للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أدب وتاريخ

قصيدة وموقف

لخبيب بن عدي (رضي الله عنه)

المناسبة والشاعر [١] :

خبيب بن عدي: صحابي جليل من الأوس، وقارئ داعية إلى دينه، كان في

البعثة التي أرسلها الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى نجد، حيث قدم على رسول

الله بعد أُحد رهط من (عُضَل والقارة) وقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاما؛ فابعث

معنا نفراً من أصحابك يفقِّهوننا في الدين، ويُقرؤوننا القرآن، ويُعلموننا شرائع

الإسلام.. فبعث رسول الله نفراً، منهم: خبيب وزيد بن الدثنة وعاصم بن ثابت

بن أبي الأقلح.. حتى إذا كانوا على الرجيع -ماء لهذيل بين عسفان ومكة -

استصرخوا عليهم هذيلاً وغدروا بالصحابة، فمنهم قتيل وأسير.

أُسر خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، وقدم المشركون بهما مكة، (قال ابن

هشام) : فباعوهما من قريش بأسيرين من هذيل كانا بمكة ... حيث إن خبيباً كان قد

قتل في بدر الحارث بن عامر من أهل مكة.. فقتلته قريش ثأراً لصاحبهم، وتشفيّاً

بعباد الله المؤمنين.

سُجن الصحابي الجليل انتظاراً لتنفيذ الجريمة البشعة فيه، حيث خرجت به

قريش إلى التنعيم (خارج حدود الحرم) ، وصلّى ركعتين خفيفتين، واجتمع الرجال

والنساء والأطفال يحضرون مصرع الصحابي الجليل وصلبه، وعندما رفع إلى

خشبته وأوثقوه، قال: اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك، فبلغه الغداة ما يصنع بنا،

ثم قال: اللهم أحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً.

وفي هذا الموقف العصيب قال هذه القصيدة:

١- لقد جمّع الأحزاب حولي وألّبوا قبائلهم واستجمعوا كل مَجمعِ

٢- وكلُّهم مُبدي العداوةِ جاهدٌ عليّ لأني في وَثاقي بمضيع

٣- وقد جمّعوا أبناءهم ونساءهم وقُربتمن جذع طويل مُمنّع

٤- إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصدَ الأحزابُ لي عند مَصرعَي ٥- فذا العرشِ صبّرني على ما يُراد بي فقد بضّعوا لحمي وقد ياس مطمعي

٦- وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصالِ شلْو ممزّع

٧- وقد خيروني الكفرَ، والموت دونه وقد هملت عيناي من غير مجزع

٨- وما بي حِذارُ الموت، إني لميّتٌ ولكن حذاري جحم نار مُلفع

٩- فلست أبالي حين أقتل مسلماً على أيّ جنبٍ كان في الله مصرعي

١٠- ولست بمبدٍ للعدو تخشّعاً ولا جزِعاً، إنّي إلى الله مَرجعي

المفردات الغريبة:

٥-ياس: أصلها يئس، فخففت.

٦-أوصال: أعضاء مقطعة. شلو: ضعيف.

٨ - جَحْم: الملتهب. الملفع: المضطرم. جحم نار ملفع: في (الاستيعاب) : حر نار تلفع.

٩ - وفي رواية: (مضجعى) بدل مصرعي.

في جوّ الأبيات:

١- إن الصحابي الجليل يصور غربته وسط جوّ جاهلي حاقد، فقد تجمع

المشركون حوله، يُبدون العداوة، يشتفون بإراقة دم المسلم الطاهر النقي، ولا ذنب

له إلا أن يعلن إسلامه صادقاً، جمعوا الأبناء والنساء، وقد قربوه من جذع ليصلبوه

عليه، عرضوا عليه الكفر ففضّل الموت: (وقد خيروني الكفر والموت دونه) .

وهكذا المشركون في كل عصر، والطواغيت في كل حين، مطلبهم واحد

من المؤمنين: أن يتركوا دينهم، وإلا فهم متزمتون، متطرفون، رجعيون، أعداء

الوطن.

٢- وها هو مسلم اليوم يعيش في غربته القاتلة، ولكن طوبى للغرباء،

فالصحابي يشكو غربته وكربته وما أرصد له الأحزاب عند مصرعه..

ويدور الزمن دورته وإذا بالمؤمنين يفرون بدينهم في فجاج الأرض، وهم

يحسون الغربة والكربة، يلاحقون ويضطهدون، ويضيَّق عليهم في كل أرض ...

يَقبضون على الجمر ماداموا يتمسكون بعقيدتهم، ولا يساومون عليها.

٣- إن والي حمص - سعيد بن عامر الجمحي -رضي الله عنه-أيام أمير

المؤمنين عمر -رضى الله عنه- كان ممن حضر مصرع خبيب ودعوته في

الجاهلية، يقول سعيد بن عامر. (فوالله ما خطرت على قلبي دعوة خبيب وأنا في ...

مجلس قط إلا غشي عليّ) .

كم من المسلمين اليوم من يُرفع على أعواد المشانق، وكم من المؤمنين من

يُقتلون بالعشرات، والجرافات تواريهم في قبور جماعية. وقد يكون من بينهم

بعض الأحياء! وكم من ليال لجيران أقبية التعذيب لا تدع لأصحابها فرصة للنوم،

من أنين المعذبين المضطهدين؟ ! .

ومسلمو العصر الحديث لا يحركون ساكناً، وأحفاد سعيد بن عامر-رضي الله

عنه-لا يرف لهم جفن عندما يسمعون بهذه المآسي.. بَلْهَ الغيبوبة التي كانت تصيب

الصحابي الجليل الوالي الورع..

أين كلمات الحق التي تقال؟ أين الإنصاف، ولا ذنب لهؤلاء إلا أن قالوا:

ربنا الله؟ ! .

إن منطق الجاهلية الحديثة، جاهلية القرن العشرين يقول: إن هؤلاء وأمثالهم

مشاكسون متطرفون، يجب أن يخضعوا ويتركوا إثارة القلاقل، وإعلان دعوة

التوحيد؛ لأن الدين قضية شخصية لا تحتاج إلى كل هذا؟ ! . وقديماً قال المنافقون

في شهداء الرجيع مثل هذا القول. يقول ابن إسحاق عن ابن عباس -رضي الله

عنهما-[٢] : لما أصيبت السرية - في الرجيع - قال رجال من المنافقين: يا ويح

هؤلاء المفترين الذين هلكوا، لا هُم قعدوا في أهليهم، ولا هم أدوا رسالة صاحبهم، فأنزل تعالى قوله: [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى

مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ] [البقرة: ٢٠٤] .

٤- إن الصحابي البدري القارئ، إنسان يشعر بكيد الجاهلية، وتذرف عيناه

الدمع من غير جزع، فما هو بخائف من الموت، فالموت حق، ولو لم يمت بحد

السيف مات بغيره، ولكنه يخشى ألا يكون قد قام بحق الدعوة، وحق الإسلام، إنه

يخشى مَسَّ النار الملتهبة..

إن الذي يموت على الإسلام، لا يبالي على أي جنب كان في الله مصرعه ما

دام في سبيل الله.

ولن يبدي للعدو جزعاً ولا تردداً، ولا تراجعاً، فنفس المؤمن عزيزة، فهو

صاحب دعوة، أدى رسالة رسول الله (اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك فبلغه الغداة ...

ما يصنع بنا) ، (اللهم اقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً) .

٥- إن خبيباً مثال التضحية والفداء في السراء والضراء، وأين منه أدعياء

البطولة - في أيامنا الحاضرة - وقت الرخاء ومواتاة الظروف؟ ! ، وإذا ما تنكرت

لهم الأيام انقلبوا خائبين إلى أحضان أعدائهم ولو كانوا من المشركين! .

إن العقيدة الصلبة، والتربية الإيمانية، هي التي تفرق بين أجيالنا وجيل

الذروة، جيل القمة السابقة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

واستمع إلى قول زيد بن الدثنة-رضي الله عنه-عندما قدم ليقتل في التنعيم

أيضاً:

قال له أبو سفيان: أنشدك الله يا زيد، أتحب أن محمداً عندنا الآن في مكانك

نضرب عنقه وأنك في أهلك؟ قال: (لا والله ما أحب أن محمداً الآن في ... مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي) .

قال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد

محمداً، ثم قُتل- رحمه الله-[٣] .

هكذا تكون التربية العقدية، ولا مخلَص لنا مما نحن فيه إلا بالعودة إلى هذه

التربية القرآنية الإيمانية الخالصة لوجهه تعالى.. بعيدة عن كل شائبة.

٦- لابد من التربية الصلبة التي رُبِّي عليها أصحاب رسول الله؛ حتى

يستطيع المسلمون اليوم أن يَثبتوا للجاهلية الجديدة والغربة الثانية.

فالملأ من قريش الذين أعدموا الصحابة في التنعيم موجودون في معظم أنحاء

العالم الإسلامي ولو تغيرت اللافتات والأسماء، هنالك قريش وهذيل وبقية

المشركين في جزيرة العرب، وهنا: الشيوعية، والأحزاب العلمانية، والباطنية،

والطواغيت التي ترفض تحكيم شرع الله..

٧- وأخيراً أختم هذه الخواطر (من وحي القصيدة) بأبيات لشاعر الدعوة

الإسلامية حسان بن ثابت -رضي الله عنه-يرثي فيها خبيب بن عدي -رضي الله

عنه-عندما قتل صبراً بمكة [٤] :

١-ما بال عينك لا ترقا مدامعها شحّاً على الصدر، مثلَ اللؤلؤ الفَلَقِ

٢- على خبيبٍ، وفي الرحمن مصرعُه لا فشل حين تلقاه ولا نزق

٣-فاذهب خبيبُ، جزاك الله طيبةٌ وجنة الخلد عند الحور في الرُّفَق

٤-ماذا تقولون إن قال النبيُّ لكم حين الملائكة الأبرارُ في الأفق

٥-فيما قتلتم شهيدَ الله في رجلٍ طاغٍ قد أوعث في البلدان والطرق

هكذا كانت عين حسان -رضي الله عنه- - وأمثاله من المؤمنين - لا ترقأ

مدامعها، تنهمر غزيرة على خداع الجاهلية وضلالات الشرك التي أودت بأهل

الرجيع، سرية القراء والدعوة إلى الله.. وهكذا يكون التعاطف بين المؤمنين،

ويكون الرثاء في معاني جديدة، معاني الإسلام؛ (الجنة، والملائكة، والشهادة) . ...


(١) الإصابة ١/ ٤١٨، الاستيعاب ١ / ٤٣٠، وابن هشام ٢ /١٧٠-١٧٧.
(٢) السيرة النبوية: ابن هشام ٢ /١٧٤.
(٣) سيرة ابن هشام: ٢ /١٧٢.
(٤) ديوان حسان: ص ١٦٨
الغريب: - اللؤلؤ الفلق: شبه انتشار الدمع بانتثار اللؤلؤ المتفلق، لا ترقأ: لا تجف
- في البيت الرابع: يقصد يومَ القيامة
- أوعث أفسد (ويشير إلى: الحارث بن عامر الذي قتله خبيب يوم بدر) .