حوار
المستشرق الروسي د. ليونيد سوكيانن
في حوار مثير مع البيان
(١-٢)
السياسة يجب أن تخضع لمعايير الشريعة
وليس العكس
حاوره في الرياض: خالد محمد أبو الفتوح
لماذا هذا الحوار؟
من يملك الحقيقة لا يخشى الحقائق
لعله أول حوار تجريه مجلتكم (البيان) مع شخص غير مسلم، ولعل بعض
قرائنا الأعزاء يستغربون هذه الخطوة؛ ولكن لم الاستغراب وكتاب ربنا - تعالى -
وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وسير علمائنا ملأى بالحوارات مع الكفار؟ بل مع
الطغاة والفراعنة؟ على أن محاورنا يعلن أنه - رغم عدم إسلامه - نصير للإسلام
وللشريعة الإسلامية، ولم يصل إلى المحادة؛ بل قد يعتبر بعضى القراء آراءه
أفضل من كتير من آراء علمانيين يحملون أسماء إسلامية؛ لذلك لم يكن الحوار معه
للمحاجة والمناظرة، بل كان لاستطلاع الآراء والمواقف واستجلاء الحقائق، فليس
مناسبا لمن يهتم بأمر المسلمين أن يجهل واقعهم في البلاد الأخرى، أو يغفل عن
نظرة الآخرين إلى الإسلام والمسلمين، أو يهمل معرفة كيف يفكر هؤلاء الآخرون، وكيف يتطور هذا التفكير تجاهنا وتجاه العالم؛ بل وتجاه القيم والمبادئ.
وضيفنا في هذا اللقاء هو الدكتور ليونيد سوكيانن أحد أبرز المستشرقين
الروس المهتمين بدراسة الشريعة الإسلامية وواقعها في العالم الإسلامي. درس
الاقتصاد وتخرج في معهد العلاقات الدولية التابع لوزارة الخارجية الروسية،
متخصص في الدراسات القانونية والتشريعية، وهو حاليا أستاذ في معهد الدولة
والقانون بأكاديمية العلوم الروسية، يتحدث العربية بطلاقة، وله عدة مؤلفات
ونشاط ملموس في وسائل الإعلام الروسية فيما يخص العالم الإسلامي والشريعة
الإسلامية، ويعد أحد المستشارين المهمين في هذا الخصوص هناك..
ولا شك أن المجلة في هذا الحوار - شأن معظم الحوارات - قد تتفق معه في
أمور ذكرها وقد تختلف في أمور أخرى - لعل أبرزها: رأيه في اتفاق النظم
التشريعية في معظم تشريعاتها، ولكننا نورد الحوار بغير تعليق؛ ثقة منا في نضج
قارئ البيان ورفعا لوصاية فكرية كثيرا ما تمارس على شباب الصحوة؛ لأننا نعتقد
أن الحوار الحر من أبرز السبل لإبراز حقيقة الإسلام، وأن: من يملك الحقيقة لا
يخشى الحقائق.
- البيان-
- د. ليونيد سوكيانن: ما الذي دفعكم للاهتمام بالشريعة الإسلامية؟
- كان اختياري لهذا الموضوع عفويا، لأني كنت أدرس اللغة العربية في
معهد العلاقات العربية، وأحببت هذه اللغة من أول درس، وبعد دراسة اللغة
العربية لم أتصور مستقبلي في أي تخصص بعيدا عن اللغة العربية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كانت من ضمن المواد التي أدرسها في المعهد نفسه بعض
المواد القانونية، وأنا أحببت العلوم القانونية لما فيها من منطق قانوني، ولهذا
شعرت بميول تجاه القانون إضافة إلى اللغة العربية، ونقطة الالتقاء بين اللغة
العربية والعلوم القانونية هي الشريعة الإسلامية، فكان طبعيا أن أدرس الشريعة
الإسلامية. أنا حقوقي ولست مسلما ولست فقيها؛ لذا: فأنا أدرسها دراسة مقارنة
بصفتي حقوقيا قبل كل شيء، ولكني لا أقف عند حدود المقارنة السطحية للشريعة
الإسلامية والنظم القانونية الأخرى، بل أحاول التعمق في دراسة الشريعة الإسلامية
واستيعابها بالرجوع إلى أصولها وأمهات الكتب فيها.
- هل واجهتم مشكلات نتيجة دراستكم للشريعة في بلادكم؟
- بإمكانكم تصور حجم المشاكل التي تواجه باحثا يبدأ دراسة الشريعة
الإسلامية في بداية السبعينات في روسيا، حينئذ كان النظام الشيوعي برئاسة
بريجينيف قائما، ويمكن أن نطلق على هذا النظام بدون مبالغة نظام الإلحاد، وكل
الدراسات المتعلقة بالشريعة والإسلام كانوا يعتبرونها متعلقة ببعض الأوهام، أو كما
كانوا يقولون بـ (أفيون الشعوب) ، وكانت هذه الصفة تلصق بجميع الدراسات
المتعلقة بالإسلام وبالشريعة الإسلامية، بل وبأي دين، ولكن نظرا لبعض العوامل
السياسية الخارجية تهيأت الظروف للاهتمام بمثل هذه الأبحاث؛ فالعلاقات الروسية
مع العالم الإسلامي تطلبت بعض الدراسات المتعلقة بالإسلام بما في ذلك البعد
الشرعي لهذه العلاقات. وبعد مرور سنوات تثار الآن في روسيا قضية الشريعة
الإسلامية ليس باعتبارها موضوعا للدراسات الأكاديمية فحسب، ولكن باعتبارها
قضية عملية واقعية.
- من أي وجه برز أنها قضية علمية؟
- يكفي أن نضرب مثلا بقضية الشيشان؛ فالشيشان لا تزال جمهورية تحت
الاتحاد الروسي؛ وهي مثار فيها قضية تطبيق الشريعة..
- عفواً هذه القضية سوف نتناولها في وقت لاحق..
حتى إذا تركنا جانباً قضية التجربة الشيشانية وهي تستحق المناقشة المفصلة
الخاصة ففي بعض المناطق والجمهوريات الروسية الأخرى كذلك تناقش قضية
الشريعة الإسلامية من منطلق أنها قضية تشريعية عملية، فمثلاً: الآن في جمهورية
تتارستان وهي قلب الأمة الإسلامية في روسيا يناقش قانون حرية المعتقدات الدينية
والمنظمات الدينية، ومشروع هذا القانون ينص على الاعتراف بالأوقاف على
سبيل المثال، وهذا ما أبرز أهمية الدراسات الشرعية الإسلامية في روسيا، وتثار
كذلك في بعض الجمهوريات الأخرى في شمال القوقاز مثل هذه المسائل.
- ولكن د. ليونيد.. هل تظن أنه قد يأتي يوم يطلب فيه النظام الروسي
بعض المساعدة من حضرتكم لاقتباس بعض النظم من الشريعة الإسلامية؟
يجب أن أشكركم على هذا السؤال، هذا السؤال في صلب الموضوع، وكان
ولا يزال يوجه إليَّ كثيراً في روسيا. بصراحة أقول: منذ فترة طويلة من الزمن
وحتى الآن لم أشعر أن معارفي مطلوبة، ليس فقط لزملائي الباحثين ولكن للسياسة
العملية في روسيا، ولكن التغيرات التي طرأت على روسيا في الآونة الأخيرة على
المستوى الثقافي والديني والاقتصادي والسياسي ألزمتنا في روسيا أن نولي موضوع
الشريعة الإسلامية أهمية باعتبارها موضوعاً عملياً، فمنذ أقل من شهرين دُعيت
للمشاركة في عضوية المجلس الاستشاري لوزارة الخارجية الروسية، وعندما
حضرت الجلسة التأسيسية لهذا المجلس استفسرت من نائب وزير الداخلية الروسية: أنت مسؤول عن مكافحة الإجرام الجماعي والمافيا وكذلك الإجرام الاقتصادي،
وتدعوني للمشاركة في هذا المجلس في حين أني متخصص في الشريعة الإسلامية؛
فما هي العلاقة بين مهمتكم وتخصصي؟
قال: عندما دخلنا مناطق شمال القوقاز وهي مناطق مسلمة أصلاً وبدأنا نحقق
في كثير من أصول الجرائم تأكدنا أن هناك علاقة مباشرة بين التقاليد والأعراف
العرقية والطائفية والأحكام الدينية وغيرها وبين مستوى الإجرام، واقتنعنا أننا لا
نستطيع أن نستأصل جذور الإجرام في هذه المناطق دون دراسة عميقة للإسلام
ومعرفة البعد القانوني فيه، وهو الشريعة الإسلامية.
ومن هذا المنطلق نستطيع إذا فكرنا بشكل هادئ وعميق أن نجد كثيراً من نقط
الالتقاء بين مشكلة الأعراق والتقاليد وبين أصول الإجرام الآن في شمال القوقاز..
وهكذا يمكن الاستفادة من هذا التراث الفقهي لاستئصال الإجرام، ولكن طبعاً
لا نستطيع أن نعتبر الشريعة الإسلامية وحدها الوسيلة لحل أي قضية على الرغم
من أهميتها، ولكنها عنصر من العناصر.
وعلى هذا الأساس: لا أستطيع أن أتصور شخصياً مستقبل تطور النظم
التشريعية في روسيا وخاصة في المناطق المسلمة في روسيا بدون الاستفادة من
الشريعة الإسلامية.
- على ذكر الشريعة وتطبيق الشريعة, باعتباركم متخصصاً في الشريعة
الإسلامية، وفي الوقت نفسه لا تنتمي إلى الإسلام، ما هي نظرتكم إلى دعوات
تطبيق الشريعة في هذا العصر؟ .. هناك من يقول: إن الشريعة لا تصلح لجميع
المجتمعات أو لهذا الزمان، ما قولكم من خلال دراستكم للشريعة؟
- طبعاً الإجابة عن هذا السؤال يمكن أن تكون طويلة جداً؛ لأن السؤال نفسه
فيه كثير من الأبعاد والمستويات، وبصراحة القول: الشريعة الإسلامية طوال
القرون من بدايتها وحتى يومنا هذا اكتسبت الكنوز من الفكر القانوني والقواعد
والمبادئ والحلول المختلفة.. هذا النظام ليس نظاماً جامداً، فهو لم يبق على
صورته التي كان عليها في أول نشأته في عصر النبوة، ولكنه دائماً يتطور على
القواعد الأساسية له ويفرِّع عليها، وأنا أفهم نظام الشريعة الإسلامية على أنه ليس
فقط نظاماً إلهياً يعتمد على الوحي فإذا انقطع الوحي توقفت استجاباته ومرونته،
ولكني أستطيع القول: إن لهذا النظام دعامتين: الوحي الإلهي، واجتهاد البشر،
وعن طريق الاجتهاد ساير التشريع الإسلامي الزمن وواكب الظروف المختلفة،
ولذلك: أنا لا أشك في أن التشريع الإسلامي صالح لكل زمان ومكان، ولكن مع
ملحوظة مهمة هي أن التشريع الإسلامي تكمن فيه الإمكانات والكفاءات لأن يكون
صالحاً لكل زمان ومكان، أما الاستفادة من هذا الاحتياط والرصيد الكامن فيتوقف
على البشر، على المسلمين أنفسهم، وعلى هذا الأساس: إذا أخفق تطبيق الشريعة
الإسلامية في ناحية من أنحاء العالم فليست الشريعة هي التي أخفقت، ولكن لم تفلح
التجربة المعينة لبعض الذين ربما يطبقونها بشكل خاطئ.
ففي الحقيقة أنا مؤمن بأن المبادئ القانونية الأساسية في الشريعة الإسلامية
مثل مقاصدها وكلياتها تمثل قيماً أبدية خالدة. مثل: لا ضرر ولا ضرار، هذا
المبدأ المستخلص من الحديث النبوي يصلح دون شك لكل مكان وزمان، ولكل
إنسان: مسلماً كان أو غير مسلم؛ مثل هذه المسائل أبدية.. كل نظام قانوني يعتمد
على مثل هذه المبادئ الأساسية.
ومن الضروري هنا ألا نخلط بين السياسة واستعمال الشعارات المتعلقة
بالإسلام أو بالشريعة الغراء وبين الأغراض والأهداف والغايات السياسية التي يمكن
أن تطمح إلى تحقيقها بعض الجهات أو بعض الأفراد لاعتبارات سياسية أو مصالح
شخصية تحت هذا الشعار، والأخطاء أو العواقب السيئة على تطبيق الشريعة
الإسلامية يجب أن نُحمِّلها الذين يستعملونها استعمالاً غير صحيح؛ وليس على
الشريعة الإسلامية؛ فهم لا يستعملونها لأنها قيمة في ذاتها؛ ولكن باعتبارهم لها
وسيلة.. والدين أو الشريعة لا ينبغي أن تكون وسيلة، رغم أنها إطار قانوني يمكن
من خلاله أن تُحلَّ كثير من القضايا؛ ولكن ينبغي أن يكون هذا على أساس المبادئ
والقواعد الأساسية الراسخة.
وأشير هنا إلى نقطة مهمة، وهي أننا إذا ظننا أن التشريع الإسلامي يكتفي
بقطع يد السارق أو رجم الزاني أو منع شرب الخمور وتحريم لحم الخنزير أو إباحة
تعدد الزوجات ... وإهمال الأبعاد الأخرى رغم أهمية هذه الأحكام الجزئية نكون
مخطئين، فإذا كان هذا النظام شاملاً فضروري أن يكون الموقف منه شاملاً أيضاً
لكل هذا النظام؛ فالسياسة يجب أن تخضع لهذه المعايير وليست هذه المعايير هي
التي تستعمل لتعليل بعض الممارسات السياسية لبعض الجهات؛ فهذه مشكلة.
- من خلال دراستكم للشريعة دراسة مقارنة مع التشريعات الأخرى، ما هي
أهم التمايزات التي لاحظتموها في الشريعة الإسلامية وتفترق عن النظم التشريعية
الأخرى؟
- إذا رغبتم في جوابي الصريح كل الصراحة، فأنا كثيراً عندما أطلع على
المراجع بما فيها المراجع التي كتبها الفقهاء المسلمون أقرأ الفقرات الخاصة
بالفوارق بين النظم، أنا أفضل أن أقف أمام التشابه والاشتراك أكثر بكثير من
الفوارق؛ لأن رأيي الشخصي أن نقاط التشابه والاشتراك أكثر بكثير من الفوارق
.. الفوارق موجودة، وهي جلية وواضحة، ولكن هذه الفوارق: عددها، وطبيعتها
يجب ألا تطغى على نقاط التشابه؛ مما يُمكِّن من الحوار والتفاعل والتواصل بين
الأنظمة القانونية المختلفة من غير وجود تمييز قاطع بين النظم، وهذا يساعد على
نمو العلاقات الخارجية والتعاون في مجالات كالتجارة ...
- ولكن إذا تحدثنا عن نقاط الاتفاق، فقد يكون عموم نقاط الاتفاق صحيحاً،
إلا أننا عند الدخول في هذه النقاط نجد التفاصيل مختلفة كثيراً، فمثلاً: إذا قلنا: إن
جميع النظم القانونية تحرص على العدل وعلى احترام الإنسان باعتباره قيمةً في حد
ذاته.. فإننا نجد أن صورة العدل تختلف في هذا النظام عن ذاك.. كيفية احترام
الإنسان هنا تختلف عما هناك.. أشياء كثيرة عند الدخول في التفاصيل تجعل من
هذه النقاط مجرد لافتات عريضة؛ فما رأيكم؟
- نعم.. أنا يمكن أن أشاركك الرأي جزئياً فقط في هذا المعنى، فأنتم ضربتم
مثالاً على حقوق الإنسان أو مكانة الفرد أو الإنسان في هذا النظام.. صحيح أن كل
نظام قانوني يدعي أنه يقدس الإنسان باعتباره قيمة، ولكن كيفية تحقيق هذا المبدأ
تختلف، ولكني مقتنع أنه حتى في هذا المجال تتجاوز نقاط الاتفاق نقاط الفوارق،
مثلاً: إذا اطلعنا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وقارنَّا بين هذا الإعلان
ووثيقة حقوق الإنسان التي صدرت عن المؤتمر الإسلامي في أغسطس عام ١٩٩٠م
نجد أن نقاط الاتفاق أكبر بكثير من الفوارق.. الفوارق موجودة ولا أهملها، ولكن
موقفي الأساس وفكرتي الأساسية ألا نبالغ في هذه الفوارق، فإذا ركزنا على
الفوارق فستكون الخطوة التالية هي التمييز، ليس بين الأحكام القانونية، بل في
القيم الإنسانية والمجتمعات والحضارات والثقافات والشعوب والأديان وغيرها.. أنا
أفضل أن أركز على النقاط الأخرى، نقاط التشابه والاتفاق بين الأنظمة، لماذا؟
ربما هناك بعض الأسباب الذاتية لمثل هذا الموقف؛ لأن عندنا في روسيا كنا ولا
نزال نشعر بهذه الآثار حتى الآن.. الرؤية الخاصة بالإسلام هناك أن الإسلام نظام
رجعي، والشريعة ليست بقانون؛ بل هي خليط من أحكام دينية وأحكام قانونية غير
متطورة تماماً، فيها تسويغ العنف وخرق حقوق الإنسان وعدم المساواة بين حقوق
الرجل وحقوق المرأة.. وغير ذلك، إذن: عندما بَدَأْتُ دراسة الشريعة الإسلامية
واجهتُ وما أزال مثل هذه التصورات والمفاهيم عن الشريعة الإسلامية، فمثل هذه
الصورة المزيفة غير الصحيحة عن الإسلام دفعني لأن أبرز البعد الآخر: أن هذا
النظام متطور وراقٍ، هذا النظام صالح لكثير من البيئات؛ بل لمعظمها؛ بل جميع
البيئات الاجتماعية والجغرافية، وطبعاً هذا يتطلب استخلاص القواعد الكلية،
والتمييز بينها وبين الجزئيات التي قد تلائم زماناً ولا تلائم أحوالاً أخرى، فالقواعد
الكلية هي الثوابت، والجزئيات تصنف على أنها متغيرات؛ لأنها تتغير بتغير
الزمان والمكان.
وعلى هذا الأساس: نجد أنه يمكن استفادة الأنظمة القانونية بعضها من بعض، فمثلاً فكرة صياغة القانون في مواد مأخوذ من نظم قانونية غير إسلامية، وعلى
هذا يمكن الاستفادة من مكتسبات النظم القانونية الأخرى.
- هناك نقطة مهمة جداً يا دكتور ليونيد في هذا الموضوع يتطرق إليها كثير
من الباحثين، وهي مصدر التشريع في كلا النظامين. تعلمون أن المصدر في
التشريع الإسلامي ليس إلى مجلس شعب أو برلمان.. إلخ، قد يصوغ البرلمان
القانون، ويجتهد في مناسبته للواقع؛ ولكن لا ينشئ القانون أصلاً، بينما في
الأنظمة الأخرى تقوم كل الأنظمة على حق الشعوب في التشريع من الأصل، وهذا
بعض الباحثين إلى الربط بين الحكم الثيوقراطي وهذا النظام الإسلامي في التشريع
.. فما رأيكم في هذه النقطة الجوهرية؟
إذا أخذنا هذه النقطة مثالاً، فيجب أن ندرسها دراسة مفصلة. صحيح أنه في
بعض الأحيان يقال: إن مصدر التشريع الإسلامي مصدر إلهي: الوحي وليس
البشر، أما الأنظمة الأخرى فمصدرها نشاطات البرلمان والهيئات البشرية، هذا
من حيث المبدأ صحيح، ولكن إذا استمررنا في التفكير في هذا الفارق فسنتوصل
إلى بعض النتائج التي ربما تختلف إلى حد ما عن نقطة الانطلاق الأولى، وهي أن
التشريع الإسلامي نفسه على الرغم من أن مصدره الوحي الإلهي فهو لا يقتصر
على نصوص القرآن الكريم والأحاديث النبوية؛ بل يعتمد كذلك على الأدلة الأخرى، منها: الأدلة العقلية إلى جانب الأدلة النقلية، مع إقرارنا بأن العبادات منصوص
عليها في القرآن والسنة، أما المعاملات، وهذا هو مجال المقارنة، ففي هذا
المجال نجد أن الأحكام القانونية القرآنية محدودة جداً. مثلاً: البيع أربع آيات فقط؛ أما الباقي فهو من نتاج الاجتهاد، والاجتهاد إنتاج بشري؛ فالفقهاء هم الذين
صاغوا هذه الأحكام، طبعاً في حدود القواعد العامة للشريعة، وعلى هذا الأساس
هم لم ينشئوه وإنما استنبطوه؛ ولكن في النهاية هم بشر.
إذا رجعنا إلى المُشرِّع الوضعي فهل يمكن القول: إنه لا يتقيد بأي شيء عند
إصدار القانون؟ لا.. هناك كذلك بعض القيود. ما هذه القيود؟ قبل كل شيء القيم
السائدة في المجتمع. ومعروف أن الإنجيل أثَّر تأثيراً عميقاً جداً على الفكر القانوني
الأوروبي: القانون الجنائي الذي يعاقب على الزنا، ويعاقب على السرقة، وكثير
من الجرائم الأخرى مصدره كذلك - إلى حد ما - إلهي حتى في دول أوروبية؛
فالقيم الأخلاقية والدينية تلعب دوراً كذلك في القانون الوضعي، ربما ليس الدور
نفسه؛ ولكن لن تجد هنالك البشر الذي يجلس ويفكر ويخرج القوانين من رأسه،
هو كذلك يتقيد، والمجتمعات غير المسلمة عندها كذلك الأخلاق والقيم الأخلاقية
والدينية التي ربما لا تظهر بشكل مباشر. أنا لا أهمل ولا أنسى الفوارق بينها وبين
الشريعة الإسلامية باعتبار أن مصدرها الوحي الإلهي؛ ولكن كذلك من الضروري
أن نتذكر هذه النقطة أيضاً في التشريعات الأخرى.
هناك شيء آخر أود التنبيه إليه: أمس استعرت أحد الكتب المعاصرة المؤلَّفة
في الشريعة الإسلامية، وفيه فصل خاص للمقارنة بين القانون الروماني والشريعة
الإسلامية، هذا الموضوع قديم جداً: هل اقتبست الشريعة الإسلامية من القانون
الروماني أم لا؟ سأقول لك شيئاً ربما يعرضني لنقد بعض القراء؛ ولكن صدقني
أنا أعرف جيداً الفكر القانوني الغربي؛ ليس هنالك الآن من الباحثين الغربيين من
يلتزم بفكرة أن التشريع الإسلامي أُخذ من القانون الروماني، هذا كان في القرن
التاسع عشر، كانت الفكرة موجودة عند بعض الباحثين الغربيين؛ الآن الفكر
القانوني الغربي يعترف بدون أي قيود ولا شروط أن التشريع الإسلامي نظام
قانوني مستقل، لم يتأثر بالقانون الروماني. ما أريد الإشارة إليه أنه حتى كتابات
وخواطر الفقهاء المسلمين يوجد بها كثير من النقاط المتشابهة، وهذا يعود إلى أن
العقل الإنساني كان يبحث ويجد الحلول المتشابهة. الفقهاء والمجتهدون المسلمون
عندما كانوا يستنبطون أحكاماً عن طريق المصالح وغيرها، والفقهاء غير المسلمين
في المناطق الأخرى البعيدة تماماً عندما كانوا يبحثون الأحكام كانوا ينظرون كذلك
إلى المصالح، والمصالح للناس في كثير من الأحيان متشابهة تقريباً، ولا شك أن
هناك اختلافاً في أشكالها وصيغها، ولكن المضمون والطبيعة تتفق في معظم
الأحوال.
وأخيراً
لو سمحتم عندنا الآن في روسيا ينتهي العمل من مشروع مهم جداً،
وهو إصدار موسوعة الفكر القانوني العالمي (خمسة مجلدات) يحتوي كل مجلد على
(٦٠٠) أو (٧٠٠) صفحة، بُحثت فيها الأفكار القانونية من مصر القديمة حتى
عصرنا الحاضر، وأنا رئيس التحرير للمجلد الأول، وهو يحتوي على: نماذج
من الفكر القانوني في مصر الفرعونية، واليونان القديمة، والقانون الروماني،
والفكر الياباني، والفكر الصيني القديم والفكر المنغولي، والفكر الإيراني قبل
دخول الإسلام.
أنا حقوقي دكتور في الحقوق منذ أكثر من عشر سنوات تعرفت عن قرب
على نماذج الأفكار القانونية المختارة من هذه الحضارات والثقافات المختلفة،
استغربت! ليس هناك فوارق كبيرة بين هذه الأفكار؛ ولكنَّ هناك تشابهاً بينها،
كنت أتصور أن هناك اختلافاً كبيراً بين القانون الروماني والقانون الياباني أو الفكر
القانوني الصيني والإسلامي؛ ولكن لم أجد ما توقعت. وهذا شيء غريب جداً!
- قبل أن نترك هذه النقطة، هناك إشارة يسيرة إلى موضوع تغيُّر القيم: هذا
أمر في الإسلام يختلف عن بقية الحضارات والتشريعات؛ فمثلاً: الآن في بعض
الدول الأوروبية شرَّعوا إباحة زواج الشواذ، وأصبح شيئاً مشروعاً وقانونياً..
فالقيم في بعض المجتمعات والأنظمة تكون متحركة ومتغيرة كثيراً، وهذا يوجِد
كثيراً من الفروق بين الأنظمة القانونية. فما رأيكم؟
نعم.. الآن يشاهد العالم على قولكم تغير القيم، والظواهر التي نتعامل معها
الآن ظواهر طبيعية وعملية، وكانت تعتبر منذ عدة سنوات خيالية وغير ممكنة،
مثل هذه الأشكال من الزواج غير الطبيعي المقننة في بعض البلدان الأوروبية، مثل
المخدرات، وللأسف الشديد! المخدرات ليست موجودة فقط في الغرب؛ ولكنها
أيضاً في الشرق، بل في الشرق الإسلامي؛ بل في كثير من الأحيان تكون هي
المصدر..
- ولكن ما تزال تعتبر فيها جريمة..
نعم.. صحيح، أنا معكم، بصراحة أنا بصفتي إنساناً لا أستطيع أن أقبل
مثل هذه القيم الجديدة، وهي ليست في الحقيقة قيماً. طبعاً عندي بعض الأسباب
والدوافع التي دعت إلى تقنين مثل هذه التشريعات الخاصة في هذا المجال، تغيير
القيم موجود ونحن نشاهده في العالم كله؛ ولكن في الوقت نفسه مثل هذه الحركة
(حركة تغير القيم) وأنا لا أتكلم عن تغير القيم الرديئة الرجعية التي كانت موجودة
في الماضي لتحل محلها القيم الصحيحة فهو تغير مطلوب ولكن هناك تغيرات
أخرى في الإنسانية.. في بعض الأحيان هذه التغييرات لهذه القيم كل واحد يلاحظها: في التلفزيون، في الإعلام؛ ولكن هناك القيم الأخرى الجيدة التي لم تكن موجودة
في الماضي. على سبيل المثال: في أوروبا في بداية هذا القرن؛ بل قبل الحرب
العالمية الثانية كانت الحرب أسلوباً شرعياً لحل النزاعات الدولية قبل الأمم المتحدة. ...
الآن: أي حرب تعتبر ممنوعة تماماً؛ فهذا تغيُّر في القيم.. حقوق الإنسان: نحن وقفنا أمام الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية في ذلك، هل هذا أتى بقيم جديدة لرفع مستوى الإنسان؟ بدون شك هناك قيم جديدة كحماية البيئة؛ من أجل ذلك عندما ننظر إلى جانب تحرك القيم نحو الأسوأ يجب أن ننظر إلى الحركة الأخرى، الحياة ليست أسود وأبيض، الحياة صورة ملونة؛ وعلى هذا الأساس أقول: نعم مثل هذا التغير في القيم موجود في روسيا أيضاً.. المخدرات مثلاً أصبح تناولها في بعض المدن شيئاً عادياً جداً. مشكلة كبيرة! فكيف نواجهها؟ نواجهها بالتربية، بالعناية، بزرع القيم، وبسلوكنا أنفسنا.
- ولكننا نتحدث بخصوص مبادئ قانونية ولا نتحدث بخصوص تدين عام أو
إنجازات بشرية عامة، ألا ترى أن هذا الكلام عام ويبعد بعض الشيء عن المبادئ
القانونية وأثر تغير القيم فيها؟
نعم.. تغير القيم والمبادئ! .. كما يقال: لا جديد تحت الشمس، كل هذه
القضايا كانت موجودة في الإنسانية سابقاً، ربما تتذكر والدك يقول: ما هذا الجيل
الناشئ؟ كان آباؤنا يعيشون حياة أخلاقية مختلفة وملتزمين أخلاقياً، وبعد ذلك يمكن
أن تقول أنت الكلام نفسه لابنك أو ابنتك.. هذه قضية عامة في كل مجال..
الفوارق بين الأجيال.. ولكن من الضروري أن نميز دائماً بين الثوابت والمتغيرات، القواعد العامة الراسخة الأبدية والجزئيات.. ما هي الأخلاق؟ الأخلاق يجب أن
تكون قيماً ومعايير. ومنطقياً لا يمكن أن تكون الأخلاق سيئة؛ فإذا كانت سيئة فهي
ليست بأخلاق. الأخلاق بمعنى القيم هي المعايير التي تقاس عليها معاملات الإنسان
وسلوكه، والأخلاق هذه كانت موجودة ومعروفة وليست كالاختراعات: احترام
الإنسان، احترام الوالدين، عدم إلحاق الأذى بالغير، وحب الخير للإنسان،
والحفاظ على حياته وعرضه وماله ونفسه؛ ولكن هذا داخل في الصراع بين الشر
والخير.. دائماً هذا الصراع موجود؛ ولكن الصورة تختلف. طيب! لم يكن مثل
هذا الشكل من الزواج موجوداً في القرون الوسطى؛ ولكن كانت هناك ذبائح طائفية
ودينية موجودة، الحملات الصليبية كانت موجودة، وكان هناك الكثير من الضحايا
في هذه الحروب وغيرها.. كان الإنسان يموت جوعاً ويموت مرضاً، وعلى هذا
الأساس: فالصراع كان موجوداً بين الشر والخير، ولكن تختلف الأشكال.
- د. ليونيد سوكيانن: لو تكلمنا عن الاستشراق، فهل تعتبر مدرسة
الاستشراق الروسية مجرد امتداد للاستشراق الأوروبي عموماً؟
لا.. علم الاستشراق الروسي له تاريخه وتقاليده وجذوره البعيدة، كان علم
الاستشراق الروسي ولا يزال يعكس خصوصيات روسيا التي تميزها عن الدول
الأوروبية، روسيا دولة أوروبية؛ ولكنها ليست كأي دولة أوروبية أخرى، هي
دولة آسيوية أوروبية، المسلمون في روسيا جزء من مقومات الشعب الروسي،
عمر الإسلام في روسيا ألف عام، بينما المسلمون في أوروبا أو في أمريكا من
المهاجرين الذين لا يتعدون الجيلين في أحسن الأحوال.
كل هذا كان ينعكس على علم الاستشراق الروسي، فهو بالطبع له علاقات
قوية ومباشرة مع علم الاستشراق الأوروبي الغربي، هذا صحيح؛ لأن ثقافة
المثقفين والعلماء الروس في معظم الأحيان أوروبية، ولكن نظراً للاعتبارات
والخصوصيات المميزة للوضع الروسي السابق ذكرها إضافة إلى العلاقات
الخارجية لروسيا المختلفة عن علاقات غرب أوروبا.. كل هذا كان يؤثر على علم
الاستشراق.
وعلم الاستشراق الروسي كان متطوراً لا بأس به، وكان مُعتَرفاً به من قِبَل
أوروبا، وحتى الآن أنا أعتبر علم الاستشراق الروسي علماً متطوراً على الرغم من
كثير من الصعوبات التي تواجه. هذا العلم في الوقت الراهن تأثر كثيراً بسبب
الظروف العامة والأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في روسيا؛ فهي
بالطبع تؤثر على مستوى الدراسات العلمية بما في ذلك مجال الدراسات
الاستشراقية.
وبصورة مركَّزة أقول: إن علم الاستشراق الروسي له روابط مع أوروبا؛
وله خصائص مميزة في هذا العلم بالذات.
- مثل أي شيء؟
قبل كل شيء كان هذا العلم عاطفياً لا يعتبر الإسلام والشرق موضوعاً
مقتصراً على الدراسة، بينما في أوروبا هذا موضوع للدراسة فقط؛ أما في روسيا
فكان موضوعاً وجزءاً من العالم الخارجي للباحث نفسه؛ فهو يعيش في هذا العالم؛
لأنه يعيش في دولة شبه غربية شبه أوروبية شبه شرقية. علم الاستشراق
الأوروبي كان يدرس غيرَه بينما علم الاستشراق الروسي كان يدرس غيره وذاته في
الوقت نفسه؛ مما ينعكس على الاستنتاجات والمواقف والأفكار والتيارات واختيار
الموضوعات لهذه الدراسة إلى حد كبير.
- هل تغيرت أهداف الاستشراق الروسي أو وسائله أو مناهجه من روسيا
القيصرية إلى الشيوعية إلى المعاصرة؟
نعم! في روسيا القيصرية كان يمكن التمييز بين الاتجاهين الرئيسين لعلم
الاستشراق: الاتجاه الأكاديمي العلمي البحت الموضوعي المنصف المحايد،
والاتجاه الآخر الذي كان يخدم السياسة القيصرية في المناطق الشرقية المسلمة في
آسيا الوسطى مثلاً، وهذا لا يعني تلقائياً أن هذا الاتجاه كان هو السائد أو كان غير
علمي. أضرب لكم مثالاً: في روسيا القيصرية صدر كثير من الكتب في الشريعة
الإسلامية مترجمة من اللغات المختلفة التركية أو الفارسية أو الإنجليزية التي كانت
واسطة عن اللغة العربية. ما هي الأغراض والدوافع لهذه الأعمال؟ أَطَّلِعُ الآن
على بعض الكتب التي صدرت في طشقند قبل الثورة، أجد مثلاً كتاب (هداية
المرغيناني) ، وهو من أهم المراجع في المذهب الحنفي، معروف ومحترم جداً في
آسيا الوسطى، وهذا الكتاب صدر تحت رعاية الجنرال المحافظ، إذن هو الممثل
لقيصر هناك، نجد أنه يقول بشكل مباشر في المقدمة: إنه لأغراض السياسة
الاستعمارية للقيصر من الضروري أن نعرف أعراف وتقاليد الرعية والشعوب
القاطنة. اعتراف مباشر بهذه الأغراض؛ ولكن النتيجة: اختيار المرجع الصحيح
وترجمته ترجمة جيدة.
بعد الثورة البلشفية بقيت بعض الدراسات الاستشراقية العلمية وكانت موجودة
حتى في ذروة النظام الشيوعي، ربما كانت محدودة ضيقة تتأثر بالأفكار السائدة في
المجتمع السوفييتي في تلك الآونة، ولكنها كانت علمية؛ بمعنى أن لها قيمة علمية؛
ولكن إلى جانب ذلك برز بعد الثورة الاتجاه الآخر: الاتجاه غير العلمي الذي يقوم
على خدمة الفكر الشيوعي فقط.
أضرب لكم مثالاً شخصياً بسيطاً: في أواخر الثمانينات بعد بداية
البروسترويكا ولكننا كنا ما نزال نعيش في ظل الأفكار الشيوعية ذهبت إلى دوشنبيه
بجمهورية طاجيكستان (الآن جمهورية مستقلة) وألقيت محاضرة في كلية الحقوق
بالجامعة الطاجيكية عن الشريعة الإسلامية، موقفي من الشريعة واضح لكم: كيف
أستعرض هذه الشريعة ثقافةً قانونيةً متطورةً ذات إمكانات بلا حدود وقيم ومبادئ
قانونية في غاية التطور. بعد أن انتهيت من المحاضرة قام أحد الأساتذة الطاجيك
المسلمين مسلمين طبعاً اسماً؛ ولكن من الذين نشؤوا في هذا المجتمع، وأنا من
موسكو ولست مسلماً قال هذا البروفيسور: نحن الآن نستضيف الدكتور البروفيسور
من موسكو، وهو يدعونا لدراسة علمية موضوعية للتشريع الإسلامي، نحن عندنا
موقف يختلف اختلافاً كبيراً عن ذلك، نحن لا ندرس الشريعة الإسلامية؛ ولكن
نحن ننتقدها، وأنا استفسرت: هل أنت يمكن أن تنتقدها قبل دراستها؟ حتى إذا
كنت تريد نقد أي ظاهرة فقبل كل شيء من الضروري علمياً لإنجاح نقدها أن
تدرسها. هذا كان مثالاً لأهداف علم الاستشراق في روسيا الشيوعية؛ ولكن من
الضروري ألا ننسى أنه كانت حتى في تلك الآونة توجد دراسات جيدة جداً، إلى
جانب هذه الدراسات الدعائية التي كانت تخدم التيار الفكري الشيوعي وتخضع له.
أما الآن: فالمشكلة عندنا أنه ليس هناك أي توجه ولا أي ضوابط، وأيضاً
ليس هناك أي قيود ولا شروط؛ فالحرية كاملة، وهذا شيء جيد للإبداع العلمي؛
فالإبداع العلمي يثريه حرية الرأي واختلاف وجهات النظر، هذا من ناحية؛ ولكن
من ناحية ثانية: عدم وجود ضوابط أو اتجاهات معينة يسير عليها البحث العلمي قد
يكون مضراً له؛ كالسفينة إذا كانت مربوطة من جميع جوانبها فإنها تقف، ولكن
إذا ألقيناها في البحر دون أي خارطة أو ضوابط فإنها تغرق آجلاً أم عاجلاً؛ فكلا
الطرفين غير مقبول؛ ولكن المشكلة الأساسية في علم الاستشراق الحالي ليست في
المجال الواسع للخيار والحرية. المشكلة التي تؤثر الآن تأثيراً مباشراً على
الاستشراق الروسي تكمن في الظروف الصعبة جداً للباحثين وبقاء مثل هذا العلم من
خلال اعتباره علماً.
- هل نعتبر أن الاستشراق الروسي يغرق الآن؟
نعم.. نعم..
- إذن: ما سبل إنقاذه في رأيكم؟
هناك عدة سبل، أول شيء: الاعتماد على الذات، ثم روح الإبداع،
وإخلاص الباحثين أنفسهم لموضوع بحثهم، ولكن هذه العوامل وحدها غير كافية،
من الضروري تأييد البحث العلمي ودعمه من الاتجاهات المختلفة، وقبل كل شيء
يجب أن تدعم الدولة جميع البحوث العلمية بما في ذلك الأبحاث والدراسات
الاستشراقية؛ للأسف الشديد! ميزانية الحكومة الآن ضعيفة، ليست كافية لمعاشات
كبار السن، فكيف بالنسبة للمنح الدراسية، ومن الصعب أن نأتي في هذه الظروف
ونطلب من الحكومة دعم الدراسات الاستشراقية، فمن الضروري أن ندرس كيفية
استعمال إمكانات القطاع الخاص والأهلي والخيري والشركات التجارية لدعم
الدراسات العلمية عامة والاستشراقية خاصة، وهذه أيضاً مهمة صعبة؛ لماذا؟ لأنا
نحن العلماء الباحثين لم نتعود أن نبحث عن هذا الدعم من هذه الجهات، نحن
تعودنا على تأليف الأبحاث والتعامل مع المراجع أو ترجمتها، ولكن البحث عن هذا
الدعم يتطلب بعض الكفاءات والإمكانات الأخرى، ومثل هذه المؤسسات التي يمكن
أن تتولى هذه الرسالة التنظيمية غير موجودة للأسف الشديد!
هناك الأساليب الأخرى: أساليب اللجوء إلى دعم هذه الدراسات من بعض
المؤسسات أو الأجهزة خارج روسيا التي يمكن أن تأخذ موقفاً إيجابياً من هذه
الدراسات للأهداف الحضارية والثقافية والعلمية، وبصراحة: بعض المؤسسات
الخارجية تدعم الآن الدراسات الأكاديمية في روسيا بما في ذلك إلى حد محدود جداً
الدراسات الاستشراقية.
بالنسبة لعلم الاستشراق ربما لا يستفيد من هذا الدعم مثل القطاعات الأخرى
للعلوم، فالعلوم الأخرى: كالفيزياء، والرياضيات، وغيرها من العلوم التجريبية،
هناك دوافع للاهتمام بها، أما بالنسبة للاستشراق فنحن نشعر بنوع من الدعم؛
ولكن مع الأسف الشديد! هو دعم محدود جداً، وليس كافياً للحفاظ على هذا التراث
العلمي.
النقطة ولو سمحتم أن أركز الاهتمام على هذه النقطة.. أنا باعتباري مستشرقاً
متخصصاً في الدراسات الإسلامية والشرعية كثيراً ما ألتقي مع زملائي المسلمين
من البلدان العربية سواء في المؤسسات الحكومية أو الأهلية والشعبية أو غيرها
وأتفاهم معهم بشكل كامل، وكثيراً ما أشعر باهتمامهم بحال المسلمين والإسلام في
روسيا، وكثيراً ما ألمس أن مثل هذا الاهتمام مخلص ينطلق من الصدق وحسن
النية والرغبة في المساعدة لحال المسلمين، وفي الحقيقة نحن نُسَرُّ بمثل هذا الدعم.
مثلاً: مساجد تبنى، معاني القرآن الكريم باللغة الروسية تترجم وتطبع
وتوزع، الطلاب الروس الدارسون في الجامعات الإسلامية بالعشرات، فهذا كله من الدعم للإسلام والمسلمين في روسيا، ونحن نقدر هذا الدعم تقديراً كبيراً؛ ولكن هناك نقطة مهمة: إذا سمعت أي أحد يقول إنه يهتم بصدق وإخلاص بحال المسلمين ووضع الإسلام في روسيا ويرغب في أن تكون هذه الحال أفضل، وفي الوقت نفسه لا يعي أهمية العناية بالدراسات الأكاديمية العلمية، فمعنى ذلك: أنه ربما لا يفهم فهماً صحيحاً الصورة الموضوعية الحقيقية للإسلام في روسيا.
تفصيل ذلك أقوله لكم: الآن عندما نريد حل القضايا الأساسية للمسلمين في
روسيا بعد المرحلة الأولى للصحوة الإسلامية.. نحن مررنا بهذه المرحلة بسرعة،
الآن المساجد موجودة، المصحف الشريف موجود يباع ويوزع مجاناً في كل مكان،
عدد الحجاج في عهد الشيوعية كان سنوياً ربما (٥) أو (١٠) أشخاص، الآن (٢٠)
ألف، ولكن بعد هذه المرحلة التي مررنا بها بسرعة نحن نواجه المرحلة الجديدة
اللاحقة لتطوير وتغيير أحوال المسلمين نحو الأفضل، وهذه المرحلة ستتوقف قبل
كل شيء على معاملة المجتمع غير المسلم للإسلام والمسلمين، وتتوقف على كون
الإسلام وثقافته ومنجزات حضارته جزءاً من الثقافة الروسية العامة.
فكرتي أننا لا نستطيع أن نقصر الجهود داخل المسلمين، لا نستطيع أن نرفع
مستواهم والمجتمع الروسي لا يقبلهم على سبيل المثال أو عنده صورة مشوهة عن
الإسلام، لا نستطيع أن نرفع مستوى المسلمين دون استصدار القرارات السياسية
والتشريعية بحق المسلمين. من يتخذ مثل هذه القرارات؟ المسلمون؟ .. لا،
السلطات الرسمية هي التي تتخذها: البرلمان، الحكومة، الوزارات. وعلى هذا
الأساس: من الضروري أن نتعامل مع هذه الهيئات إقناعاً لها بضرورة حل هذه
القضايا لمصلحة المجتمع الروسي كله؛ فمن يمكن أن يحمل هذه الرسالة في روسيا؟ للأسف الشديد! الكفاءات والمؤهلات الضرورية لمثل هذه الرسالة غير موجودة
عند المسلمين في روسيا.. العلماء والباحثون هم الذين في إمكانهم أن يعملوا على
أن يكون التراث الإسلامي جزءاً من الثقافة الروسية.
أضرب لكم مثالاً شخصياً بسيطاً: عندنا في كليات الحقوق الروسية يوجد
مقرر تاريخ الفكر القانوني العالمي، منذ سنتين صدر الكتاب الدراسي المقرر
ولأول مرة في تاريخ روسيا يحتوي على الباب الخاص للفكر القانوني الإسلامي،
أنا ألفته وهذا إسهامي اليسير جداً، فإذا كان هناك أي فقيه مسلم يمكن أن يقوم بذلك
فأهلاً وسهلاً، ربما كانت هذه النقطة بسيطة ولكنها تعكس الصورة العامة بأن
الخطوات اللاحقة لرفع المستوى ومعالجة قضايا المسلمين في روسيا تتوقف على
كون الإسلام والثقافة الإسلامية يمثلان عنصراً وجزءاً لا يتجزأ من الحضارة
والثقافة الروسية بمجملها؛ كي يقترب المجتمع الروسي بتدرج ويتعرف على
منجزاتهما ومكتسباتهما، ليس المجتمع بفئاته فقط؛ بل أيضاً الأجهزة الحكومية
الرسمية، وهذا ربما أهم.
فبدون المستشرقين وبدون العلماء الباحثين إذا خفتم من كلمة مستشرقين لا
يستطيع غيرهم حل مثل هذه القضايا للأسف! فرأيي الشخصي وربما أكون مخطئاً
فيه وأنا أتحمل المسؤولية عنه: أنه بدلاً من منح بعثات لمئة طالب مسلم روسي
مثلاً لأي كلية إسلامية في أي دولة عربية أو مسلمة، ربما يكون الأفضل تأهيل
تسعين فقط، والمخصصات التي كانت ستنفق على العشرة الآخرين يتم تخصيصها
لدعم الدراسات، والنتيجة ستكون أكثر فاعلية بلا شك، أنا مقتنع بذلك؛ لأن عندي
إحصائيات ودراسات عن ذلك، عندي اقتناع كامل بهذا. الخرِّيج في أي كلية هل
يمكن أن ينشر المقالات رأساً في الصحف والمجلات في روسيا لتوعية أو تثقيف
الرأي العام الروسي؟ لا.. أنا وزملائي نقدر على ذلك؛ ولكن ليس عندنا الوقت
الذي نخصصه لهذه العملية، نحن نتحرك باستمرار ليل نهار لكسب عيشنا..
إذا كان هناك اهتمام مخلص بقضية المسلمين فربما تكون هنالك إمكانية
الاستفادة من المخصصات نفسها ولكن بفاعلية أكثر ومردود أكبر عندما توجه إلى
هذا الاتجاه.
- لو قلنا إن الاستشراق عموماً سواءً الروسي أو غيره، كان له في بداية
النشأة كما تفضلتم ارتباطات استعمارية.. الآن وقد تغير الشكل القديم للسيطرة على
الأقل، فهل تطور الاستشراق بتطور أشكال السيطرة؟
شكراً على هذا السؤال المصيب.. نعم! بصراحة بالنسبة للحالة الراهنة لعلِّي
لا أستطيع أن أعطيكم رؤية شاملة لمجالات الاستشراق بشكل عام، أما بالنسبة
لمجال الدراسات الشرعية فأنا أعرف الحقيقة جيداً عن علم الاستشراق الأوروبي أو
الغربي، أنا اشتركت في ندوتين: مؤتمرين دوليين بخصوص الشريعة الإسلامية،
أولهما: انعقد سنة ١٩٩٤م بهولندا بمدينة ليدن، والثاني: انعقد عام ١٩٩٧م في
غرناطة بالأندلس (إسبانيا) ، وعندي صورة كاملة لمستوى دراسات الشريعة
الإسلامية في البلدان الغربية؛ فقد اشترك في المؤتمر الأول والثاني في حدود (٤٠)
باحثاً أكاديمياً من معظم البلدان الغربية.. مستوى رفيع جداً، متطور للغاية، أنا
استغربت، لم أتصور مثل هذا المستوى: الرجوع إلى آلاف المراجع، عندهم
الإمكانات، في كندا في أمريكا في بريطانيا في فرنسا في هولندا، عندهم تقاليد،
عندهم التراث.. كثير من العرب يعملون هنالك، يقومون بالدراسات الاستشراقية،
وليس العرب وحدهم، ولكن أيضاً هناك شباب أصحاب مستوى رفيع جداً. على
هذا الأساس أقول: الأغراض الاستعمارية كانت وما زالت باقية وموجودة في علم
الاستشراق؛ ولكن صدقني! العلماء الجادون لا يعرفون حتى أسماء هؤلاء الذين
ينشرون المقالات الدعائية الاستعمارية، أبداً، إطلاقاً، في العلم الجاد لا توجد مثل
هذه الأسماء، في العلم الجاد يعرف كل واحد منهم زملاءه فيه، أما أسماء الذين
ينشرون المقالات السطحية أو الدعائية للأغراض السياسية لتأمين السيطرة الفكرية
وغيرها، فهؤلاء ليسوا علماء.
ولكن عموماً: هذا الاتجاه موجود، عند الاطلاع على الصحف والمجلات
العامة غير الأكاديمية الجامعية نجد بعض المقالات والمنشورات ذات الطابع الدعائي
المحض مكتوبة للأغراض السياسية البحتة دون شك ونجد هذه المقالات موجودة في
الصحف الروسية، وهنا أذكر نقطة مهمة جداً: هؤلاء في كثير من الأحيان لا
يوقعون على هذه المقالات بأسمائهم الحقيقية.
النقطة المهمة التالية: في بعض الأحيان يركز بعض زملائي الباحثين
والعلماء والفقهاء على الدور الاستعماري لعلم الاستشراق الغربي وهذا التركيز
صحيح من ناحية، ومن ناحية أخرى قد يحجب هذا التركيز البعد الآخر.. أنا
مقتنع شخصياً بالاستنتاج التالي: إذا كان العالم الغربي غير المسلم بما في ذلك
روسيا يعرف شيئاً مَّا موضوعياً حقيقياً عن الإسلام فالفضل يعود إلى علم
الاستشراق، ليس إلى المؤلفين أو العلماء المسلمين، هذه حقيقة أكيدة أدافع عنها في
أي محكمة! .. نعم هناك صورة مزيفة؛ ولكن إذا كانت هناك دراسات منصفة؛
فمن يؤلفها؟ للأسف الشديد! العلماء المسلمون يقتصرون على المجتمع المسلم
والقارئ المسلم ولا يتوجهون إلى المجتمع غير المسلم، وإذا كان طلاب كليات
الحقوق الروسية يعرفون شيئاً ما عن الشريعة الإسلامية فقد أخذوها من الكتاب
الدراسي في تاريخ الفكر القانوني العالمي، وللأسف الشديد! في بعض الأحيان
تترجم بعض الكتب وبعض المراجع من العربية إلى الروسية وتنشر وتوزع بعد
ذلك في روسيا، وتكون النتيجة نظراً للخطأ في اختيار الكتب المترجمة أو لكون
الترجمة ضعيفة جداً.. تكون النتائج لهذا النشاط معاكسة للأهداف الدافعة لها،
وعندي نماذج في مكتبي بعمادة كلية البحث العلمي.. أنا لا أقيِّم المضمون ولكن
الترجمة الروسية لا أجد أي سطر بدون أخطاء.. ما هو الانطباع لأي قارئ يطلع
على هذه الكتب؟ .. سلبي طبعاً.