للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

تفعيل صراع الحضارات..

هل يبدأ من كشمير؟

عبد العزيز كامل

لم يكن (ريتشارد أرمتياج) نائب وزير الخارجية الأمريكي مبالغاً عندما قال

عن كشمير: «إنها أخطر منطقة في العالم» !

ولأسباب عديدة سنوافق نائب وزير الخارجية الأمريكي في وصفه المثير

للحالة في كشمير، لا بحكم قربه واطلاعه على مجريات الأحداث من موقعه

بوزارة خارجية العالم فقط، بل لعوامل أخرى أظهرتها أزمات السنوات والشهور

الأخيرة:

- منها: أنه لا يوجد صمام أمان للقوة النووية التي تتبادل التهديد بها الدولتان

النوويتان الناميتان الهند وباكستان اللتان دخلتا ثلاثة حروب في ثلاثة عقود لأسباب

دينية، وهما تستنفران الجيوش بين الحين والآخر لحرب رابعة شاملة من أجل

كشمير.

- ومنها: أن الهند تسيطر عليها حكومة (أصولية) هندوسية متطرفة،

تقترب في الشبه من الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية في الوقت الراهن، وتحوُّل

الهند التدريجي عن طابعها العلماني التقليدي تحت قيادة حزب (بهارتيا جاناتا) ؛

تحاول الهند إظهاره بفرض الحكم الهندوسي الوثني على شعب كشمير المسلم.

- ومنها: أن خيار الكشميريين الوحيد أصبح هو الجهاد، بكل ما أصبح

يعكسه الجهاد اليوم من أصداء الاستنفار العالمي، والتحالف الأممي لمواجهته.

- ومنها: أن الولايات المتحدة الأمريكية في حربها العالمية المعلنة على

الإسلام باسم (الحرب على الإرهاب) جعلت من كشمير منطقة من المناطق

الرئيسة المستهدفة استهدافاً أمريكياً مباشراً؛ لأنها تؤوي جماعات مجاهدة ضمتها

أمريكا إلى قائمة الجماعات (الإرهابية) في قائمة المنظمات الستين التي أعلنتها

بعد أحداث سبتمبر ٢٠٠١م.

- ومنها: أن أمريكا أضافت إلى خطر وجود المجاهدين في كشمير خطر

انتقال عناصر من تنظيم القاعدة وحركة طالبان بنشاطهم إلى هناك، بما أصبح

يعني أن مشكلة كشمير لم تعد تهم الهند فقط، بل أمريكا أيضاً، بحسب ادعاءات

رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي الذي صرح في الهند أن القاعدة انتقلت إلى كشمير.

- ومنها أخيراً ... أن باكستان التي قادها قادتها العلمانيون إلى أضعف

حالاتها السياسية والاقتصادية والعسكرية بعد تضحيتهم بأفغانستان؛ تنتظر دور أحد

الثيران السود في فصل جديد من الحرب الأمريكية النصرانية اليهودية ضد الإسلام؛

فباكستان التي فاجأت الغرب وإسرائيل بحيازتها للقنبلة النووية، تواجه اليوم

وضعاً صعباً يراد فيه أن يفرض عليها إما التخلي عن برنامجها النووي أو إخضاع

(القنبلة الإسلامية) لرقابة دولية يعني أمريكية أو تركها لمواجهة مصير يائس

بائس في حرب فاصلة مع جارتها العقور الهند التي ستظفر في كل الأحوال بدعم

وتأييد (العدالة) الغربية، في حين لن تصمت الصين على هيمنة أمريكا التدريجية

على شؤون آسيا.

هل يمكن أن تنطلق تلك المخاطر على العالم من كشمير؟ يحتاج الأمر أولاً

إلى استرجاع قصة تلك البقعة الملتهبة من العالم، كيف بدأت؟ كيف تطورت..

إلى أين وصلت؟

* بريطانيا.. أم المصائب!

كانت الهند إحدى المناطق التي بسطت عليها بريطانيا سيطرتها الاستعمارية

بعد البرتغاليين في القرن الثامن عشر الميلادي وقبل أن يرحل الاستعمار البريطاني

سنة ١٩٤٧م، لجأ كعادته إلى زرع بؤر للتوتر والنزاع التي يمكن توظيفها فيما بعد

بما يخدم المصالح الغربية، فقسمت بريطانيا القارة الهندية على أسس دينية بعد أن

أخضعتها لأطر حكم غربية، فوُلدت دولتان أعلنتا استقلالهما عام ١٩٤٨م وهما

دولة الهند الهندوسية التي قامت على معظم أرجاء القارة الهندية، ودولة باكستان

الإسلامية بقسميها الشرقي والغربي على الأطراف الشمالية للقارة الهندية، وكانت

بعض الإمارات الكبرى قد بقيت دون تحديد لمصيرها، وخُير حكامها بين الانضمام

للهند أو باكستان أو الاستقلال، ولكن الحكومة الهندية تجاهلت هذا التخيير فاحتلت

بالقوة العسكرية إمارة (جوناكره) غرب الهند، وإمارة (حيدر أباد) جنوب الهند،

وكان يحكمها أمراء مسلمون، وضمت أيضاً أكثرية إمارة كشمير في الشمال

الشرقي بأغلبيتها المسلمة التي تزيد على ٨٢% من السكان [١] ، وكانت بريطانيا قد

فرضت على إقليم كشمير حاكماً هندوسياً، فقرر الانضمام للهند ضارباً عرض

الحائط برغبة الشعب الكشميري في الانضمام لباكستان، ولم ترض الحكومة الهندية

أيضاً بمبدأ الاستفتاء الذي قررته الأمم المتحدة لتخيير الشعب الكشميري بين

الانضمام إلى إحدى الدولتين أو الاستقلال، وعندها لم يجد الشعب الكشميري بُداً

من الانتفاض على حكم الهندوس، وهبت لنصرته القبائل الإسلامية في باكستان،

وتوجت الانتفاضة بهزيمة الحاكم الهندوسي وإقامة حكومة كشمير الحرة المؤقتة في

٢٤ أكتوبر ١٩٤٧م.

غير أن حكومة بريطانيا قررت ضم كشمير إلى الهند مرة أخرى، واعدةً

شعبها بإعطائه حقه في تقرير مصيره بعد أن تهدأ الأحوال، ولكن الأحوال لم تهدأ

منذ أكثر من خمسين عاماً، فبعد أن نصبت الهند أحد شيوخ المنافقين المدعو

(محمد عبد الله) رئيساً لوزراء كشمير، ادّعى ذلك الرجل أن الشعب الكشميري كله

راغب في النزول تحت حكم الهندوس [٢] ، ولم يعد شعب كشمير واقعاً في محنة

مواجهة الهندوس المحتلين فقط، بل مضطراً كذلك لمواجهة فتنة أولياء الهندوس من

المنافقين، وبدأت بعض الحركات الشعبية تمارس حقها في الذود عن دينها وأرضها

المستباحة بدعم من الحكومات الباكستانية المتعاقبة، أما الهند أكبر ديمقراطيات

العالم كما يطلقون عليها؛ فقد أصرت على عدم تطبيق الحد الأدنى من مبادئ

الديمقراطية فيما يتعلق بشعب يريد الانعتاق من السبي «الحضاري» والخضوع

القهري لأمة تعبد البقر وتقدس الأفاعي والقرود.

كان الشعب الباكستاني دائماً في موقف التعاطف مع إخوانه المسلمين في

كشمير، راغباً في تخليصهم من أغلال الهندوس، وكانت المواقف الرسمية

للحكومات الباكستانية تعكس ذلك التعاطف من جهة، وتعكس من جهة أخرى

حرصاً سياسياً وعسكرياً باكستانياً على عدم تمكين الهند من تفتيت وحدة المسلمين

في القارة الهندية، والانفراد بالسيطرة على ذلك المثلث الاستراتيجي الواقع بين

باكستان والهند والصين، ولأجل هذه الأمور قامت ثلاث حروب بين الهند وباكستان:

* الحرب الأولى ... (تكريس التقسيم) :

وقد اندلعت هذه الحرب بين عامي ١٩٤٧ - ١٩٤٨م بسبب كشمير، فكلا

الدولتين الباكستانية والهندية رغبتا في أن يتم استقلال كل منهما مع ضم ولاية

كشمير، ولكن الحرب انتهت بتقسيم كشمير بين البلدين قسمة غير عادلة، فثبتت

الهند أقدامها على الجزء الأكبر والأهم من كشمير فيما يعرف بولايتي جامو وكشمير،

وأما باكستان فلم تتمكن في الحرب من بسط سلطتها إلا على منطقة (آزاد كشمير)

أو «كشمير الحرة» ، وبدأ الهندوس بممارسة حرب إبادة على المسلمين

الخاضعين لحكمها في القسم الثاني من كشمير، وأطلقت الحكومة يد المتطرفين

الهندوس للتنكيل بالمسلمين الرافضين لحكم الوثنيين، فقتل نحو مئتي ألف مسلم في

مذابح جماعية قامت في شهر أغسطس من عام ١٩٤٨م، مما اضطر مئات آلاف

آخرين للنزوح إلى القسم الباكستاني من كشمير، وتمت هذه النكبة في وقت كان

العالم العربي والإسلامي مكبوباً على مشكلة نكبة بريطانية أخرى في فلسطين،

حيث مكن الإنجليز لليهود في فلسطين بمثل ما مكنوا للهندوس في كشمير، وباسم

الشرعية الدولية الظالمة، استطاعت الهند أن تضفي نوعاً من الشرعية القانونية

على ثلثي كشمير تحت اسم الحكم المؤقت لولاية (جامو وكشمير) وعاصمتها

(سرينغار) بينما بقيت «كشمير الحرة» بعاصمتها (مظفر أباد) تحت حكم

باكستان، وتلكأ العالم في النظر إلى محنة المسلمين الواقعين تحت حكم الهندوس

لعقد زمني آخر مما أعاد اشتعال الأزمة مرة أخرى.

* الحرب الثانية ... (الحرمان من النصر) :

كانت الاضطرابات الطائفية قد ازدادت بسبب الهوس الهندوسي الشعبي

والرسمي؛ فعلى المستوى الشعبي استمرت المذابح وأعمال التهجير، وعلى

المستوى الرسمي أعلنت الهند إغلاق باب التسوية السلمية للمشكلة، وألغت الوضع

المؤقت للحالة الكشميرية التي كان ينتظر الاستفتاء، وتهيأت الأجواء لحرب جديدة،

بدأتها الهند في أول يناير عام ١٩٦٥م بهجوم على المواقع الباكستانية في أقصى

الشمال الغربي من كشمير، وتكرر الهجوم الهندي وتكرر صده من الباكستانيين، ثم

بادرت باكستان بهجوم كبير استطاعت خلاله الاستيلاء على مواقع هندية بدعم

أمريكي في مقابل الدعم الروسي للهند، وكان هذا أول ظهور لدور أمريكي راغب

في كسب موقع نفوذ في القارة الهندية، ولكن أمريكا والغرب كما يحدث اليوم لم

يكونوا راغبين في أن تتحول الباكستان إلى قوة بديلة بل كانوا يريدونها قوة عميلة،

فأوعزوا إلى مجلس الأمن بإصدار قرار بإيقاف الحرب وسحب باكستان لقواتها

فوراً، فاستغلت الهند القرار، وسارعت إلى شن هجوم مضاد، تمكنت خلاله من

قلب الموقف لصالحها. ولكن طرفاً آخر - وهو الصين - لم يرُق لها أن تستأسد

الهند في المنطقة وتستأثر بالمواقع الهامة فيها، فأصدرت إنذاراً للهند بإيقاف الحرب

وإلا تدخلت هي تدخلاً مباشراً فيها؛ حيث إنها لن تسمح للهند ببلع كشمير كلها

وهي تشرف على الحدود الصينية، وردت أمريكا بأن الصين لا يمكن أن تهاجم

الهند دون أن تتعرض للردع الأمريكي.

لقد أظهرت تلك الحرب التي فرضت الهند فيها شروطها ومواقفها، أن كشمير

ليست مجرد أرض نزاع على الحدود، بل إنها ساحة من ساحات الصراع المبكر

على الوجود بين الحضارات الخمس الأهم في عالم اليوم: الحضارة الإسلامية،

والحضارة الهندوسية، والحضارة الكونفوشيوسية الصينية، والحضارة الروسية،

إضافة إلى الحضارة الغربية الراغبة في إخضاع كل تلك الحضارات أو ضرب

بعضها ببعض بما لا يضر بمصالح الغرب. والواضح في تاريخ ذلك الصراع في

القارة الهندية أن الطرف الإسلامي هو المرشح دائماً للتضحية به أولاً؛ ويدل على

ذلك إجماع القوى الكبرى في العالم على تمرير مؤامرة تفكيك باكستان نفسها في

حرب ثالثة، حتى لا تتحول إلى قوة إقليمية مؤثرة في ذلك الجزء المهم من العالم.

* الحرب الثالثة ... (تشطير باكستان) :

بدأت تلك الحرب أيضاً بهجوم هندي على باكستان بهدف فصل قسمها الشرقي

عن قسمها الغربي، وخلال عمليات حربية خاطفة استمرت أسبوعين فقط، بدءاً

من ٢٣/١١/١٩٧١م استطاع الوثنيون الهندوس بدعم من الملحدين الروس وتواطؤ

من حزب المنافقين (فرع باكستان) من سلخ الجناح الشرقي لباكستان عن جناحها

الغربي تحت مسمى جديد وهو (بنجلاديش) ، حيث جندت الهند ميليشيات من

المنافقين في تحالف للشمال البنغالي، أعلن أنه يقاتل لأجل القومية المتميزة

للبنغاليين!! فكانوا شوكة في ظهر الجيش الباكستاني، وتمكن المنافقون الذين

أطلقوا على أنفسهم اسم (فدائيو بنجلاديش) من تمهيد الطريق أمام عباد البقر لغزو

باكستان الشرقية (بنجلاديش) ، فقطعوا خطوط السكة الحديد بين العاصمة دكا،

وبين الموانئ الرئيسية لقطع الإمداد، وباغتت القوات الهندية باكستان الشرقية بعد

ذلك بضربات جوية دمرت المطارات والطائرات وفرضت سيطرة جوية هندية على

الإقليم، مهدت بعد ذلك لإعلان الجنرال نيازي قائد القوات الباكستانية الشرقية قبول

الانسحاب والإقرار بالهزيمة، ولما طالب مجلس الأمن الهند بالانسحاب استخدم

الروس حق الفيتو! فخرس المجلس، وسُمح لحكومة المنافقين أن يؤتى بها من

المنفى لتتسلم السلطة بعد (الاستقلال) عن إخوانهم المسلمين، والتمتع بالهبات

والمساعدات الهندية والروسية والغربية التي رشحت (بنجلاديش) لأن تحتل

بجدارة لقب: أفقر دولة في العالم!!

فمنذ عهد (الشيخ) مجيب الرحمن وحتى عهد (الشيخة) حسينة، لم تر

بنجلاديش طعماً للكفاف والستر، فضلاً عن الرفاه والسعة، بفضل طاعة المنافقين

للذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وصدق العليم العظيم في قوله: [مَا يَوَدُّ

الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ]

(البقرة: ١٠٥) ، وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ

يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ]

(آل عمران: ١١٨) ، وقوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا

يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ] (آل عمران: ١٤٩) .

* احتمالات الحرب الرابعة:

نتساءل أولاً: هل اتعظ الساسة الباكستانيون بمواقف الدول الكافرة منهم في

الحروب السابقة؟ وهل كان درس (بنجلاديش) كافياً لاستيعاب خطورة التغاضي

عن دور الدود الناخر في الداخل على سلامة الداخل والخارج؟ الحقائق في باكستان

تثبت أن في ذلك البلد رجالاً عظماء أشداء أصحاب بأس ومراس وخبرة في مواجهة

الصعاب، غير أن فيها كما في كل البلدان غيرها أشباه رجال يفسدون ما يجنيه

الأخيار من ثمار، وعلى مثل هؤلاء يراهن الأعداء المرة بعد المرة. والقصة

واحدة يحكيها القرآن للأجيال حتى لا تتكرر المخادعة: [بَشِّرِ المُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ

عَذَاباً أَلِيماً * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العِزَّةَ

فَإِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً * وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا

وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ

جَامِعُ المُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً * الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ

مِّنَ اللَّهِ قَالُوا ألَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا ألَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم

مِّنَ المُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ

سَبِيلاً] (النساء: ١٣٨-١٤١) .

نقول وفق تلك الآيات: إن خوفنا على باكستان وشعبها المسلم، وقضيته

الكبرى في كشمير لا يأتي من طرف الهندوس وأنصارهم بقدر ما يأتي من طرف

النصارى وأوليائهم؛ فمشكلة كشمير لو خلصت النوايا الغربية يمكن أن تحل، حتى

في ظل ظلم «الشرعية» الدولية حلاً معقولاً؛ فبمقدور دول الغرب أن ترغم الهند

على قبول مبدأ الاستفتاء الشعبي الذي ترفضه منذ أكثر من نصف قرن، ولكنهم لا

يفعلون ذلك، فلا يفرضون على الهند عقوبات ولا يعرضونها لحصار أو ضربات،

لإصرارها على الخروج على شرعيتهم الدولية. بل يتركون تلك الدولة العنيدة كما

يفعلون مع (إسرائيل) لكي تفرض ما تريد وترفض ما لا تريد. والإشكال الأكبر

أن العلمانيين في بلاد المسلمين لا يريدون أن يفهموا هذه الحقيقة حقيقة: عداوة

الكفار للمسلمين، ولا يحبون أن يقول لهم أحد ما يقوله الله لكل أحد من المسلمين:

[إِنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُواًّ مُّبِيناً] (النساء: ١٠١) ، لهذا نخشى على باكستان

من غش النصارى وخبثهم، كما نخشى عليها من غشم العلمانيين وجهلهم؛ حيث

يتجه هؤلاء وأولئك بخطى منتظمة نحو توريط باكستان في حرب مدمرة قد تخسرها

الهند ولكن لن تكسبها باكستان في ظل سياستها العلمانية الراهنة، ولكن الفائز

الوحيد في تلك الحرب إذا جرت بحسب رغبة الغرب هم المبشرون بدمار العالم من

منظري (صراع الحضارات) ومنتظريه؛ حيث يذوب هؤلاء شوقاً إلى تفعيل هذا

الصراع على أرض الواقع، وبخاصة عندما يُحشر المسلمون في المواقع الأمامية

منه.

ورغم خفوت دقات طبول الحرب بين البلدين بعد الأزمة الأخيرة، إلا أن

إلقاء نظرة على تطورات مواقف الأطراف في الظروف الراهنة يعطي انطباعاً بأن

قضية كشمير يراد توظيفها في العديد من الأهداف، للعديد من الأطراف، وذلك

على الوجه الآتي:

* أولاً: باكستان:

يخطئ برويز مشرف مرة أخرى، عندما يظن أنه سيحيد الدور الأمريكي في

صراع باكستان مع الهند بتصديه للعمل الجهادي الكشميري وتقييد أنشطته؛ فمثلما

دفعت باكستان ثمناً باهظاً ولا تزال بسبب تضحيتها بأفغانستان؛ فإنها سوف تدفع

ثمناً أفدح لو ضحى ساستها العلمانيون بكشمير.

لقد كان عدد المعسكرات الكشميرية في باكستان قبل حرب أفغانستان خمسين

معسكراً، وكان في أفغانستان نفسها ثلاثون معسكراً، ولكن الأمر تغير بعد هذه

الحرب بسبب الدور الأمريكي الباكستاني المشترك في الحرب ضد «الإرهاب» ؛

فقد قلب برويز مشرف قواعد الموقف الباكستاني التاريخي من قضية كشمير،

بطريقة قد تكون خطراً على باكستان نفسها لا على كشمير فقط؛ فقد أفرط ذلك

المشبوه (برويز مشرف) منذ جاء في إرضاء الغرب على حساب المسلمين، حتى

كان الحق الذي شهد به الأعادي له، هو أنه يحقق بالفعل كل ما يتمناه أعداء هذه

الأمة. وقد عبر أحد الشهود وهو اليهودي اللدود هنري كيسنجر، وزير الخارجية

الأمريكي الأسبق عن ارتياح كبير لما يقوم به «مشرف» بما لم يُشهد به لأحد

آخر من الساسة والزعماء في بلاد المسلمين؛ فقد قال في مقال في صحيفة لوس

أنجلوس في منتصف شهر يونيو ٢٠٠٢م: «كان مشرف حليفاً قوياً في الحرب

ضد الأصولية في أفغانستان، بل وضد الأصولية الإسلامية كلها منذ ١١ سبتمبر» !

ولهذا أبدى حرصه الشديد على المحافظة عليه، مغلفاً ذلك الحرص بالخوف على

مستقبل باكستان من انتقال (الإرهاب) إليها فقال: «على واشنطن أن تمنع

سقوط نظام مشرف؛ لأن بن لادن خطر في كابل، ولكنه كارثة في إسلام آباد» ! ... هل سيقوم برويز مشرف في كشمير بما قام في أفغانستان إذا قررت أمريكا بدء

جولة من حملتها الإجرامية إلى هناك؟ وهل سيملك من الشجاعة أن يقول لها (لا)

إذا وضعته أمام معادلة الجور: (من لم يكن معنا فهو ضدنا) ؟

بوسع مشرف لو أراد موقفاً مشرفاً أن يترك الكشميريين يقومون بدور

المقاومة المشروعة للمحتل الهندي دون أن يتدخل هو سلباً أو إيجاباً ممارساً سياسة

سيادية لا تقبل بالتبعية لأحد، ولكن تجربة أفغانستان دلت على أن الرجل لم يتنازل

عن سيادة بلده فقط بفتحها أمام الأجنبي بل تنازل بالنيابة عن سيادة أفغانستان عندما

شارك ضدها في عملية من أقذر عمليات الانقلاب في التاريخ المعاصر.

قد يقال إن مشرف معذور؛ لأنه يلمس بنفسه حرص الهند وأمريكا والغرب

وإسرائيل على إبطال مفعول ما يسمى بـ (القنبلة الإسلامية) في باكستان، ونقول:

إن السياسة المراهنة الراهنة لحكومة باكستان على كسب أمريكا تمثل أسرع

الخطوات للوصول إلى ذلك الهدف الخبيث المذكور؛ لأنها مساهمة تدريجية في

تقليم أظافر باكستان في مواجهة أعدائها القدامى والجدد، وحرمانها من كل أوراق

القوة في يدها، وهو الخط نفسه الذي سار فيه ياسر عرفات عندما تفرغ سبع

سنوات في ظل أوسلو لإضعاف المقاومة الإسلامية، فأوصل فلسطين إلى ما

أوصلها إليه الآن من انكشاف خطير أمام العدو اليهودي.

* ثانياً: الهند:

يسير حزب (بهارتيا) «الأصولي» الهندوسي، نحو تحويل الهند عن

طابعها العلماني المعهود؛ فسياسات هذا الحزب أشبه بسياسات حزب الليكود

الإسرائيلي في عنصريته وأسطوريته وسياساته الخرقاء، وأهدافه التسلطية

التوسعية في إنشاء دولة الهندوس الكبرى، لا تقل خطراً عن مشروع (إسرائيل

الكبرى) الذي يتبناه بقوة حزب الليكود الإسرائيلي؛ فللهندوس أطماع في الهيمنة

على ما يحيط بالقارة الهندية من سنغافورة إلى قناة السويس، ولكن بما أن الزمان لم

يعد صالحاً لتأويل هذه الأحلام في دنيا الواقع، فقد يكتفي الهندوس بحلم تحقيق

السيادة المطلقة على مجموع القارة الهندية بتخومها الشمالية الواسعة، ولكن عقبة

السلاح النووي الباكستاني تؤرق تلك الأحلام، ولهذا تسير الهند في تحالفات جادة

مع كل شياطين الأرض، من أجل إخضاع باكستان إلى الأبد، فإلى جانب

انتهازيتها في استثمار الحرب الأمريكية على الإسلام لصالحها، تنشط الهند في

تنسيق دؤوب للجهد بينها وبين دولة اليهود؛ فهناك اجتماعات دورية كل ستة أشهر

ذات أغراض أمنية عسكرية تقام بين الدولتين الأكثر تمرداً في العالم على القانون

الدولي: الهند و «إسرائيل» مع أن العلاقة بينهما لم يرفع عنها الحظر العلني إلا

بعد سماح العرب للهند بإقامة مثل تلك العلاقات الرسمية بعد مؤتمر مدريد، ومعلوم

أن اليهود، ليسوا أقل حرصاً من الهنود على تدمير القوة النووية الباكستانية، بل

لقد تسربت أنباء إبان تجربة التفجير النووي الباكستاني بأن «إسرائيل» كانت

على وشك ضرب المفاعل النووي الباكستاني بصواريخ عابرة للقارات، على غرار

ما فعلت في ضرب مفاعل (تموز) النووي العراقي، قبل قيام حرب الخليج الثانية

بعقد كامل.

نتصور أن الهند لن تفوِّت فرصة الحرب العالمية الأمريكية ضد الإسلام

لإشعال حرب ولو تقليدية محدودة مع باكستان، لأهداف عديدة، منها:

أولاً: ضرب الوجود الجهادي الإسلامي في كشمير كجزء من المشاركة

بالأصالة في تلك الحرب الأمريكية المعلنة، والساسة الهنود يكررون هنا مقولة:

نحن نتعرض لما تعرضت له أمريكا وتتعرض له (إسرائيل) ، وهم يؤكدون أن

كشمير فيها ما لا يقل عن ثلاثة آلاف مقاتل إسلامي، ولا يكفون أيضاً عن اتهام

باكستان بأنها الدولة الأم الداعمة للإرهاب؛ لأنها بزعمهم هي التي صنعت طالبان

التي دعمت القاعدة التي تهدد العالم «الحر» !! وهذه معادلة يسهل إقناع المجتمع

الدولي المقتنع أصلاً بها، وهو سوف «يتفهم» أي محاولة أو حتى أي حرب تقوم

بها الهند لهذا الغرض بشرط ألا تكون تلك الحرب معرقلة لخطط أمريكا في

أفغانستان في الوقت الراهن.

والهدف الثاني: من الحرب الرابعة المحدودة إذا وقعت؛ هو إيجاد أجواء

دولية ضاغطة على باكستان تجبرها إما على تدمير سلاحها النووي الذي هددت به

دولة الهند (المسالمة جداً) ، وإما تجيير هذا السلاح لغير صالح المسلمين، كأن

تخترع له (الشرعية الدولية) إحدى الصيغ الشيطانية لوضعه تحت سيطرة

«العقلاء» الغربيين! والهندوس ومعهم الأمريكان، يوهمون العالم بأن

السلاح النووي الباكستاني قد يقع تحت سيطرة «الخطر الأصولي» . ويريدون

من ذلك العالم أن يكون ممتناً لهم بإراحته من ذلك الخطر النووي الإسلامي.

والهدف الثالث: من حرص الهند على إشعال تلك الحرب الرابعة المحدودة

هو إجبار باكستان على اتخاذ موقف أكثر تنازلاً وتخاذلاً تجاه المسلمين في كشمير،

عن طريق إشعار المجتمع الدولي بأن هذه البقعة من العالم لا تستحق من باكستان

أن تتمسك بها إلى ذلك الحد، في حال كونها تمثل أكثر نقاط العالم التهاباً.

إن حشد ما يبلغ من ١.٧ مليون جندي على الحدود بين الهند وباكستان في

الأزمة الأخيرة، لم يكن مجرد مناورة لتوازن الرعب بين البلدين، بل كان رسالة

واضحة للعالم تبين ما يمكن أن تؤول إليه الأمور لو اتخذ قرار الحرب الشاملة

بالفعل؛ فمثل هذا العدد لم يحشر في معركة منذ الحرب العالمية الثانية، مع أن تلك

المعركة لم تقم؛ فماذا لو قامت بالفعل وتطورت إلى أبعاد أخطر؟!

الهند مع كل هذا لا تريد حرباً شاملة مع باكستان في ظل التوازن النووي؛

لأنها تدرك أن خسارتها قد تخرج عن نطاق التحمل، ولكن غرور الكبر والسيطرة

قد يقنعها بأنها قادرة على إدارة عمليات (سريعة وقصيرة وفعالة) في كشمير كتلك

العمليات التي أرادتها أمريكا في أفغانستان، ولكن بما أن عمليات أمريكا في

أفغانستان لم تكن سريعة ولا قصيرة ولا فعالة، فإننا نتصور أن معركة الهندوس مع

الموحدين لن تكون أسعد حظاً؛ ففي كشمير ١٢ جماعة مسلحة تقاتل من أجل إنهاء

الاحتلال الوثني للبلاد، وقد سقط في قتالها الذي بدأ منذ عام ١٩٨٩م نحو ٣٣ ألف

شخص في حرب غير نظامية على أراض وعرة وجبال شاهقة، ومغامرات

التحالف المشترك بين عباد البقر ورعاة البقر لن تجد بإذن الله في كشمير إلا كما

وجد الروس في أفغانستان والشيشان، وكما وجد الأمريكان في أفغانستان، وكما

وجد اليهود في فلسطين.

* ثالثاً: أمريكا:

مراهنة الأمريكيين على باكستان في رعاية المصالح الأمريكية في القارة

الهندية وما حولها لن تدوم طويلاً رغم تمحكات برويز مشرف، فمحور الشر

الغربي قد بدأ في تشكيل ملامح محور الشر الشرقي، والهندوس هم أحد دعائم ذلك

المحور إلى جانب اليهود في فلسطين.

لقد استفادت أمريكا من باكستان كثيراً، قبل أحداث أفغانستان وأثناءها وبعدها،

ولكن فرص المزيد من الاستفادة ستتلاشى في ظل التحالف الهندي اليهودي

الأمريكي؛ لأن الهند تعرض نفسها أمام أمريكا بديلاً لباكستان، وقد بدأ عرض

الخدمات الهندوسية على الأمريكيين في وقت مبكر؛ فبعد أحداث سبتمبر بثلاثة أيام،

بعث رئيس الوزراء الهندي (فاجبايي) رسالة إلى الرئيس الأمريكي بوش،

يعلن فيها وقوفه إلى جانب أمريكا فيما هي مقدمة عليه من حرب شاملة على

(الإرهاب) ، وكانت هذه المبادرة أسبق من مبادرة «مشرف» ، وعند زيارته للهند

في شهر يونيو ٢٠٠٢م، أبدى وزير الدفاع الأمريكي تعاطفه مع الهند لوقوعها

«ضحية» للأعمال الإرهابية، واقترح نشر قوات برية أمريكية على حدود الهند

مع باكستان، ولكن أمريكا التي تريد كسب الهند لا تريد أيضاً أن تخسر باكستان

الآن قبل أن تنتهي عملياتها في أفغانستان وهي لا تزال تنتظر من نظام

«مشرف» المزيد والمزيد، ليس مجرد زيادة المطاردة المخابراتية والعسكرية

للمجاهدين داخل باكستان وخارجها، ولكن المطلوب فوق ذلك أن يبذل برويز جهوداً

أكبر في تحويل باكستان إلى دولة علمانية شبيهة بالنظام في تركيا تمهيداً لمجيء

أتاتورك أو كرزاي باكستاني آخر إذا لم يستوف برويز الشروط لذلك.

أمريكا التي أخفقت إخفاقاً ذريعاً في حملتها الصليبية على أفغانستان تريد أن

ترى أي انتصار آخر، ولو من أي طرف آخر على الإسلاميين المجاهدين في أي

مكان آخر، ولهذا فهي تبارك خطوات إسرائيل، وتثمن جهود الهند، وتدعم جهود

المنافقين في الخافقين ضد الصادقين؛ ولكن أمريكا تركز في الفترة الأخيرة على

كشمير، ويرى مفكروها وساستها أن الصبر لا ينبغي أن يطول على بقاء المقاومة

هناك ضد الاحتلال حتى لا تولد هناك طالبان أخرى؛ فقد قالت صحيفة الواشنطن

بوست في افتتاحيتها في (٢١/٢/٢٠٠٢م) : «الخطوة القادمة في الحرب على

الإرهاب يجب أن تكون في كشمير لمواجهة جماعات الإرهاب هناك» ، وأردفت

تقول: «مارست الهند ضبط النفس بصورة تدعو إلى الإعجاب، وينبغي ألا

يحظر عليها أحد ممارسة حق الدفاع عن النفس كما تفعل أمريكا وإسرائيل» !

استقراء مثل هذه الدعوات والتصريحات يظهر أن هناك أمراً يبيت بليل ضد

باكستان وكشمير، مثل ذلك الذي يدبر للعرب وفلسطين، والظاهر أن التيار

اليميني الصهيوني النصراني المسيطر على أمريكا اليوم، يريد أن يجهز مسرح

العالم للفصل الأول من غوائية «صمويل هنتنجتون» صدام الحضارات، التي

ظن الناس أنها مجرد «نظرية» فاكتشفوا بعد أحداث سبتمبر أنها برنامج عملي

مرحلي رهيب، يريد أن يصدم سكان الأرض بعضهم ببعض، لتحقيق أكبر عملية

«تحديد للنسل» على مستوى العالم، لتجهيز ذلك العالم للربع الأول من «الألف

السعيد» !! ولكن عزاءنا ما يقول ربنا جل من قائل: [إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ

كَيْداً * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً] (الطارق: ١٥-١٧) .


(١) يبلغ عدد سكان كشمير اليوم نحو ستة ملايين نسمة.
(٢) يذكرنا هذا الموقف بالموقف السيئ لظفر الدين خان الذي لا يكف عن مهاجمة باكستان لصالح الهند، بدعوى أن كشمير أرض هندية، ويذكرنا ذلك بموقف أسوأ، وهو موقف أتاتورك أفغانستان الجديد: حامد كرزاي الذي ادعى في ختام مسرحية تنصيبه رئيساً لأفغانستان أن الشعب الأفغاني كله راغب في بقاء القوات الأمريكية في أفغانستان، حتى بعد القضاء على (الإرهاب) ! .