للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة

[الحوار الإسلامي النصراني]

أو الحوار بين مسلمين ونصارى

د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي [*]

[email protected]

بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، ليظهره على

الدين كله، وأمره بالدعوة إليه، فعمَّ وخصَّ، فقال سبحانه: [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ

إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو يُحْيِي

وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ

تَهْتَدُونَ] (الأعراف: ١٥٨) ، وقال: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ

بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ

اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ] (آل عمران: ٦٤) .

وحذَّره ربُّه أن يجنح إلى شيء من محاولات الذين كفروا من أهل الكتاب

والمشركين لاستزلاله عما بُعث به، فعمَّ وخصَّ، فقال: [قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ

أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ

عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ] (الكافرون: ١-٦) ، وقال في خاصة

أهل الكتاب: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً

عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الحَق] (المائدة:

٤٨) ، إلى أن قال: [وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْك]

(المائدة: ٤٩) .

فامتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فدعا عشيرته الأقربين، وثنى

بسائر العالمين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن نبي الله صلى الله عليه

وسلم كتب إلى كسرى، وإلى قيصر، وإلى النجاشي، وإلى كل جبار؛ يدعوهم

إلى الله تعالى. وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم» [١] .

وكان نص كتابه صلى الله عليه وسلم إلى هرقل ما يلي: «بسم الله الرحمن

الرحيم، من محمد بن عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من

اتبع الهدى، أما بعد: أسلم تسلم؛ يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك

إثم اليريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله،

ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله؛ فإن تولوا فقولوا

اشهدوا بأنا مسلمون» [٢] .

وعلى هذا الصراط المستقيم سار صحابته الكرام، والتابعون لهم بإحسان،

وهم يفتحون القلوب قبل الحصون، ويُدخلون الناس في دين الله أفواجاً، وعلى

خطاهم سار الموفقون من سلف هذه الأمة عبر القرون المتطاولة، لا يعرفون غير

الدعوة إلى الله بالحجة والبيان، فإن لم؛ فبالسيف والسنان، [حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ

وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ] (الأنفال: ٣٩) ، لا يعرفون شيئاً من الطرائق المحدثة من

تقريب أو تلفيق أو توفيق.

فلما استدار الزمان، وتحلحلت عرى الإيمان، وآل حال أهل الإسلام إلى

ضرب من الضعة والانكسار في القرون الأخيرة؛ طمع فيهم عدوهم، واستهوى

رقاق الدين منهم إلى مدارج من الفتنة والاستزلال والتي حذر الله نبيه صلى الله

عليه وسلم منها والمؤمنين فاستشرفوها فاستشرفتهم، فلم يزل أمرهم في سفال، فلا

هم أرضوا ربهم، ولا هم نالوا من مخالفهم بعض ما منَّاهم به.

فمن ذلك: فتنة (التقارب الإسلامي المسيحي) ، كما كانت تسمى قبل ثلاثة

عقود، ثم لطِّفت فسُمّيت: (الحوار الإسلامي المسيحي) ، ثم وُسِّعت بين يدي

«اتفاقية أوسلو» للتطبيع مع اليهود، فصارت: (حوار الأديان) ، وربما:

(حوار الأديان الإبراهيمية) ، ثم لم تزل تتسع في ظل الدعوة إلى العولمة

لتصبح: (حوار الحضارات) فتشمل الهندوسية، والبوذية، وسائر الملل الوثنية،

في زخرف من القول، وبهرج من العمل.

وقد كانت الجبهة العريضة تاريخياً وجغرافياً تجاه العالم الإسلامي هي الغرب

النصراني، ولا يزال، وسيظل كذلك إلى قيام الساعة، كما في حديث المستورد

القرشي - رضي الله عنه - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (تقوم

الساعة والروم أكثر الناس) [٣] .

وأحاديث الفتن والملاحم في الصحاح والسنن والمسانيد متوافرة على أنهم

خصوم المستقبل، كما أنهم خصوم الحاضر والماضي، وهم اليوم يملكون الآلة

العسكرية، والقوة الاقتصادية، والهيمنة الإعلامية، ومع ذلك تنطلق من مراجعهم

الدينية والسياسية الدعوة إلى التقارب والحوار.. فما سر ذلك؟!

إن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي أن نلم بجانب وصفي معاصر لنشأة

ظاهرة (الحوار الإسلامي النصراني) أو (الحوار بين مسلمين ونصارى) على

وجه الدقة؛ حتى لا نضفي على بعض الممارسات الخاطئة الصفة الإسلامية، بل

ننسبها إلى أفراد أو هيئات من المسلمين خاضوا فيها بحسن نية وجهل حيناً،

وتساهل وتجاهل أحياناً.

* وقائع معاصرة:

- في عام (١٣٠١هـ / ١٨٨٣م) أسس الشيخ محمد عبده، والقس الإنجليزي

«إسحاق تيلور» ، وجمال رامز بك (قاضي بيروت) ، ونفر من الإيرانيين

جمعية سرية للتقريب بين الأديان في بيروت.

- في عام ١٩٣٥م انعقد مؤتمر (تاريخ الأديان الدولي) في بروكسل، وأوفد

شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي كلاً من الأستاذين: مصطفى عبد الرازق،

وأمين الخولي.

- في عام ١٩٣٦م انعقد (المؤتمر العالمي للأديان) في لندن، وانتدب الشيخ

المراغي أخاه عبد العزيز لإلقاء كلمة نيابة عنه.

- في عام ١٩٣٧م انعقد (المؤتمر العالمي للأديان) في جامعة السربون،

وانتدب الشيخ المراغي الشيخ عبد الله دراز نيابة عنه.

- في عام ١٩٤١م أسس المستشرق الكاثوليكي الفرنسي «لويس

ماسينيون» ، والأب الكاثوليكي المصري «جورج قنواتي» (جمعية الإخاء

الديني) ، وضمت في عضويتها بعض علماء الأزهر.

- في عام ١٩٤٨م (عام إعلان قيام دولة إسرائيل) أسس اليهودي الأمريكي

«المير برجر» (جمعية الأصدقاء الأميركان للشرق الأوسط) ، واستدرج

لمنصب نائب رئيسها الشيخ محمد بهجة البيطار رحمه الله، ثم تبين له لاحقاً خلاف

ما كان يؤمل. وكان من نشاطها:

- في عام ١٩٥٤م انعقد مؤتمر (القيم الروحية للديانتين المسيحية والإسلامية)

في (بحمدون) في لبنان، ثم مؤتمر (لجنة العمل للتعاون الإسلامي المسيحي)

في الإسكندرية عام ١٩٥٥م، ثم مؤتمر (لجنة مواصلة العمل للتعاون الإسلامي

المسيحي) في (بحمدون) عام ١٩٥٦م. ثم انطفأت تلك الجمعية المشبوهة أمام

رياح الريبة من الدوافع اليهودية والأمريكية وراءها.

- في عام ١٩٦٢م - ١٩٦٥م انعقد المجمع الفاتيكاني الثاني، لأساقفة الكنيسة

الكاثوليكية في حاضرة الفاتيكان؛ ليزيح عن النصارى عقيدة (لا خلاص خارج

الكنيسة) ، ويوسع مفهوم (الخلاص) ليشمل المسلمين، وينظر إليهم بتقدير،

ويحرضهم على نسيان الماضي، والعمل باجتهاد صادق في سبيل التفاهم، عن

طريق الحوار والتعاون، كما جاء في دساتير المجمع وبياناته، فكان ذلك إيذاناً

بانفتاح باب الحوار على مصراعيه، وانطلاق فعاليات التقارب من مؤتمرات،

وندوات، وتبادل زيارات، وافتتاح سفارات، على أوسع نطاق.

- في عام ١٩٦٤م أنشأ البابا «بولس السادس» (أمانة السر للعلاقات بغير

المسيحيين) ، تطورت في عام ١٩٨٩م إلى (المجمع البابوي للحوار بين الأديان) .

- في عام ١٩٦٩م حذا مجلس الكنائس العالمي حذو الكنيسة الكاثوليكية؛ إثر

مؤتمر (كرتينيه) قرب جنيف، ودعا إلى الحوار مع المسلمين على أصعدة متعددة.

- في عام ١٩٧١م أسس مجلس الكنائس العالمي (الوحدة الفرعية للحوار مع

معتنقي المعتقدات الحية والإيديولوجيات) ، ثم عقد العديد من المؤتمرات في آسيا

وإفريقيا والعالم العربي؛ في عقد السبعينيات الميلادية.

- في عام ١٩٦٨م انطلقت في الفلبين سلسلة من المؤتمرات في مناطق

المسلمين، رعتها جهات أكاديمية حتى منتصف السبعينيات، ثم تولتها الحكومة

الفلبينية بعد ذلك.

- في عام ١٩٦٩م شرع الشيخ حسن خالد (مفتي لبنان) في عقد مؤتمرات

(إسلامية مسيحية) محلية متتابعة، لكن أوقفتها الحرب الأهلية اللبنانية عام

١٩٧٥م.

- في عام ١٩٧٠م بدأت سلسلة من اللقاءات بين المجلس الأعلى للشؤون

الإسلامية في القاهرة، وأمانة السر الفاتيكانية للعلاقات بغير المسيحيين.

- في عام ١٩٧١م شرعت وزارة الشؤون الدينية في إندونيسيا بعقد مؤتمرات

متتابعة في أرجاء الجزر الإندونيسية، بلغت ثلاثة وعشرين مؤتمراً محلياً خلال

ست سنوات، روجت لفكرة وحدة الأديان إلى حد بناء مجمع للمعابد الدينية للأديان

المعترف بها في الحديقة الوطنية.

- في عام ١٩٧٤م بدأت في الهند لقاءات بين مسلمين ونصارى؛ بتنسيق من

مجلس أساقفة الهند الكاثوليك، ومعاهد تنصيرية، وأفراد من المسلمين، واستمرت

حتى التسعينيات.

- في عام ١٩٧٤م شرعت (جمعية الصداقة الإسلامية المسيحية في إسبانيا)

في عقد مؤتمراتها في قرطبة؛ حتى احتفلت عام ١٩٨٦م بمرور اثني عشر قرناً

على تأسيس الجامع الأموي.

- في عام ١٩٧٤م أقامت جماعة صوفية مؤلفة من أوروبيين ومغاربة،

تُسمى (فرقة الأبحاث الإسلامية المسيحية) ، وتنتمي إلى (دير سيننكا) في فرنسا

العديد من اللقاءات الروحية في عواصم أوروبية ومغربية.

- في عام ١٩٧٤م قام وفد مكون من تسعة علماء من المملكة العربية السعودية،

على رأسه وزير العدل الشيخ محمد بن علي الحركان بزيارة للفاتيكان، وبالتقاء

البابا «بولس السادس» ، وعقد ندوة عن حقوق الإنسان في الإسلام، سبقتها ندوة

في باريس، وتلتها ثلاث ندوات في كل من جنيف، وباريس ثانيةً، وستراسبورج،

وكان لها صدى واسعاً.

- في عام ١٩٧٦م انعقدت (ندوة الحوار الإسلامي المسيحي) في طرابلس

بليبيا؛ بتنظيم من الفاتيكان والحكومة الليبية، وبحضور كبير وتمثيل واسع من

مختلف الطوائف والشخصيات، وقد فاجأ الرئيس معمر القذافي شركاءه النصارى

بإلزامهم بالاعتراف بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار بتحريف كتبهم،

وإدانة إسرائيل؛ مما أدى إلى ولادة متعسرة للبيان الختامي، وقيام الكنيسة

الكاثوليكية بإعادة تقويم مسيرة الحوار.

- في حقبة السبعينيات الميلادية نشطت مؤتمرات الحوار الإسلامي النصراني

في أوروبا الغربية؛ برعاية كنسية، وصبغة صوفية. وفي عقد الثمانينيات اتخذت

منحى اجتماعياً؛ بفعل الهجرة المتزايدة لأوروبا من البلاد الإسلامية، ورعتها

مؤسسات اجتماعية وأكاديمية، ومع تنامي الوجود الإسلامي في أوروبا وتنظيمه في

التسعينيات؛ بادرت حكومات غربية إلى احتضان الحوار وتوجيهه، وكذلك الحال

في أمريكا الشمالية.

- في عام ١٩٧٩م سعى الرئيس المصري الراحل أنور السادات إثر اتفاقيات

(كامب ديفيد) مع اليهود إلى بناء (مجمع للأديان) في (وادي الراحة) في

صحراء سيناء، يضم (مسجداً، وكنيسة، وكنيساً) ، وإلى طباعة القرآن الكريم،

والتوراة، والإنجيل، في غلاف واحد.

- في عام ١٩٨٦م دعا البابا «يوحنا بولس الثاني» إلى صلاة مشتركة بين

أتباع مختلف الأديان في بلدة (إسيزي) الإيطالية، مسقط رأس القديس

«فرانسيس الإسيزي» ، وأمّهم البابا في دعاء جماعي، وقد أخذت جمعية

(سانت إيجيديو) التنصيرية الإيطالية على عاتقها تكرار هذه المناسبة، ولا تزال

إلى يومنا هذا.

- في عام ١٩٨٧م دعا المفكر الفرنسي «روجيه جارودي» المنسوب إلى

الإسلام إلى (الملتقى الإبراهيمي) في قرطبة، واتخذ من (القلعة الحرة) مقراً

لمؤسسته ومتحفه.

- نشأ في بعض البلدان العربية ذات التعددية الدينية كلبنان، والأردن،

وفلسطين، وتونس، والسودان جمعيات متخصصة، ومراكز للحوار الإسلامي

النصراني، أسسها جماعة من النصارى العرب، ومدت الجسور مع نظيراتها في

العالم الغربي، وعُنيت بنشر ثقافة التقريب، وعقد المؤتمرات، وإصدار

المطبوعات.

هذا غيض من فيض من حركة دائبة، واسعة الانتشار، متنوعة المناشط،

تجاوزت مؤتمراتها ثلاثمائة مؤتمر خلال أربعة عقود، تُعنى بها أكثر من مائة

جمعية ومركز في أركان الأرض الأربعة.

* بواعث الحوار:

ثمَّ بواعث متعددة تكمن خلف المبادرة النصرانية للدعوة إلى الحوار مع

المسلمين؛ منها:

أولاً: باعث الصد عن سبيل الله:

قال تعالى: [قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا

عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ] (آل عمران: ٩٩) ، وقال:

[وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ

وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] (آل عمران: ٧٢) .

لقد راع الكنائس الغربية في العصر الحديث انفتاح شعوبها على الإسلام،

واعتناق ألوف منهم إياه؛ بعدما أتيح لهم سماع كلمة الحق بشكل أفضل من ذي قبل

حين كانت الكنيسة تغذي رعاياها بمعلومات مغلوطة منفرة عن الإسلام، ونبيه

صلى الله عليه وسلم، وكتابه، وتاريخه، فحين انفتح الناس بعضهم على بعض؛

خطف بريق الإسلام أبصار الغربيين الذين تحرروا من هيمنة الكنيسة، واعتمدوا

التفكير المنطقي الحر، فرأت المراجع الكنسية أن لا جدوى من المجابهة؛ فهي

أضعف من أن تقف أمام متانة العقيدة الإسلامية، وإحكام شريعتها، بل إن التحدي

سيُكسب الإسلام مزيداً من الأنصار، ومن ثم تفتقت عقولهم عن فكرة (التقريب

والحوار) للظهور أمام مواطنيهم بمظهر التآلف لا الندّية، والوفاق لا المجابهة،

والحوار لا القطيعة؛ وبذلك يطفؤون روح التشوّف لدى رعاياهم، ويقرون في

قلوبهم أن الفروق بين الأديان فروق شكلية، وكلها تؤدي إلى الله، فلا حاجة إلى

تجشم عناء التغيير.

وقد أفصح عن هذا الباعث الخفي القس «أريا راجا» حين قال: «تواجه

الكنيسة اليوم واقعاً يتسم بالجدة؛ ففي الماضي كانت العلاقة بالأديان الأخرى تساعد

الكنيسة على إغناء ذاتها وتطوير إيمانها ... أما اليوم فقد تبدلت الأوضاع تماماً،

ومن المهم أن نشير إلى بعض خصائص هذه الحقبة من تاريخ البشرية:

أولاً: لقد تحررت الأديان الأخرى من وطأة الاستعمار، وهي تطرح نفسها

اليوم كبديل عن الإيمان المسيحي له شموليته، ولقد حدث في تلك الأديان ما يشبه

النهضة خلال السنوات الأخيرة، فظهرت فيه حيوية جديدة ...

ثانياً: لقد توغلت تلك الديانات إلى حد بعيد، حتى في الغرب المسيحي؛ مما

جعل من التعددية الدينية واقعاً في كل المجتمعات تقريباً، فعدد المسلمين في فرنسا

يفوق عدد المسيحيين المصلحين، ومسلمو بريطانيا أكثر من الميتوديين فيها ...

ثالثاً: وربما كان هذا هو الأهم، هناك وعي متزايد لغنى الأديان الأخرى ...

كان المسلمون في الماضي يُحسبون منافسين، أما اليوم فنشهد اهتماماً متزايداً في

مفهوم الإسلام للجماعة وللصلاة ... وبعبارة أخرى: فإنه لا العدائية اللاهوتية، ولا

اللامبالاة تجاه الأديان الأخرى مسموح بهما بعد اليوم، فالطرق التي انتهجها

المسيحيون قديماً في تعاملهم مع الأديان الأخرى لم تعد تكفي» [٤] .

ثانياً: الباعث التنصيري:

قال تعالى: [وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً

وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ] (البقرة: ١٣٥) ، لا ريب أن التنصير أو (البشارة)

كما يسمونه يحتل موقعاً مميزاً في الديانة النصرانية، وحين تبنى النصارى خيار

الحوار؛ لم يكن ذلك تخلياً منهم عن وظيفتهم العتيقة، ففي الدستور الرعوي

(الكنيسة في عالم اليوم) الصادر عن المجمع الفاتيكاني الثاني؛ جاء ما يلي: (تبدو

الكنيسة رمز هذه الإخوة التي تنتج الحوار الصادق وتشجعه، وذلك بفعل رسالتها

التي تهدف إلى إنارة المسكونة كلها بنور البشارة الإنجيلية) [٥] .

ولما رأى بعض النصارى في الحوار خيانة للبشارة، أصدرت الكنيسة

الكاثوليكية وثيقة بعنوان (حوار وبشارة) عام ١٩٩١م، جاء فيها: (إن المسيحين

وهم يعتمدون الحوار بروح منفتح مع أتباع التقاليد الدينية الأخرى؛ يستطيعون أن

يحثوهم سلمياً على التفكير في محتوى معتقدهم ... نظراً إلى هذا الهدف أي قيام

الجميع بارتداد أعمق إلى الله يكون للحوار بين الأديان قيمته الخاصة، وفي أثناء

هذا الارتداد قد يولد القرار بالتخلي عن موقف روحي أو ديني سابق لاعتناق آخر)

[٦] .

أما «مجلس الكنائس العالمي» فقد صرح في كتاب (توجيهات للحوار)

بالقول: (يمكننا بكل صدق أن نحسب الحوار كإحدى الوسائل التي من خلالها تتم

الشهادة ليسوع المسيح في أيامنا) [٧] .

ومن بين أربعين بحثاً قُدّمت في مؤتمر المنصرين البروتستانت لتنصير

المسلمين عام ١٩٧٨م؛ كان هناك بحث بعنوان: (الحوار بين النصارى

والمسلمين وصلته الوثيقة بالتنصير) ، ناقش «دانيل آر بروستر» فيه هذه

المسألة، وخلص إلى القول: (إذا شعرنا بأن شكلاً ما من أشكال الحوار يمكن أن

يكون مفيداً لكسب المسلمين؛ فعندئذ يكون مهماً أن نبدأ الآن في تخطيط كيفية القيام

بذلك) [٨] .

ثالثاً: الباعث السياسي:

قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً

وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ

الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ

وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ

اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا

وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ] (آل عمران:

١١٨-١٢٠) .

كان من أكبر الدوافع التي صاحبت انطلاق التقارب الإسلامي النصراني في

عقد الستينيات؛ طغيان المد الشيوعي الملحد على العالم، وتهاوي معاقل النصرانية

أمام الفكر المادي الكاسح، فرأى المعسكر الرأسمالي الغربي أن يدعم جبهة المتدينين،

ويوحد صفوفهم لكبح جماح الشيوعية.

لقد وُلدت الدعوة إلى التقارب وولدت معها تهمة (الباعث السياسي) ، فقد

قال مدير الأبحاث والنشر في (جمعية الأصدقاء الأميركان للشرق الأوسط)

«إريك ولدمار» بين يدي مؤتمر (القيم الروحية للديانتين المسيحية والإسلامية)

المنعقد في (بحمدون) في لبنان عام ١٩٥٤م: «إن غاية المؤتمر واضحة جلية،

وهي محاربة الإلحاد، والعمل على التقارب بين المسيحيين والمسلمين، وتوحيد

القوى ضد التيارات التي تحاول النيل من عقائد هاتين الديانتين» [٩] .

وأفصح أحد أعضاء المؤتمر بجلاء عن الباعث الحقيقي خلف تلك التظاهرة،

فقال: «إن العالم الحر اليوم أكثر من أي زمن آخر يحسب الحساب للتطورات

العالمية، وازدياد خطر الشيوعية، وإن الولايات المتحدة الأمريكية تنظر بعين

القلق إلى التطورات والأحداث الجارية في الشرق الأوسط، وترى من واجبها أن

تقوم بكل ما في وسعها، كقائدة للدول الخارجة عن الستار الحديدي الشيوعي،

للقضاء على الشيوعية التي أخذت تتفشى في الشرق الأوسط بشكل مريع» [١٠] .

ومن العجب أن المعسكر الشيوعي المقابل شهر الأداة نفسها في وجه خصمه

الرأسمالي، فقد رعى الاتحاد السوفييتي وبقية دول المنظومة الشيوعية مؤتمرات

مُسيَّسة للحوار الإسلامي النصراني؛ لمناقشة قضايا التسلح النووي، والاستعمار،

والتنديد بالسياسات الأمريكية، كان عرّابها بطريرك موسكو وسائر روسيا

الأرثوذكسي «بيمن» ، ومن الجانب الإسلامي مفتي سوريا الشيخ أحمد كفتارو.

كما أن الحكومات الغربية في عقد التسعينيات تبنت قضايا الحوار الإسلامي

النصراني لتتمكن من دمج المهاجرين المسلمين في بنية المجتمعات الغربية،

واتخاذهم ورقة ضغط على الحكومات الإسلامية لتقديم تسهيلات مماثلة؛ لتعزيز

نفوذ الأقليات النصرانية في البلدان الإسلامية، ومهاجمة مشروع الدول الإسلامية،

وتطبيق الشريعة.

* اتجاهات الحوار:

ثمَّ ثلاثة اتجاهات يجري الحوار الإسلامي النصراني المعاصر في مضمارها،

تنتظم هذا الكم من المؤتمرات والمنتديات، وتفصح عنها أدبيات ذلك الحوار

وبياناته الختامية؛ وهي:

أولاً: اتجاه التقريب:

وهو الاتجاه السائد، والمستمد من مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني، ويمثل

معظم المحاولات العالمية والإقليمية والمحلية التي يتواضع عليها المتحاورون.

وأبرز معالمه ما يلي:

١ - اعتقاد (إيمان) الطرف الآخر، وتسويغه، وإن لم يبلغ الإيمان التام

الذي يعتقده هو.

٢ - الاعتراف بقيم الآخر، واحترام عقائده وشعائره، وعدم تخطئته أو

تضليله أو تكفيره.

٣- تجنب البحث في المسائل العقدية الفاصلة؛ للحفاظ على استمرارية

الحوار.

٤- الدعوة إلى معرفة الآخر كما يريد أن يُعرف، ورفع الأحكام المسبقة.

٥- نبذ (التلفيقية) و (التوفيقية) ، واحتفاظ كل طرف بخصائصه.

٦ - تجنب دعوة الآخر، ومحاولة اجتذابه، وحسبان ذلك خيانة لأدب الحوار.

٧ - إبراز أوجه التشابه والاتفاق، وإقصاء أوجه التباين والافتراق.

٨ - الدعوة إلى نسيان الماضي التاريخي، والاعتذار عن أخطائه،

والتخلص من آثاره.

٩ - التعاون على تحقيق القيم المشتركة.

١٠ - تبادل التهاني والزيارات والمجاملات في المناسبات الدينية المختلفة.

ثانياً: اتجاه التوحيد:

وهو اتجاه يستصحب معظم الخصائص السابقة لدى دعاة التقريب، ويزيد

عليها ما يلي:

١ - اعتقاد صحة جميع المعتقدات، وصواب جميع صور العبادات.

٢- الاشتراك في صلوات وممارسات وطقوس مشتركة.

ويمثل هذا الاتجاه غلاة الصوفية قديماً، كابن عربي، وابن الفارض،

والحلاج، وحديثاً بعض المتمسلمين الأوروبيين مثل (روجيه جارودي) ،

و «فرقة الأبحاث الإسلامية المسيحية» ، المنبثقة عن دير سيننكا في فرنسا،

ومجمع «سوبود» في إندونيسيا، وفروعه في ثمانين دولة.

ثالثاً: اتجاه التلفيق:

وهو اتجاه يهدف إلى تشكيل دين جديد ملفق من أديان وملل شتى، ودعوة

الآخرين للانخلاع من أوضاعهم السابقة، واعتناق دين مهجن، ويمثل هذا الاتجاه

قديماً (البهائية) ، وحديثاً (المونية) التي يعتنقها أكثر من ثلاثة ملايين شخص في

العالم، وتعقد مؤتمرات للحوار باسم (المجلس العالمي للأديان) .

* الحوار المشروع:

لفظ (الحوار) مصطلح حادث، لا يحمل حقيقة شرعية يمكن الإحالة عليها،

بل ولا يحمل دلالة قانونية مستقرة تكشف عن أبعاد استعمالاته، يقول د / عبد

العزيز التويجري: (مفهوم الحوار في الفكر السياسي والثقافي المعاصر؛ من

المفاهيم الجديدة، حديثة العهد بالتداول، ولعل مما يدل على جدة هذا المفهوم

وحداثته أن جميع المواثيق والعهود الدولية التي صدرت في الخمسين سنة الأخيرة،

بعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة، تخلو من الإشارة إلى لفظ الحوار) [١١] .

ولهذا لم يبق سوى الدلالة اللغوية، فالحوار مادته (حور) و (الحور:

الرجوع عن الشيء إلى شيء ... والمحاورة: المجاوبة. والتحاور: التجاوب)

[١٢] ، قال الراغب: (والمحاورة والحوار: المرادة في الكلام، ومنه التحاور،

قال تعالى: [وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا] (المجادلة: ١)) [١٣] .

ولعل هذا هو السر في تحبيذ المشتغلين بالحوار لهذا اللفظ، وهو أنه لا يحمل

هدفاً مبيتاً، أو التزاماً مسبقاً بشيء يحرج الداعين إليه، والمنخرطين فيه.

وحيث (لا مشاحة في الاصطلاح) ؛ فلا بد من البيان الذي يرفع الإبهام،

والإيضاح الذي يزيل الالتباس، فنقول: إن الحوار الشرعي نوعان:

الأول: حوار الدعوة: وهو وظيفة المرسلين، وخلفائهم من العلماء الربانيين،

والدعاة الناصحين، وهو مشروع الأمة الإسلامية، وعنوان خيريتها على سائر

الأمم. ومضمون هذا الحوار هي (الكلمة السواء) التي دل عليها قوله تعالى:

[قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ

بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا

مُسْلِمُونَ] (آل عمران: ٦٤) ، وأسلوبه هو ما دل عليه عموم قوله تعالى:

[ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن]

(النحل: ١٢٥) ، وخصوص قوله: [وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ

أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ

وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ] (العنكبوت: ٤٦) ، وترجمته العملية سيرته صلى الله

عليه وسلم في دعوة أهل الكتاب؛ من يهود المدينة، ونصارى نجران،

ومكاتباته لملوك الأرض، ثم طريقة السابقين الأولين من الصحابة والتابعين

والسلف الصالح، كمحاورة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه للنجاشي

وبطارقته، وهدي الصحابة رضوان الله عليهم في معاملة أهل البلاد المفتوحة،

وأسلوب العلماء الراسخين في مخاطبة أهل الكتاب، ككتاب شيخ الإسلام ابن تيمية

إلى سرجوان (ملك قبرص) .

وأبرز خصائص هذا الحوار ما يلي:

١ - مبادأة أهل الكتاب بالدعوة الصريحة إلى الإسلام، وعدم الاشتغال بأمور

أخرى تصرف عن ذلك، أو توهنه، أو تؤجله.

٢ - مجادلتهم بالتي هي أحسن في القضايا العقدية الفاصلة، ومحاجتهم،

ومناظرتهم، لدحض شبهاتهم، ونقض حججهم، بأسلوب علمي رفيع، ثم مباهلتهم

إن لزم الأمر.

٣ - أخذ زمام المبادرة في دعوتهم، كما يدل عليه قوله: [تَعَالَوْا] (آل

عمران: ٦٤) ؛ باستضافتهم في دار المسلمين، واستقبال وفودهم، والكتابة إليهم،

وغشيانهم في محافلهم وبيوتهم لدعوتهم، وكل ذلك ثابت من هدي النبي صلى الله

عليه وسلم.

٤ - تألفهم بالقول الحسن، كمناداتهم بم يليق بهم من ألقاب حق، وتحيتهم

تحية مناسبة، كقوله صلى الله عليه وسلم: «إلى هرقل عظيم الروم، سلام على

من اتبع الهدى» ، وبالفعل الحسن، كعيادة مريضهم، وتمكينهم من الصلاة في

المسجد لعارض، وإكرام وفدهم، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: حوار السياسة الشرعية: وهو ما تفرضه حركة الأمة الإسلامية،

وتمليه طبيعة التعايش بين البشر؛ بحكم الجوار والمصالح المتبادلة.

وهذا النوع من الحوار والمفاوضات والمعاهدات يوكل إلى أولي الأمر، وأهل

الحل والعقد، وتضبطه القواعد العامة في الشريعة، وتقدير المصالح والمفاسد.

وقد رافق هذا اللون من (حوار التعايش) نشأة الدولة الإسلامية في المدينة،

حيث عقد النبي صلى الله عليه وسلم عهوداً مع يهود المدينة، وأبرم صلح الحديبية

مع كفار قريش، كما زخر الفقه الإسلامي المؤسس على فقه الكتاب والسنة بتراث

ضخم في مجال العلاقات الدولية بأهل الكتاب؛ ذميين كانوا، أو معاهدين، أو

مستأمنين، أو حربيين.

أما الحوار البدعي؛ فهو حوار المداهنة، والابتذال، والخضوع بالقول،

وكتم الحق، والسكوت عن الباطل، والموادة، والموالاة لغير المؤمنين؛ مما يقع

فيه كثير من محترفي الحوار المذموم اليوم.

ولا ريب أن في ديننا فسحة وسعة تنافي التقوقع والانكماش، وتمكن دعاة

الإسلام مستفيدين من التسهيلات الإعلامية الحديثة من التقدم إلى العالم أجمع

بخطاب متين يتضمن دعوة المرسلين إلى توحيد رب العالمين، [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ

رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف:

٩) .


(*) أستاذ العقيدة في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية فرع القصيم، من مؤلفاته كتاب: ... (دعوة التقريب بين الأديان دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية) في أربع مجلدات.
(١) رواه مسلم، رقم (١٧٧٤) .
(٢) رواه البخاري، رقم (٧) ، ومسلم، رقم (١٧٧٣) .
(٣) رواه مسلم، رقم (٢٨٩٨) .
(٤) الكتاب المقدس ومؤمنو الأديان الأخرى، ص: ٨١ - ٨٢.
(٥) المجمع الفاتيكاني الثاني، ص: ٣١٢.
(٦) حوار وبشارة، ص: ٢٥، ٣٠.
(٧) نقلاً عن: الكتاب المقدس ومؤمنو الأديان الأخرى، ص: ٧٠.
(٨) الإنجيل والإسلام، المترجم إلى العربية بعنوان: التنصير خطة لغزو العالم الإسلامي، ص ٧٧٧.
(٩) نقلاً عن: هرطقات فريسية، جورج حنا، ص: ٨.
(١٠) المرجع السابق، ص: ٩.
(١١) الحوار والتفاعل الحضاري من منظور إسلامي، ص ٧.
(١٢) لسان العرب، (٣/٣٨٣) .
(١٣) مفردات القرآن، (١٣٥) .