعض الصور كما ذكرها الشاطبي في (الاعتصام، الباب الرابع) تحت عنوان: مآخذ أهل البدع في الاستدلال فذكر منها (باختصار) :
أ - أن من أهل البدع من منهجه الاستدلال بالأحاديث الضعيفة أو
الموضوعة أحياناً في العقائد والأحكام وهذا المأخذ مرفوض عند أهل السنة لأنهم لا
يرضون الاستدلال بالضعيف فضلاً عن الموضوع في باب العقائد والأحكام فإذا لم
يتفق مع الطرف المحاور على هذا المنهج فلن يفلح الحوار في أي نتيجة لأن الأدلة
التي سيشترك بها الطرف الآخر مرفوضة ابتداء من الطرف الثاني لعدم ثبوتها عنده.
ب - ومن أهل البدع من هو عكس الصورة السابقة حيث يرفض الاستدلال
بالأحاديث الصحيحة بحجة أنها آحاد ولا يقبل من ذلك إلا المتواتر، وهذا المنهج
مرفوض أيضاً عند أهل السنة حيث أن الدليل إذا ثبتت صحته أصبح صالحاً
للاستدلال ولو كان آحاداً، وبدون الاتفاق على هذا المنهج ابتداءً فلن يفلح الحوار
في أي نتيجة. إذن فمن الأولى في مثل هذه الحالات وقبل طرح الأدلة ودلالتها عن
المقصود لابد من الاتفاق على قبول الاستدلال بأحاديث الآحاد.
ج - كما أن هناك من أهل البدع من منهجه الاحتجاج بأقوال شيخه أو إمامه
والتعصب لها، ونبذ أي دليل يخالف ذلك بل إن بعض الملل المبتدعة من يرون أن
أقوال أئمتهم ومشايخهم هي التشريع بذاته وممكن أن يأخذ الحلال والحرام من
أقوالهم بل إن لهم نسخ الشريعة وتحليل الحرام أو تحريم الحلال فإذا لم يتفق على
خطاء هذا المنهج وأن ما جاء في الكتاب والسنة هو الأصل وكل ما خالفهما
مرفوض مهما كان قائله فإنه لا فائدة من النقاش.
د- ومن أهل البدع من يعتمد في استدلاله على الرؤى والمكاشفات فيصحح
بهما الضعيف ويضعف الصحيح ويحلل ويحرم ويشرع بهما ما لم يأذن به الله، فإذا
لم يتفق ابتداءً على ضلال وخطأ هذا الاستدلال فلن يفلح الحوار ولن تتحقق أهدافه
أبداً، وصور مآخذ أهل البدع في الاستدلال كثيرة من أراد التوسع فيها فليرجع إلى
الباب المذكور في الاعتصام فإنه مفيد جداً.
٢- مراعاة تفاوت الناس في عقولهم وثقافاتهم:
فالعلم بما عند الطرف الآخر من علم وثقافة يعين على اختيار الأسلوب
والمعلومات التي تناسب عقله وحصيلته العلمية، فتحديث الناس بما يعقلون أمر مهم
في الحوار لأن عدم مراعاة ذلك يحصل بسببه فتنة وتشويش للطرف الآخر ينعكس
أثره على إيجابية الحوار.
٣- البيان وحسن العرض:
إن قوة التعبير وفصاحة اللسان وحسن البيان والعرض من العوامل في إيضاح
الفكرة وأدلتها، ومما يكون له أكبر الأثر على قبول الطرف الآخر للفكرة، وإقناعه
بحسن الاستدلال عليها، وهنا يجب تجنب الألفاظ الغريبة صعبة الفهم أو الألفاظ
المجملة التي تحتمل عدة معان من غير توضيح للمعنى المراد منها.
٤- البدء بمواطن الاتفاق والنقاط المشتركة:
إن البدء بنقاط الاتفاق لدى الطرفين كالمسلمات والبديهيات وغيرها من الأمور
المتفق عليها كل ذلك يقلل الفجوة ويوثق الصلة بين الطرفين ويحس كل منهما أن
هوة الخلاف قليلة، وهذا له مردوده النفسي في الحوار وبالتالي فإن البدء بنقاط
الخلاف يوسع فجوة الخلاف ولو من الناحية النفسية ولذلك يحرص أن يلقى على
الطرف الآخر الأسئلة التي سيكون جوابها " بنعم " ويتجنب ما يكون جوابه النفي
لأن كلمة " لا " عقبة كؤد يصعب التراجع عنها، والأمثلة في القرآن الكريم كثيرة
فمثلاً في سورة المؤمنون يقول تعالى: [قُل لِّمَنِ الأَرْضُ ومَن فِيهَا إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ ورَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ
* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وهُوَ يُجِيرُ ولا يُجَارُ
عَلَيْهِ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ] فهنا نجد أن الله -سبحانه
وتعالى- ألقى عليهم الأسئلة التي يعرف جوابهم عليها مسبقاً لكي يصل إلى تقرير
توحيد الألوهية لأن ما وافقوا عليه مستلزم لما أنكروه.
٥- التوثيق:
ينبغي أن تكون مسائل الحوار موثقة من الناحية العلمية والإسنادية فلا يستدل
بشيء إلا مسنداً لقائله ومصدره الذي أخذه منه وأن يستعان بذكر الإحصائيات التي
تخدم الفكرة والمراجع التي رجع إليها لأن ذكر الحقائق مدعمة بذكر المصادر
والإحصائيات الموثقة أعمق أثراً في النفوس من ذكرها مجردة، كما ينبغي في مثل
هذه الحالات الإعراض عن النقول الضعيفة والحجج الواهية.
٦- عدم تعرض أحد الطرفين لكلام الآخر ومناقشته قبل فهم مراده تماماً:
والتفكير العميق في أدلته ثبوتاً ودلالة وأن لا يقدم على تصحيح فكرة ما أو
تخطئتها قبل التأكد من ذلك تماماً.
٧ - الإحاطة بمواطن الخلاف:
في القضية المطروحة للحوار والإلمام بأنواع الاختلاف ما يجوز فيه وما لا
يجوز، لأن جهل هذا الأمر يوسع دائرة الاختلاف فيحصل الاختلاف والفرقة حول
مسألة قد يسع الخلاف فيها والاجتهاد، كما ينبغي الإلمام بأسباب الاختلاف بين
علماء الأمة والتي ذكرها شيخ الإسلام في رسالته القيمة " رفع الملام عن الأئمة
الأعلام ".
وفي هذه المناسبة ينبغي الإشارة إلى مسائل الخلاف، وأنواعها، وما هو
المحمود منها، وما هو المذموم، وما هي المسائل التي يسعها الخلاف، والمسائل
التي لا يسعها، إلى آخر ذلك مما يتعلق بموضوع الاختلاف، فنقول وبالله التوفيق. إن الاختلاف ينقسم إلى قسمين:
١ - قسم يحمد فيه أحد الطرفين ويذم الطرف الآخر مثل الاختلاف الواقع بين
المؤمنين والكافرين، أو بين أهل السنة وأرباب البدع وهذا القسم الاختلاف فيه هو
المذكور في قوله تعالى: [ولَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ ومِنْهُم مَّن كَفَرَ] ، وكقوله
تعالى: [هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ] . فكل ما يتصل بقضايا العقيدة
وأصولها والتي لم يختلف عليها سلف الأمة وإنما ظهر الاختلاف واستشرى بعدهم
فهو داخل تحت هذا القسم.
٢ - قسم يذم فيه الطرفان المختلفان إذا سبب هذا الاختلاف الفرقة والعداوة،
ويحمد فيه الطرف الذي لم يجعل هذا الاختلاف سبباً في الفرقة والمفاصلة، وهذا
النوع من الاختلاف هو الذي وسع السلف -رحمهم الله تعالى-، ولم يحصل بينهم
بسببه افتراق ولا بغضاء، فكل ما وسع السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- فيما
اختلفوا فيه فيجب أن يسعنا، ويندرج تحت هذا القسم عدة صور نجملها فيما يلي.
أ - اختلاف في تحديد موضوع الخلاف: وذلك بأن نجد أحد المختلفين قد
ذهب إلى موضوع من النزاع غير ما ذهب إليه الآخر فذاك سماه باصطلاح معين
والآخر سماه باسم آخر فظهر أن هناك اختلافاً والحقيقة غير ذلك فلو حددت
المصطلحات ودقق في المعاني والألفاظ لظهر أن هناك اتفاقاً وليس اختلافاً , وهذا
الأمر لا يأتي إلا بالتفكير الهادئ مع الإخلاص لله -عز وجل-.
ب - قد يتضح بعد التفكير وتحديد موضع النزاع أن هناك اختلافاً لكن هذا
الاختلاف ليس اختلاف تضاد بمعنى أن المعنى الكلي ليس فيه خلاف إنما الخلاف
في تنوع آحاد هذا الكلي وتعدد الأمثلة التي تحته كمن يذهب إلى معنى جزئي وآخر
يذهب إلى معنى جزئي آخر يندرج كلاهما تحت المعنى العام الكلي، مثال ذلك
تفسير (الصراط المستقيم) في قوله تعالى [اهدنا الصراط المستقيم] فقائل بأنه
القرآن وآخر أنه الإسلام وآخر أنه الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكل هذه
المعاني لا اختلاف بينها لأن مرادها واحد وكل قول داخل تحت الآخر.
ج - وهذه الصورة من الاختلاف الذي وسع السلف -رحمهم الله تعالى- بأن
يكون المعنيان متغايرين لكن ليس بينهما منافاة لأن هذا قول صحيح ورد فيه دليل
وذاك قول صحيح ورد فيه دليل أيضاً ولا يجوز أن يكون هذا سبباً في الاختلاف،
وهذا كثير في المنازعات لعدم معرفة أحد الطرفين بما عند الآخر من دليل، ومثال
ذلك الاختلاف في صفة الإقامة للصلاة فمن قائل بشفعها وقائل بإفرادها والاختلاف
في القراءات.. . الخ.
وكل ما ورد في الشريعة عليه دليل صحيح ووسع السلف الصالح فإنه لا
يجوز أن يكون سبباً في الاختلاف المؤدي إلى الفرقة والتباغض، وهذا بالطبع لا
يأتي إلا نتيجة التفكير والبحث وعدم التعجل في رد قول المخالف إلا بعد الاطلاع
على كل ما يتعلق بالموضوع من أدلة واستنباطات، فقد يتضح بعد البحث أن كلا
القولين ثابت وصحيح عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبذلك ينتهي الخلاف.
د - الخلاف حول قضية معينة ورد الدليل عليها وأورد المخالف دليلاً آخر
مخالفاً لها لكن أحد الدليلين أقوى من الآخر وأرجح، فهذا أيضاً لا ينبغي أن يكون
سبباً في الفرقة لأن ما وسع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأئمة
السلف ينبغي أن يسعنا، وهذا يقع في كثير من الأحكام التي اختلف فيها العلماء
وعندما يعلم أن هؤلاء الأئمة ما اختلفوا لهوى في نفوسهم بل وقف كل منهم مع ما
عنده من الدليل فربما وصل أحدهم ما لم يصل الآخر أو صح عنده ما لم يصح عند
غيره كما بين ذلك شيخ الإسلام في رسالته: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) ولكن
مع ذلك فالواجب في هذه الحالة العمل بالدليل الراجح وترك المرجوح عند من تبين
له ذلك بوجه شرعي.
ولكن هذا لا يعني موافقة من يأخذ بالأقوال الشاذة أو بعض سقطات العلماء
والتي يكون الدليل على خلافها بل الواجب تصحيح المخالف وإرجاعه إلى الدليل
وتوضيح وجه الشذوذ فيما أخذ به لأن هناك من يقول (أي قضية لم يجمع عليها
الصحابة فالأمر فيها واسع) وهذا القول ليس صحيحاً على إطلاقه فقد ذكر الشيخ
عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ -رحمه الله- في رسالة له لم تطبع
بعد، كلاماً جيداً حول هذا الأمر ننقل منه المناسب لموضوعنا. يقول -رحمه الله
تعالى-:
" وأما احتجاجه بقول النووي إن العلماء إنما ينكرون على من خالف ما أجمع
عليه وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه لأنه على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب.
قال: وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم. انتهى ما حكاه، فيقال
في جوابه: أنت لم تستكمل عبارة النووي بل تصرفت فيها وأخذت ما تهوى
وتركت بقية العبارة لأنه عليك مع اتصالها وتقييد بعضها ببعض. قال النووي بعدما
تقدم: لكن إن أريد به على جهة النصيحة أي الخروج من الخلاف فهذا حسن
محبوب مندوب إلى فعله برفق فإن العلماء متفقون على الحث إلى الخروج من
الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بالسنة أو وقوع في خلاف آخر. هذا كلام النووي
فقد استبان لك أن مراده إذا لم يظهر دليل ولم يترجح جانب الأفكار بكتاب أو سنة
أو إجماع أو قياس جلي.. وأما أقوال الآحاد من العلماء فليست بحجة إذا لم يقترن
بها دليل شرعي ومازال العلماء يردون على من هو أجل منه " أ. هـ.
وبعد هذا التفصيل فيما يجوز الاختلاف فيه ومالا يجوز، نتوجه إلى جميع
المختلفين أن يقفوا وقفة مع نفوسهم، ويسأل كل واحد منهم نفسه أو صاحبه ومن
يخلص له النصح والتذكرة: أين نحن من أنواع الاختلاف، وأين نحن من البغي
والاعتداء في الخلاف، وأين نحن من أدب الخلاف وأخلاقه، وما كانت الأمة
لتفترق إلا بسبب البغي والحسد والجهل فلنقف مع موعظة الله -عز وجل- لنا ومع
ما جاءنا به القرآن الحكيم والذي جعله الله لنا هدى وشفاء ورحمة وموعظة: [قُلْ
بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ] .
٨- أن يعطى كل طرف في الحوار راحته وحريته في التعبير عن فكرته
والاحاطة بها من جميع الوجوه لأن قطع الفكرة أو التشويش عليها يؤثر على تسلسل
الأفكار وترابطها واضطرابتها.
٩- لا أعلم:
وذلك بأن يكون عند أصحاب الحوار من الإخلاص والخوف من الله -عز
وجل- بأن يقول لا أعلم عند السؤال عن مسألة لا يعلمها أو لم يبحثها بحثاً كافياً،
وأن لا يستحي من ذلك وأن يطلب الإمهال حتى لقاء آخر ليأتي بالجواب عنها إن
وجد جواباً.
١٠ -التفريق بين الفكرة وصاحبها:
وذلك بأن يتم تناول الفكرة المطروحة بالبحث والتحليل والنقد أو التزكية بعيداً
عن صاحبها حتى لا يتحول الحوار إلى مبارزة كلامية تناقش فيها تصرفات
الأشخاص ونواياهم ولكن في بعض الأحوال ينبغي تناول أصحاب الأفكار أنفسهم
بالجرح والتعديل حسب مقاييس أهل السنة وذلك عندما نخشى ضلالالتهم أو تأثر
الناس بأفكارهم ولكن كل ذلك يتم بإخلاص وإنصاف.
١١ - إقفال المناقشة:
عندما تتسع شقة الاختلاف أو يتضح أثناء النقاش أن هناك أموراً أساسية
برزت لم يتم التحضير لها أو لا يكفي الوقت لمناقشتها فيحسن في مثل هذه الأحوال
إقفال النقاش وتأجيله إلى وقت آخر يتم التحضير والاستعداد الجيد له، كما ينبغي
قفل النقاش عندما يتبين أن الطرف الآخر في الحوار غير جاد أو مستهتر أو كان
دون المستوى المطلوب للخوض في القضايا المعدة للحوار.
الأصل الثالث: ظروف الحوار والمتحاورين
وهذا هو الأصل الثالث الذي يراعى عند الحوار والمناظرة وقد أشارت الآية
الكريمة إلى جانب من ذلك عند قوله تعالى [مثنى وفرادى] وسنشير هنا -إن شاء
الله تعالى- إلى بعض الجوانب التي تتعلق بظروف الحوار لأن إلغاءها يؤثر كثيراً
على طبيعة الحوار ونتيجته، ومن هذه الجوانب ما يلي:
١ -مراعاة الجو المحيط بالحوار:
ويقصد بالجو هنا الجو النفسي والمؤثرات المحيطة بالحوار وذلك كما في الآية
الكريمة حيث يوجه الله -عز وجل- طلاب الحق أن يبتعدوا عن الأجواء الجماعية
والغوغائية لأن الحق قد يضيع في مثل هذه الأجواء حيث التقليد الأعمى والتبعية
للأكثرية بينما لو قام الإنسان مع نفسه أو مع شخص آخر للتفكير حول قضية ما
فإنه أقرب إلى إصابة الحق منه في الاجتماعات الكبيرة وبقدر ما يقل المتحاورون
أو السامعون في الحوار بقدر ما ينقاد إلى الحق عند ظهوره.
٢ -مراعاة الجو الحسي للحوار:
وذلك من حيث البرودة والحرارة والاتساع والضيق.. الخ، لأن وجود ما
يؤذي في جو الحوار يؤثر على طبيعة النقاش وخسارة، وقد يبتر النقاش أو
يختصر دون وصول إلى نتيجة وذلك حتى يبتعد عن ما يؤذي في مكان الحوار
كذلك مما يتعلق بهذا الجانب اختيار المكان الهادئ وإتاحة الزمن الكافي للحوار فلا
تصلح أماكن الدراسة والعمل والأسواق للحوار أبداً وذلك لضيق الوقت ولوجود ما
يشغل.
٣-مراعاة الظرف النفسي والاجتماعي للطرف المحاوَر أو المحاوِر:
فلا يصلح أبداً أن يتم الحوار مع شخص يعاني من الإرهاق الجسدي لتعب أو
حاجة لنوم أو بسبب جوع أو يعاني من إرهاق نفسي كهم أو غم أو حزن لأن هذه
الظروف لابد أن تؤثر حتماً على الحوار إما بتره قبل تمامه أو حدوث انفعالات
وغضب وتوتر يؤدي بالحوار إلى الفشل الذريع.
٤ - أهمية المحادثة الأولى والتعارف الذي يسبق الحوار:
إن المحادثات الأولى والتعارف الأول على الطرف المحاور يساعد على
سهولة البدء في المناظرة وسيرها فيما بعد بالشكل المناسب، إذ من الصعب أن
يبتدأ مباشرة بالحوار مع أشخاص لم يتم أي تعارف ولو بسيط معهم. لأن في جلسة
التعارف هذه فائدة في التعرف على طبيعة الطرف الآخر ولو بشكل مبدئي من
خلال مظهره وحديثه ونبرات صوته وحصيلته العلمية مما يكون له الأثر في معرفة
الظروف النفسية والميولات الذهنية للشخص المحاور، وهذا بدوره يساعد في
طريقة وأسلوب الحوار مع الناس كل حسب ظروفه، ويمكن أن تتم جلسة التعارف
هذه على شكل دعوة غداء أو عشاء يتم فيه أحاديث غير رسمية عن الصحة والعمل
والأولاد وعن رأيه في الكتاب الفلاني وفي الفكرة الفلانية، وعن أي أمر عام ليس
له علاقة بموضوع الحوار. فهذه الطريقة على أي حال أفضل بكثير من أن يفاجأ
المرء بأشخاص لم يضع لهم في ذهنه أي تقدير لهم ولظروفهم فيؤدي إلى فشل
الحوار كأن يخبر على أن الشخص لطيف وسهل التعامل وحليم ويفاجأ بالعكس تماماَ.
٥ - أن يكون المتحاوران متقاربين ما أمكن في العلم والجاه وأن يتجنب
مناظرة ذي هيبة يخشى أن يستحي من مناظرته لئلا يؤثر ذلك على قوة الحجة
والجرأة على الإدلاء بها.
٦ - ينبغي اجتماع أصحاب الحوار في مكان واحد وتقابلهما فيه وأن ينظر
بعضهم للآخر لأن رؤية الوجوه والملامح له أثر في قوة الحجة أو ضعفها وفي هذه
الحالة لا تصلح المراسلات للحوار ولا يصلح كذلك الحوار بواسطة الهاتف.
٧ - مراعاة الآداب الإسلامية (القولي منها والعملي) ، والذي يكون له مردوده
النفسي على أطراف الحوار وسلامة قلوبهم وصفائها، والانقياد للحق عند ظهوره،
ومن هذه الآداب:
أ- احترام الطرف الآخر والتأدب معه وحفظ اللسان عما يسوءه من الألفاظ،
وعدم السخرية برأيه، وأن يثني عليه بما فيه، وفكرته من الإيجابيات والخير
الكثير.
ب - التلطف في العبارات أثناء الحوار، فبعض العبارات قد تفتح مغاليق
النفوس وهي يسيرة على من يسرها الله عليه من الكلمة الطيبة التي تقرب النفوس
وتزيل الجفوة وتهيء النفوس لاستقبال الحق، والأمثلة في ذلك كثيرة كمناداة
الطرف الآخر بكنيته وإذا كان أكبر سناً أو علماً بياأستاذي وشيخي.. اسمح لي..
عفواً.
ج -ابتسم في وجه محدثك وأطلق أسارير الوجه أثناء الحوار فهذا يضفي على
الحوار جو الألفة والأنس.
د - اجتنب الغضب ما أمكن ولو عارضك الطرف الآخر أو أغلظ القول لك،
واستخدم الرفق واللين.
هـ -تجنب اللوم المباشر عند وضوح خطأ الطرف الآخر فالنفس غالباً لا
تتحمل قول (أخطأت) أو (سأثبت لك أنك مخطئ) أو (أنا أخالفك في الرأي) فهذه
الألفاظ قد تجرح عند بعض الناس كبرياءه وشخصيته.
لكن عندما يبدو الخطأ فيمكن معالجته بمثل قولك: لكن أرى رأياً آخر قد
أكون مخطئاً فيه، أو لعلك تصلح لي خطأي. وإذا كان الخطأ يمكن إصلاحه
ببعض الإضافات فتقول: هل لك أن تفعل هذا أو ما رأيك في إضافة هذه العبارة..
أو ما المانع لو اتفقنا على هذا التعديل.. الخ.
٨- التحدي والإفحام: وهذا الأسلوب يلجأ إليه المماحكين الذين همهم الجدال
والاستهزاء وإثارة الشبه وتضليل الناس فمثل هؤلاء لا ينفع معهم اللين والرفق
وإنما الذي ينبغي في حقهم إفحامهم ومناظرتهم على الملأ الذين قد ضلل بسببهم
وذلك حتى تدحض حجتهم وتسقط هيبتهم من النفوس وتبين وهن فكرتهم
واضطرابها. لكن ينبغي لمن أراد مناظرتهم أن يكون على مستوى من العلم والذكاء
والشجاعة بحيث لا يؤتى من قبل قلة علمه أو سطحيته أو نحو ذلك.
٩- المحافظة على هدف الحوار والوصول إلى نتيجة:
تحديد هدف الحوار قبل الدخول فيه أمر مهم والمحافظة على الهدف أثناء
الحوار أيضاً أمر مهم لأن ذلك يحافظ على التركيز وعدم الخروج عن موضوع
الحوار بمناقشة جزئيات أو أمور جانبية بعيدة عن موضوع الحوار مما يكون له
الأثر في ضياع الوقت وعدم الوصول إلى نتيجة في آخر الأمر.
وبعد:
فهذه جملة في أصول الحوار وآدابه أعرضها على علاتها ونقصها لعلها تفتح
المجال لعلماء الأمة ودعاتها بأن يفصلوا الأمر حول هذا الموضوع ويكملوا ما نقص
منه، فالمسلمون في حاجة ماسة إلى استقصائه وإتمامه.
كما أسأل الله -عز وجل- أن ينفع بهذا الحديث القلوب المخلصة التي أدمتها
الخلافات وخيم اليأس على بعضهم، ولعل الأخوة الذين صاروا أعداء وهم أقرب
الناس بعضهم إلى بعض أن يقوموا لله -عز وجل- ويتفكروا مع أنفسهم أو مع
بعضهم البعض وأن يحفظ كل واحد منهم حق أخيه ويعلم وإن كان مخطئاً في شيء
فقد أصاب في أشياء أكثر مادام أنه من أهل السنة وأتباع السلف.
فيا أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - ويا محبي محمد - صلى الله عليه
وسلم - جردوا أنفسكم لله تعالى واقتدوا بسلف الأمة الذين كانوا حريصين على جمع
الكلمة وسلامة القلوب، وكان أبغض شئ لديهم الفرقة والاختلاف، فهذا عبد الله بن
مسعود -رضي الله عنه- عندما قيل له: أن عثمان بن عفان أتمَّ بالمسلمين في منى
وكانت السنة القصر، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم لم يمنعه ذلك من أن يأتم
بعثمان ويتم الصلاة معه أربعاً، فلما قيل له في ذلك قال: إن الخلاف شر. فحري
بمن أحب السلف والتزم بمنهجهم أن يلتزم بمنهجهم الشامل في الاعتقاد والسلوك،
وما تم عرضه في هذا البحث يمثل إن شاء الله تعالى بعض آداب السلف الصالح
في حوارهم واختلافهم وهي بدورها الآداب التي هدانا الشرع إليها لنخرج من
الاختلاف الذي قدره الله تعالى على كل أمة، وأن لا نستسلم لهذا الاختلاف بل
ننازعه بقدر الله -عز وجل- وأسبابه الشرعية التي شرعها الله لنا والتي لا سبيل
للنجاة والخلوص من الشرور إلا بالرجوع إليها، ومن سلك سبيل الهدى وصدق مع
الله -عز وجل- في طلبه للجماعة والائتلاف يسر الله له سبيله وألف بينه وبين
إخوانه من الدعاة الصادقين، ومن سلك سبيل الضلال من الزيغ والفرقة والاختلاف
أضل الله سبيله وأزاغه عن الهدى [والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ
المُحْسِنِينَ] ، وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.