للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

أدب وتاريخ

[الحلم]

للشاعر: معن بن أوس المزني [*]

١- وذي رَحِم قلَّمتُ أظفار ضِغْنِه ... بحلمىَ عنه، وهو ليس له حِلم

٢- يحاول رَغْمي لا يُحاولُ غيره ... وكالموت عندي أن يَحُلَ به الرَّغْمُ

٣- فإن أعفُ عنه أُغض عيناً على قَذىً ... وليس له بالصَّفْح عن ذنبه علمُ

٤- وإن أنتصر منه أكُن مثل رائشٍ ... سهامَ عدوٍّ يُستهاضُ بها العظمُ

٥- صبرتُ على ما كان بيني وبينه ... وما تستوي حرب الأقاربِ والسِّلمُ

٦- وبادرتُ منه النأيَ والمرءُ قادرٌ ... على سهمه ما كان في كفه السهم

٧- ويشتم عِرضي في المغيب جاهداً ... وليسَ له عندي هَوَانٌ ولا شتم

٨- إذا سُمتُه وَصلَ القرابة سامنى ... قطيعتَها، تلك السفاهةُ والإثمُ

٩- وإن أدعه للنِّصف يَأبَ إجابتي ... ويَدعو لحكم جائرٍ غيرهُ الحُكم

شرح الأبيات [**]

١ - رب صاحب قرابة كان ذا ضغينة وحقد عليً، أزلت أضغانه بحلمي

وصبري، مع أنه ليس عنده حلم وإنما هو غضوب نفور.

٢ - ومن صفاته أنه يحب قهري وإنزال الأذى بي، وقد وقف جهده على هذا، في حين أنني أكره مساءته ونزول أي أذى به كراهيتي للموت.

٣ - وأنا في حيرة من أمري معه، فإنني إن أصبر على أذاه وأعف عنه،

أتحمل مشقة عظيمة بذلك، وهو لا يدري المعاناة التي أعانيها بالصفح عن ذنبه،

وليس يدري حتى بالصفح نفسه.

٤ - ويؤلمني أن أقابل إساءته بمثلها أشد الألم، إذ أنني سأكون كمن يجهز

السهام لعدوه ليرمي بها من جهزها.

٥ - لكن فضلت الأولى وهي الصبر على ما بدر منه تجاهي، لأنني وجدت

أن حرب الأقارب مر الأثر، ففضلت مسالمتهم.

٦ - ووصلته بعد أن نأى وتباعد عني، مع أنني قادر على قطيعته.

٧ - وفعلت ذلك مع جده واجتهاده في شتم عرض وأنا غائب، في حين لم

يخب مني ما يسوءه من شتم ولا إهانة.

٨ - وإذا ما عرضت عليه التواصل وترك التقاطع والتدابر بحق القرابة

والرحم كان جوابه القطيعة، فياللسفاهة، وياما أشد جراءته وحرصه على كسب

الإثم.

٩ - وإن دعوته للإنصاف، وأن يحل كل منا صاحبه يرفض هذه الدعوة،

ويختار الاستمرار في الغي والجور عن القصد.

١٠- فلولا اتقاءُ الله والرَّحم التي ... رعايتها حقٌّ وتعطيلها ظلم

١١- إذاً لعلاه بارقي وخَطَمتُهُ ... بوسْمِ شَنَارٍ لا يشابهه وسم

١٢- ويسعى إذا أبني ليهدمَ صَالِحي ... وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم

١٣- يودُّ لو أتِّي مُعدِمٌ ذو خصاصة ... وأكرهُ-جهدي-أن يخالطه العدم

١٤-ويعتدُّ غنماً في الحوادث نكبتي ... وما إن له فيها سَناءٌ ولا غُنم

١٥- فما زلتُ في ليني له وتعطفي ... عليه كما تحنو على الوَلَدِ الأمُّ

١٦- وخفضي له مني الجناح تألفاً ... لتدنيهُ مني القرابةُ والرَّحمُ

١٧- وصبري على أشياء منه تريبني ... وكظمي على غيظي، وقد ينفع الكظمُ

١٨- لأستلَّ منه الضِّغنَ حتى استللتُه ... وقد كان ذا ضِغن يضيق به الحزم

١٩- رأيتُ انثلاماً بيننا فرقَعتُه ... برفقي أحياناً، وقد يرقع الثَّلمُ

٢٠- وأبرأت غِلَّ الصدر منه توسُّعاً ... بحلمي كما يشفى بالأدوية الكلمُ

٢١- فأطفأت نار الحرب بيني وبينه ... فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلمُ

١٠-١١- فلولا تقوى الله، والخوف من قطع الرحم التي أوجب الله وصلها،

وعدَّه - سبحانه - ظلماً وأي ظلم؛ لناجزته العداوة، ولعلوته بالسيف، وللحقه مني

عار دائم لا يفارقه.

١٢ - إنه يصر على هدم ما أبنيه، وإفساد ما أصلحه، وشتان ما بين بان

وهادم ومصلح ومفسد.

١٣ -وأنا وإياه على خطتين مختلفتين: فبينما هو يتمنى لي الخصاصة

ويحب لي الفقر، فإنني أكره له ذلك وأعمل جهدي على تجنيبه ما يضر به.

١٤ - لقد أعمى الحقد بصيرته، وقلب بغضه لي الموازين في نظره، حتى

أصبح يعد ما يصيبني من نكبات ومصائب مغنماً له، وزيادة في ربحه، مع أنه في

الحقيقة لا تعود مصائبي عليه برفعة قدر، أو بمنفعة مادية.

١٥ - ولم أمل من مداراته وملاينته، كما تفعل الأم الرؤوم في حنوها على

ولدها.

١٦ - ولقد بلغت معه الغاية في التواضع وخفض الجناح، أتألف قلبه ليتذكر

القرابة التي تربط بيننا والرحم التي تجمعنا.

١٧ - وصبرت على أفعاله المريبة، وكظمت غيظي على ما يثيرني من

تصرفاته الغريبة، لاعتقادي أن نتيجة كظم الغيظ محمودة في النهاية.

١٨ - كل هذا فعلته من أجل أن أداوي مرضه، وأستل منه حقده، وأروض

نفسه الشموس التي امتلأت حتى ضاقت بهذا الضِّغن.

١٩ - وكانت علاقتنا مثلومة معيبة، فعالجت هذا الثلم بترفقي وحكمتي،

والفساد قد يصلح، والخرق قد يرقع.

٢٠ - وكان مريض الصدر بالغل فداويت هذا الغل بحلمي كما يداوى الجرح

بالأدوية فيشفى.

٢١ - لقد كان بيني وبينه حرب مشتعلة، فما زلت أداريه، وأترفق به،

حتى حولته عن تلك العداوة، وأطفأت تلك النار، وصار لنا سلماً بعد أن كان حرباً.

حول القصيدة

هل عانيت العناء من جراء سلوك أحد أقربائك، وهل آلمك أن يقابل معروفك

بالتجاهل، وإحسانك بالإساءة، وهل صبرت على علاج من هذه حاله، ومنيت

نفسك بتغيره حيث كل الدلائل تشير إلى العكس، وهل جوبهت بالصد والسَّفهِ

وصنوف الجحود وأنت كاظم صامت، تعتمل في داخلك براكين الغضب المكتوم،

تجللها بسمة رضيَّة، ومرةً إثر مرة تواترت الإساءات، وتتابعت الإثارات، وأنت

في كل ذلك كأنك محتبس في زنزانة ضيقة، وأفعى ذات فحيح ليس لك منها فكاك،

ولا عنها مهرب، ومازلت تداورها في حسن تأتٍ وصبرٍ حتى استللت سُمُّها،

وخضدت شوكتها، فأسلست قيادها بعد طول نفار.

إذا كان لك عهد بهذه التجربة، أو سمعت من اشتكى مما يشبهها؛ فإن الشاعر

«معن بن أوس المزني» خلّد لنا ذلك في هذه القصيدة.

وقد امتازت هذه القصيدة بثلاث ميزات.

١ - سهولة وبساطة، في جزالة وقوة أسر:

وهذه معادلة صعبة المرتقى، إذا تحققت في أسلوب شخص فقد حقق البقاء له، وأن تتسع مساحة الإعجاب به إلى مدى لا يرام.

فقد يظن بعض الناس أن السهولة تعني الضحالة، وأن الجزالة تعني الجفاء

والوعورة، وهذا ظن خاطئ تدحضه هذه القصيدة، فعلى الرغم من أنها من عصر

متقدم، (إذ أن قائلها شاعر مخضرم) إلا إنها -فى سهولتها وانسياب ألفاظها - تدخل

العقل والنفس دونما عناء، وتثبت لنا أن في أدبنا القديم نصوصاً خالدة محجوبة عنا

بغبار ما يثيره أعداء هذا الأدب، وخصوم هذه اللغة من أضاليل ودعاوى الصعوبة

والخشونة، ويكفي دليلاً على هذا أن تقراً هذه القصيدة بهدوء وروية، فتجد أنها

تتسلل إلى الوجدان رويداً رويداً، وتتابع ألفاظها وجملها رخية ندية، راسمة بدقة

حدود شخصيتين مختلفتين أشد الاختلاف، متباينتي السلوك والطبع أبعد التباين،

دون إسفاف وهبوط حين تصف الشخصية السيئة، ودون إسراف في الفخر،

وإمعان في الخيلاء، حين تصف قائلها.

٢ - صدق في التعبير، وسمو في المقصد:

فالشاعر مر بتجربة شخصية، صورها أصدق تصوير، واستهدف من وراء

ذلك إبراز محاسن الحلم وكظم الغيظ ومداراة ذوي الأرحام والرفق بهم، والتنفير

من الحمق والقطيعة، والرد على الإساءة بمثلها، والانتصار للنفس، كل ذلك

بعبارة نظيفة عالية، تتناسب مع هذا المقصد النبيل، بعيداً عن أسلوب الوعظ

المباشر الذي تستثقله النفوس، وتمله القلوب.

٣- حكمة وعمق في تصوير النفس الإنسانية:

ها هو ذا الشاعر يبدو وكأنه يبوح لأحد جلسائه بتجربته، مضطجعاً في كِسر [١] بيته، هادئ النفس، مطمئن السريرة، لم يحجب الغضب بصيرته ط لباً للثأر، مقدماً بكلمة (ذي رحم) لتكون بمثابة «الحيثية» التي بنى عليها سلوكه الآتي، حتى لا يقال له - وقد أكثر من تصبره وتذلله إزاء هذا الذي لا يستحق كل ذلك -:

لقد أتعبت نفسك، وألزمتها ما لا يلزم؛ فإن الرحم تستحق ذلك وأكثر منه، (ويبدو أن الشاعر قد قال قصيدته في الإسلام، وهذا ظاهر من تأثره بقوله تعالى: [واتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحَامَ] في قوله: ولولا اتقاء ... الرحم ... ) .

ويستمر في تصوير الأخلاق المتقابلة في هاتين النفسين المتباعدتين. حلم

وطيش، وحرص على الإغاظة وبعد عنها، ومعاناة عند العفو وتجاهل له،

واقتراب من هذا، وابتعاد من ذاك، وشتم مقذع بظهر الغيب وتنزه عنه في كل

حال، وصلة للرحم وقطيعة لها، وهدم يقابله بناء، وحرص على نزول المكروه

بشخص يحرص على حب الخير ... الخ، في عمق وحكمة تتوالى إلى آخر

القصيدة، في موجات متساوية متراخية، يذوب في خلال حروف المد فيها،

وفى ثنايا «أسباب وأوتاد البحر الطويل» توتر نفس الشاعر وغيظه المكبوت، إلا موجة واحدة تعلو عن أخواتها، حاملة لنا قدراً وافراً من شحنة الغضب والضيق والتبرم التي لا يمنعها من الانفجار إلا تقوى الله الذي حض على صلة الأرحام والصبر على أذاهم، وحذر من قطيعتهم، وهي هذان البيتان:

١٠- فلولا اتقاءُ الله والرَّحم التي رعايتها حقٌّ وتعطيلها ظلم

١١- إذاً لعلاه بارقي وخَطَمتُهُ بوسْمِ شَنَارٍ لا يشابهه وسم ثم تعود الموجات إلى هدوئها واستقرارها.

وبين البداية:

وذي رحم قلّمت أظفار ضغنه ... بحلمي عنه وهو ليس له حلم

والخاتمة:

فأطفأت نار الحرب بيني وبينه ... فأصبح بعد الحرب وهو لنا سلم

تنتظم روح شعرية واحدة، استلهمت البساطة والبعد عن التعقيد للتعبير عن

نوازع النفس الإنسانية وأهوائها المتناقضة في بناء شامخ وصلب، فالتحم البدء

والختام.

لكل هذا لا نستغرب إعجاب عبد الملك بن مروان بمعن بن أوس، حيث عدّه

- بهذه القصيدة - أشعر الناس، عندما سأل في ليلة كان يسمر فيها مع ولده وأهله

وخاصته، عن أحسن ما قيل من الشعر، فأنشدوا وفضلوا، وقال بعضهم: امرؤ

القيس، وقال بعضهم: النابغة، وقال بعضهم: الأعشى، فلما فرغوا قال: أشعر

الناس - والله - من هؤلاء جميعاً الذي قال: ... (وأنشد هذه القصيدة) [٢] .


(*) معن بن أوس المزني: شاعر فحل، من مخضرمي الجاهلية والإسلام، وهو شاعر مجيد محسن، متين الكلام، حسن الديباجة، فخم المعاني كان معاوية يفضل مزينة (قبيلة الشاعر) في الشعر، ويقول: كان أشعر أهل الجاهلية منهم زهير، وكان أشعر أهل الإسلام - منهم ابنه كعب ومعن بن أوس.
(**) الغرض من هذا الشرح فهم القصيدة من أقرب طريق، والدخول إلى معانيها بعيداً عن الاصطلاحات، وهو لم يكتب للمختصين، ولا من في حكمهم، وإنما كتب لمن لا يعرفون عن الأدب العربي إلا القليل، نظراً لظروفهم الدراسية أو المعيشية، وخاصة من هم في ديار الغربة.
(١) جانب بيته.
(٢) الأمالي ٢/٩٩، زهر الآداب، ٨١٧.