للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قصة قصيرة

[درس الشيخ]

د. محمد الحضيف

يداوم على حضور درس الشيخ عبد الهادي في مسجد (الحكمة) وحينما يعود

إلى البيت، بعد الدرس، يسأله أهله عن الدرس، فيرد بشيء من الانفعال: هل

الدرس طبق من الأكل أو قطعة ملابس، حتى أعطيكم رأيي فيه؟ !

إنه يرى كل الحضور يهزون رؤوسهم أثناء الدرس، وبعد خروجهم من

المسجد يتحدثون في مواضيع لا علاقة لها بالدرس مطلقا، يذكر مرة أنه أراد

مناقشة بعض الحضور فيما تحدث عنه الشيخ، فوجد نفوراً، ثم مال عليه أحدهم

وهمس في أذنه: من (الحكمة) أن لا تناقش ما يقوله الشيخ، إن الشيخ عبد الهادي

يكره أن يؤوّل كلامه، فهو حينما يقول إن التلفزيون حرام، لا يريد أن تذهب بأحد

الظنون، فيعتقد أنه يتهم مدير التلفزيون، أو السياسة التي تقوم عليها برامج

التلفزيون، أو حتى برامج التلفزيون نفسها، إن الشيخ عبد الهادي يؤثر (الحكمة)

في قوله وعمله، ولذا فهو يكره (المواجهة) ، ويكره كذلك أن يواجه أحداً بخطئه.

تلاميذ الشيخ عبد الهادي كلهم على هذه الشاكلة، مرة حضر لأحدهم خاطرة

ألقاها بعد الصلاة في مسجد في أحد الأحياء الفقيرة، كان موضوع خاطرته «أولئك

الذين يأتون إلى المسجد بثياب ممزقة وغير نظيفة» ، واشتد في تأنيبه لهم، مردداً

قوله تعالى: [يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد] . بعد الخاطرة رأى أن

يناقشه فيما تحدث عنه، فقال له: كيف تطالب هؤلاء الفقراء المعدمين بثياب نظيفة؟ ألم يكن من الأولى أن تحدثهم عن العدالة الاجتماعية في الإسلام حتى تعزيهم على

الحال التي هم فيها؟ فرد عليه مستنكراً: كأني أشم في كلامك طروحات

الاشتراكيين، أو بعض أفكار فلان وفلان، وبالمناسبة فالشيخ عبد الهادي لا يرى

أن من (الحكمة) الترويج لمثل هذه الأفكار.

في إحدى المرات رأى وجهاً غير مألوف يحضر لأول مرة درس الشيخ لقد

بات يعرف كل الذين يحضرون الدرس، بعد أن أنهى الشيخ حديثه وهم الجميع

بالانصراف، تكلم الشخص الغريب فجأة على غير عادة الحضور فقال: يا شيخ،

أنت تكلمت فقلت من (الحكمة) أن لا تفعل كذا ومن (الحكمة) أن تفعل كذا، ثم

ذكرت حديث الأعرابي الذي دخل وبال في المسجد قبل سنتين، وها أنذا أحضر

درسك الآن، ومازلت لم تبرح حديث بول الأعرابي، يا شيخ، لقد حضرت درس

الشيخ عبد الرحمن في مسجد (الحزم) قبل أسبوعين فذكر حديث «سيد الشهداء

حمزة» ، وحضرت درسه الأسبوع الماضي، وكان موضوعه «الأمة في

ظل النظام العالمي الجديد» ، وموضوع درسه اليوم «شيخ الإسلام ابن تيمية مُصلحاً» .

دارت عيون الحاضرين، واشرأبت أعناقهم إلى هذا الواقف يجادل الشيخ،

بعد هول المفاجأة التي عقدت ألسنتهم، قال له أحدهم: ليس من (الحكمة) أن

تخاطب الشيخ بهذه الطريقة، فأجاب الشاب: وهل من (الحكمة) أن يخدركم بهذا

الكلام منذ أكثر من خمس سنوات؟ قالها، ثم استدار منصرفاً.

حدثت حالة من الهرج، وتعالت الأصوات، منها ما يستنكر التصرف ومنها

ما يتساءل، أما هو فقد انسحب بهدوء وخرج من المسجد ولحق بالشاب واستوقفه،

ثم سأله قائلاً: أنا أعجب من أمرك، كيف قدرت أن تجادل الشيخ؟ لقد أخبروني

أن من (الحكمة) ألا أسأله، وحينما سألت بعضهم عن رأيه في الدرس، قال لي إن

الدرس ليس أكلاً أو ملابساً حتى يكون لنا رأي فيه، ثم أريد أن أسألك: من هو

الشيخ عبد الرحمن الذي تحدثت عنه؟ وأين مسجده؟ قال الشاب: هل تود أن

تحضر درسه؟ فرد بالإيجاب.

في الأسبوع التالي كان في مسجد (الحزم) يستمع للشيخ عبد الرحمن الذي كان

يتحدث عن «دور الشباب في الدعوة إلى الله» ، كان الشيخ عبد الرحمن يقول:

«إن المجتمع يهدد وجوده الفساد، لقد غدا حال الناس والفساد يحاصرهم من كل

جانب، كحال قوم حشروا حشراً في نفق مظلم فهم يتخبطون، يحتاجون دليلاً

يقودهم خارج النفق، والدليل يحتاج شعلة تهديه في هذا الظلام، إن الشاب الملتزم

هو الدليل، وإن الدعوة هي الشعلة، لكن الدعوة أمرها خطير، ومن ضروراتها

الامتحان والابتلاء، ومن لوازمها صنوف من البلاء كثيرة، منها الموت والسجن

والاضطهاد، مصداقاً لقوله تعالى: [أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم

لا يفتنون] ، إن الفساد الذي يعصف بالمجتمع أضعاف الظلمة التي تلف النفق،

وإن دون الشعلة لهباً مضطرماً فلا يصل إليها إلا أولو العزيمة الصادقة، كما أنه لا

يصبر على بلاء الدعوة إلا أصحاب الهمم العالية الذين يستلهمون الدرس من معلمهم

الأول محمد -صلى الله عليه وسلم-،» والله يا عم لا أترك هذا الأمر حتى يظهره

الله أو أهلك دونه «.

أخذت كلمات الشيخ عبد الرحمن بلُبّه، وطفق يحدث نفسه: هذا ما كنت

أبحث عنه، لكن الشيخ حيرني حينما قال خذ الشعلة لتقود الناس، أي اقبل أن

تحمل الدعوة، ثم يعود فيقول إن دون الشعلة لهباً مضطرماً، والدعوة محفوفة

بالابتلاء.

بعد نهاية الدرس ذهب إلى الشيخ وسلم عليه بحرارة، ثم طرح عليه تساؤلاته

وحيرته، مال عليه الشيخ وقال: خذ الشعلة.. واحذر اللهب، ثم أضاف وهو

يبتسم: أراك ثانية.