للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تأملات دعوية

[حدثني من لا أتهم]

بقلم: عبد الله المسلم

حدثني من لا أتهم، أو حدثني أحد الثقات: عبارة يصدِّر بها بعض الدعاة

والأخيار حديثهم حول ظاهرة من الظواهر، وتكون مستندهم في إصدار الأحكام

عليها.

ويكثر ذلك في القضايا التي تعني واقع المسلمين ومجتمعاتهم؛ ولعل القضية

الأفغانية خير شاهد على ذلك؛ فكثيراً ما يذكر المتحدث أن مصدره شخص ثقة قدم

من هناك.

ويكثر ذلك أيضاً في إصدار الأحكام على الإسلاميين والجماعات الإسلامية؛

فالناقل شخص خالطهم، وربما كان منهم، وقابل فلاناً وفلاناً؛ وهو ثقة.

وتعظم الرزية حين ترى رجلاً له مكانته في العلم والخير لدى الناس يُصدر

أحكاماً بناءً على آراء هؤلاء الثقات! وقد تكون هذه الأحكام جائرة بعيدة عن

الصواب، رغم أن الناقل والمصدر ثقة كما يقال.

وثمة مداخل على رواية هذا الرجل الثقة أدت إلى ضرورة إعادة النظر في

خبره، فقد يكون ثقة في دينه، بعيداً عن الكذب لكنه لا يسلم من غفلة وتخليط

وضعف ضبط، وكم ردّ أهل الحديث رواية بعض الرجال مع بلوغهم الغاية في

الزهد والصلاح.

وقد يكون هذا الثقة نقل عن مصدر وشخص آخر لا يسلم من الطعن في

ضبطه وحفظه، أو في صدقه وديانته، وكثيراً ما يحدِّث هؤلاء الثقات عن فئات

من السذج والبسطاء، فيتلقون منهم الأخبار وتقويم الواقع، فيغيب عمن يروي عن

الثقة حقيقة مصدره.

وقد يكون له هوى في المسألة والهوى من المداخل الخفية فيؤثر الهوى في

تلقيه وتلقفه أي خبر، ويكون لديه الاستعداد لسماعه ورؤيته كما يريد، ويغفل عما

سوى ذلك؛ فمن يعجب بشخص أو فئة تشده المحاسن، ويوغل في النظر إليها

وتضخيمها والحديث عنها، ومن يكون غير ذلك تشده المساوئ، ويبحث عنها

ويفرح بها، بل يضخمها ويتمحل في إثباتها.

وحين يجتمع هذا الهوى والاتجاه لدى كل من الناقل والمنقول له، أو لدى

الثقة! والذي حُدث بذلك: تتهيأ الأرضية المناسبة لتحويل الأوهام إلى حقائق،

والظنون إلى قطعيات لا تقبل الجدل.

وقد يكون الراوي ثقة في نفسه، لكنه يخلط تقويمه وموقفه الشخصي من

القضية بخبره، فيختلط الأمر على السامع، وهذا مأخذ دقيق؛ فتقويم الشخص مهما

بلغ من الثقة والعمق والديانة يبقى رأياً شخصياً يجب أن يُفرّق بينه وبين الرواية،

وقليل من الناس من يجيد التفريق بين الرأي والتقويم الشخصي وبين الرواية التي

مبناها على الثقة والأمانة.

وقد يؤتى الثقة من جهة التعميم فيرى واقعاً وصورة محدودة فيعممها؛ كما هي

الحال لدى أولئك الذين يسافرون إلى بلاد أخرى، فيرون زاوية ضيقة محدودة من

الواقع، فيتحدثون بها على أنها تمثل المجتمع وتنطبق عليه، ويصدرون أحكامهم

بناء على أنهم يعون هذا الواقع وعياً تاماً.

وقد يكون الشخص الثقة بطبيعته ميالاً للمبالغة، وما أكثر ما يتلقى الناس

أخباراً لو حكموها بعقولهم لشعروا أنها غير معقولة، ولذا كان الذهبي رحمه الله يرد

بعض الأخبار التي تُروى من هذا القبيل، كما قال عما روي أنه حرز من يحضر

مجلس ابن الجوزي بمائة ألف: (وريب أن هذا ما وقع، ولو وقع لما قدر أن

يسمعهم، ولا المكان يسعهم!) [١] .

وكما قال عما روي عن أبي منصور الخياط أنه أقرأَ سبعين ألفاً من العميان:

(قلت: هذا مستحيل، والظاهر أنه أراد نفساً، فسبقه القلم فخط ألفاً) [٢] ..


(١) سير أعلام النبلاء (٢١/ ٣٧) .
(٢) سير أعلام النبلاء (١٩/٢٢٣) .