للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[العصر الروماني الحديث قراءة في واقعنا السياسي]

د. يوسف بن صالح الصغير [*]

[email protected]

قامت الإمبراطورية الرومانية على أنقاض الحضارة اليونانية، وعاشت فترة

تمثل ما يمكن تسميته: (القطب الواحد) فهي دولة استعمارية ذات حضارة مادية

وثنيةٍ العدلُ فيها والحرية والسلطة والثروة هي فقط لطبقة الأسياد من الرومان؛ أما

البقية فهم عبيد؛ حتى الشعوب الخاضعة لهم مستعبدة لم تشاهد من الحكم الروماني

سوى القلاع والمدن العسكرية، وحتى الطرق المرصوفة فهي أساساً لأسباب

عسكرية، أما المسارح الرومانية فهي خاصة للترفيه عن الطبقة الحاكمة، وهي

تعبّر عن نفسية الروماني ونظرته للآخرين، إنها مسارح ضخمة بُذلت جهود كبيرة

في بنائها. أما النشاطات فهي تتراوح بين مصارعة رومانية، أو سباق للعربات،

وبين تمثيل واقعي للمعارك البحرية تتقابل فيها السفن وتتقاتل ويموت البشر..

آسف لا إنهم مجرد عبيد يموتون في سبيل إسعاد الأسياد.

وأخيراً يمكن التلذذ بمشهد الصراع بين الإنسان والحيوان المفترس،

والمعركة تنتهي غالباً بأكل الضحية البائسة أمام الجماهير، وأحياناً بانتصار البطل؛

إنها مجرد عقوبة شائعة للعبيد الآبقين.

وفي النهاية سقطت الدولة الرومانية ولم تخلف للعالم سوى مجلس للشيوع

وبقايا حجرية تحكي قصة حضارة مادية لم يبق لها أثر في واقع الناس أو أفكارهم؛

لأنها مجرد قوة غاشمة مرت وولت؛ ولأنها حجرية لم يبق منها سوى الحجر.

والذي يهمنا هنا أننا نعيش اليوم في عصر روماني جديد تمثله الولايات المتحدة

الأمريكية؛ إنها حضارة مادية مجردة من الفكر تعبد القوة وتحلم بالسيطرة الكاملة

على العالم. نعم! لقد أقامت الهيئات السياسية والاقتصادية العالمية مصدرةً من

خلالها الأنظمة والقوانين ذات البريق والتي تطبقها أحياناً على من تشاء، وتدوسها

عندما تشاء؛ فمثلاً عقدت محاكمات عديدة لمجرمي الحرب منذ الحرب العالمية

الثانية حوكم فيها الأعداء ولم يحاكم فيها غربي واحد من غير النازيين من الذين

أحرقوا المدن الألمانية وقتلوا مئات الآلاف من المدنيين في أوروبا أو من الذين

دمروا طوكيو ومن بعدها هيروشيما وناجازاكي، أو من الذين دمروا المدن الكورية

والفيتنامية! أما في بلاد المسلمين فقد حصلت الجرائم الفظيعة ضد الشعوب

المستضعفة؛ فأين محاكم مجرمي الحرب عمن قتل الآلاف واستعمل الأسلحة

المحرمة في مراكش والجزائر وليبيا ومصر؟ ! وأين هم من جريمة سلب

فلسطين من أهلها وتسليمها لحلفائهم من اليهود؟ ! وأين هم مما يجري في كشمير

والشيشان؟ ! إنها ببساطة مبادئ وقوانين مصابة بعمى الألوان. والأدهى من ذلك

أن النظام التشريعي والقضائي الأمريكي قد تعرى ولم يصمد أمام التجربة الحالية،

وأصبح مجلس الشيوخ والنواب لا يختلف عن مجالس الشعب واللجان المركزية في

مظاهر التصويت الصورية التي لا تصدر عن نقاش وطرح فكري، بل هي مجرد

صدى لموقف سياسي فوقي يراد له أن يسود..!

إذا كان الهوس بالقوة وإظهار التفوق قد أبرز في العصر الروماني الأول عن

طريق المسابقات الدموية التي سبق ذكرها فإننا نجد الشبيه بها والبديل عنها هو الكم

الهائل من إنتاج هيوليود والآلة الإعلامية الأمريكية الذي يدور حول محور أساسي

هو محاولة تسويق فكرة التفوق في كل شيء حتى في المثل العليا وطريقة الحياة

والأكل.

ويتبين لك مدى التزييف المتعمد عند استعراضك كيفية عرض وتسويق وجهة

النظر الأمريكية في عملية إبادة السكان الأصليين وتصويرهم أنهم أناس بدائيون لا

يستحقون إلا الموت؛ لأنهم لم يرحبوا بالمستعمرين ويرحلوا طوعاً عن ديارهم من

أجل رسل التطور وطليعة السلام؛ ولأنهم مارسوا العنف كما يمارسه الشعب

الفلسطيني الذي يتطلع قادته الحاليون للتدخل الأمريكي النزيه!

إن المفهوم الأمريكي للحق والعدل يعني القوة والقوة فقط، وكما قيل فإن

المنتصر هو الذي يكتب التاريخ.

لقد كتب المنتصرون تاريخ الحرب الأهلية الأمريكية، وصوروها زوراً

وبهتاناً أن مئات الألوف من البيض ماتوا في سبيل تحرير العبيد. والذي حصل هو

مجرد تحول العبيد من عمالة مجانية في مزارع الأغنياء في الجنوب الأمريكي إلى

عمالة رخيصة في مصانع الرأسماليين الشماليين. وأيضاً فإن المنتصر هو الذي

كتب تاريخ الحربين العالميتين الأولى والثانية والتي لا تعدو كونها حرباً نشبت بين

الذين تداعوا على القصعة ولم يتفقوا على القسمة، وهي بالنسبة لأمريكا حرب

أخلاقية عادلة؛ لأن ألمانيا هددت التوازن في أوروبا والشرق الأدنى، واليابان قد

اعتدت على المستعمرات الأوروبية في آسيا مما يعني أن من حق أوروبا الغربية

وأمريكا احتلال الهند وجنوب شرق آسيا والفلبين وإندونيسيا، وليس هذا من حق

اليابان؛ لأنه استعمار آسيوي بغيض. ونحن هنا لا نقول إن الاستعمار الياباني

حسن، ولكن الحرب هي مجرد تنافس استعماري ليس له أي جانب أخلاقي.

ونعود إلى تأكيد أن القوة هي الأداة الوحيدة في نظرهم التي تجعل حججك مقبولة

وأقوالك معتبرة ومفهومة. ولقد صورت الدعاية هتلر على أنه مجرم العصر،

وتعاملت في الوقت نفسه مع السفاح ستالين وتحالفت معه واتفقت معه في مؤتمرات

طهران والدار البيضاء ويالطا على تقاسم العالم.

وبعد مرحلة التحالف الشيوعي الغربي ضد الفاشية والنازية البغيضة أصبحت

الشيوعية التي تنافس الغرب على العالم هي الوحش الكاسر، ورفع شعار تحرير

أوروبا الشرقية، وظهرت الدعوات لاتحاد المؤمنين ضد الملاحدة، وبرزت الدعوة

للحوار بين الأديان، ولكن ما أن تداعى النظام الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفييتي

حتى رفع الغرب شعار صراع الحضارات، وبدأت البحوث والدراسات تحذر من

خطر الإسلام، وظهرت أفلام عنف تمثل الشخصية العربية المسلمة في قالب العدو

الشرس، وتراجع الهندي الأحمر والألماني والياباني والروسي والفيتنامي ليحل

محله صاحب اللباس العربي واللحية الطويلة في عملية إعداد وتهيئة لغوغاء الغرب

للدخول في صراع طويل مع العدو الجديد.

ولا يفوتنا هنا تداخل هذه الأفلام مع أفلام رعب خيالية تساهم في تشكيل

الشخصية النمطية للفرد الروماني الحديث المستعد لتطبيق المشاهد التلفزيونية

والكمبيوترية على أرض الواقع في حروب أهم ما فيها هو النصر والنصر فقط،

أما سبب الحرب وأسلوبها فهي أشياء ثانوية؛ وقد دخلت روما الحديثة حربها

التلفزيونية الأولى مع العراق وهي حقاً حرب تلفزيونية سهلة تشبه ألعاب الكمبيوتر:

الخسائر فيها من طرف واحد، وهي تحاول تكرار التجربة في حربها الثانية في

أفغانستان؛ فهل تنجح أم أن هذه الحرب ستكون مختلفة في وسائلها وتداعياتها؟

وهل تستطيع روما الجديدة تحقيق النصر في حرب تحتاج إلى أكثر من القوة

المجردة؟ هذا ما سأحاول إلقاء الضوء عليه عن طريق تحليل مجريات الحرب في

أفغانستان، وتلمس الاحتمالات التي يمكن أن تؤول إليها الأحداث.

حكومة التحكم الآلي:

حتى نتصور حال الحكومة المفروضة على أفغانستان فإنه يكفي مراقبة

تصرف رئيس الحكومة المعين حامد قرضاي فإنه من خلال جولاته في روما لمقابلة

الملك، أو في طوكيو في اجتماع الدول المانحة، أو خلال مراسم التنصيب، أو

أثناء انعقاد مجلس الوزراء يتصرف كالتائه؛ فهو في حركته يكثر التلفت والوقوف؛

فهو يجمع بين عدم الثقة والخوف والإحساس بالعجز، وهو رجل أمريكا المعين

على مضض؛ فلم تكن الأحداث المتسارعة تسمح بالتأني في اختيار الرجل

المناسب، ولم يكن يدور في خلده أو خلد أمريكا أنه سيصبح رئيس حكومة

أفغانستان؛ فقد كانت مهمته الأصلية مجرد إزعاج طالبان في جنوب أفغانستان

ومحاولة تأليب القبائل ضدها، وقد سبقه في مهمة مماثلة من هو أقدر منه وهو

المجاهد السابق عبد الحق الذي كلفته أمريكا بمهمة ضد طالبان، ولكنه وقع في أسر

طالبان وتم إعدامه، أما قرضاي فقد تم إنقاذه من مصير مشابه عن طريق

الطائرات الأمريكية، وكان دوره هو قيادة بعض رجال القبائل المناوئين لطالبان،

وهو في ذلك الدور أضعف من القادة الجدد في جلال آباد الذين شاركوا في مطاردة

القاعدة في تورا بورا، وأيضاً لا يبلغ قوة حاكم قندهار السابق الذي أعاد السيطرة

عليها بعد انسحاب طالبان منها، وكان اختياره لتمثيل البشتون نابعاً من أنه إذا كان

الآخرون من أعداء طالبان لهم تاريخ أسود فهو ليس له تاريخ؛ فهو مجرد زعيم

قبلي حديث العهد يحمل الجنسية الأمريكية طرح اسمه وفرض ترشيحه في المراحل

الأخيرة من مؤتمر روما، وتم تنصيبه وفوق رأسه صورة ضخمة لأحمد شاه

مسعود القائد العسكري الحقيقي السابق للجمعية الإسلامية التي تسيطر على كابل؛

مما يدل على حقيقة القوى على الأرض في كابل؛ حيث يعتمد قرضاي في كابل

على القوات الدولية وهي قوات تابعة لحلف الأطلسي تستظل بعلم الأمم المتحدة.

ونظراً لعدم قدرة قرضاي والقوات الدولية على السيطرة على كابل بدون

قوات أفغانية فقد تراجعت الحكومة عن إخراج قوات الجمعية، واستبدلت ذلك

بتعيين دوستم نائباً لوزير الدفاع لإيجاد توازن ظهر أثره في الصراع الدموي بينهما

في قندز والمناطق الحدودية مع طاجكيستان.

وإذا كانت السيطرة على كابل مشكلة فإن بسط السيطرة على مختلف الولايات

مشكلة أخرى بلغ من صعوبتها أن القوات المساندة لأمريكا والتي تستظل بعلم الأمم

المتحدة قد حصرت مهمتها في حماية المؤسسات الحكومية في كابل فقط وحماية

قوافل الإغاثة إذا كان هناك قوافل، وقبلت بريطانيا قيادتها لمدة ثلاثة أشهر فقط يتم

بعدها توريط دولة أخرى يبدو أنها ألمانيا، بيد أن هناك مطالب بقيادة أمريكية لكل

القوات من أجل القضاء على التناقض القائم بين مهمة تثبيت الحكومة في كابل

ومهمة أخرى غير واضحة؛ لأنها ترفع شعار القبض على أسامة بن لادن حيناً،

والقضاء على جميع أعضاء القاعدة حيناً آخر.

أما بالنسبة لطالبان فالأمر كذلك فيه تردد في طريقة التعامل؛ فهو أحياناً

الإبادة في الشمال ورفع شعار أنه لا مكان للأسرى في هذه الحرب. وأحياناً أخرى

إعلان الاكتفاء بنزع السلاح في المناطق الجنوبية، ولكن الثابت أن القوات

الأمريكية ترى أن لها الحق بالقيام بأي عمل عسكري أو أمني بدون الرجوع لأي

جهة في أفغانستان حتى لو كانت حكومة يرأسها شخص فرضته هي نفسها. وإذا

كان هناك اسم يمكن إطلاقه على حرب أمريكا في أفغانستان حتى الآن فهو (حرب

المرتزقة) ؛ فنحن أمام حرب يحركها المال، والمصالح المتشابكة فيها نجاحات

وإخفاقات للجانبين؛ مع العلم أن الحرب ما تزال في بداياتها؛ فقد انتهت المرحلة

الأولى وهو ما يمكن تسميته الحرب التقليدية أو الحرب الجوية أو الحرب

التلفزيونية؛ حيث إن عدم التكافؤ في آليات هذه المرحلة جعلها تمارس من طرف

واحد، وأصبح همُّ الطرف الآخر وهم طالبان الخروج من هذه المرحلة بأقل

الخسائر الممكنة والوصول إلى وضع يمكن معه تدشين مرحلة جديدة يمكن فيها

لطالبان ومن معهم من المجاهدين الدخول في مواجهة مباشرة غير تقليدية يملكون

فيها عناصر تفوُّق على الخصم المحروم من استخدام قوته المفرطة أمام عدو غير

محدد بوضوح لا من حيث الهيئة ولا من حيث الوجود الجغرافي، وهذه المرحلة

تعتبر المرحلة الثالثة. أما المرحلة الحالية فهي المرحلة الثانية وهي مرحلة انتقالية؛

حيث تمكن الطالبان من تجاوز المرحلة الأولى بنجاح.

وهمّ كل طرف من الأطراف الاستعداد للمرحلة التالية؛ فمن جانب القوات

الأمريكية فهي تحاول جاهدة جس نبض المجاهدين عن طريق عمليات خاطفة تريد

منها أيضاً رفع معنويات قواتها؛ وكانت النتيجة عكسية نظراً للقصور الاستخباراتي

الشديد؛ فقد أعلنت القوات الأمريكية قيامها بعمليات تفتيش في قندهار ومهاجمة

بعض مخيمات البدو الأفغان، وكانت النتائج سلبية، وقد تبين لها أيضاً أن جميع

الأسرى لديها ليس لهم علاقة مباشرة بالقاعدة لحداثة عهدهم بالجهاد في أفغانستان؛

ولذا لجأت إلى مهاجمة الجرحى المتحصنين في المستشفى الصيني في قندهار لعلها

تقبض على أول العناصر التي يغلب على ظنها أنهم من القاعدة، لكنها لما لم

تستطع القبض عليهم أجهزت عليهم جميعاً.

ومن جانب آخر تستعين القوات الأمريكية الخاصة بقوات بريطانية وأسترالية

تفوقها في القدرات الفردية، ولكن حتى الآن لم تنجح القوات الأمريكية في استثارة

المجاهدين للبدء بحرب العصابات؛ لأن عدد القوات الأمريكية الحالي لا يغري ببدء

مرحلة يراد منها أكثر من إخراج القوات الأجنبية؛ فالهدف يجب أن يكون هزيمة

الجيش الأمريكي وإذلاله؛ وهذا لا يحصل إلا عندما يتضاعف العدد، ويكون فيه

الانسحاب أصعب من الاستمرار في حرب مكلفة.

ويلاحظ في هذه المرحلة الانتقالية توجس المرتزقة الأفغان واستعدادهم

للمرحلة القادمة بتقديم خدمات للمجاهدين، وإطلاق بعض الأسرى، وحماية الأسر،

والامتناع عن القيام بعمليات مؤثرة ضد المجاهدين؛ وكل هذا ليكون لهم يد عند

المجاهدين في مستقبل الأيام، ولم يشذ عن هذا حتى قرضاي؛ حيث قام بإطلاق

مئات الأسرى من طالبان من أجل إظهار حسن النية، ولا يكون إظهار حسن النية

إلا لطرف موجود يرجى ويخشى.

أما نجاح المجاهدين الكبير فهو التواري عن الأنظار ومعهم سلاحهم الخفيف

والثقيل؛ مما أوقع عدوهم في حيرة وارتباك من هذا العدو الموجود وغير الظاهر

للعيان.

حرب أفغانستان: ملامح وتوقعات:

إن أهم خصائص الحرب الأفغانية: هو كونها حرباً دينية؛ فقد أعلن بوش

أنها حرب صليبية، وقد أعلن علماء أفغانستان الجهاد في حالة حصول العدوان

الأمريكي وهو الذي حصل.

ويمكن إيجاز خصائص وملامح الحرب الأخرى بما يلي:

١ - إنها حرب أحلاف؛ ففي جانب وقفت دولة روما الجديدة وأجبرت دول

العالم الأخرى على الوقوف معها، وفي الجانب الآخر كان هناك تأييد شعبي كبير

في العالم الإسلامي مع تعاطف عالمي على مستوى الأفراد، وكانت القوات المتجهة

إلى أفغانستان بين رسمية مع أمريكا، ومتطوعين أفراد وجماعات متحمسين للجهاد

مع طالبان.

٢ - التركيز على القوة الجوية واستعمال الأسلحة الذكية والمحرمة، ونشر

الألغام، وتدمير البنى التحتية؛ مما يدل على عدم مراعاة المرحلة التالية وهي إقامة

نظام بديل وإعادة إعمار أفغانستان كما يدعون.

٣ - تعمد قصف الأهداف المدنية؛ حيث تم استهداف الأحياء السكنية والقرى

ومراكز توزيع الإغاثة؛ وذلك من أجل الضغط الأدبي على طالبان من أجل إخلاء

المدن والتجمعات السكنية خاصة بعد اكتشاف تأثير الحملة الجوية الضئيل على

القدرات العسكرية لطالبان والقاعدة.

٤ - عدم وضوح الخطة السياسية للتعامل؛ حيث حاولت أمريكا في البداية

استرضاء باكستان وتوريطها عن طريق تبني وجهة نظرها في محاولة شق طالبان

وتأليب القبائل مع تجاهل التحالف الشمالي المدعوم من قبل روسيا وإيران. ولكن

بعد إخفاق هذه السياسة اضطرت للتنسيق مع التحالف الشمالي وتأمين الغطاء

الجوي له، وتقدمت قوات الشمال المدعومة بالمرتزقة الروس والحرس الثوري

الإيراني تحت غطاء القاذفات الأمريكية، وتمكنت من احتلال مزار الشريف.

٥ - ارتباك عملية تشكيل الحكومة الأفغانية نتيجة انسحاب طالبان السريع في

كابل، ودخول قوات الجمعية الإسلامية، وإعلان رباني نفسه رئيساً لأفغانستان من

جديد، وكان الروس يطلقون عليه: الرئيس الشرعي. أما أمريكا وحلفاؤها

فيطلقون عليه الرئيس المعزول، وفعلاً تم عزله وتعيين قرضاي ولكن مع بقاء

وزرائه الأساسيين في الدفاع والداخلية والخارجية.

٦ - السادية في التعامل مع الأسرى العزل؛ ولم تتردد القوات الأمريكية في

استعراض عضلاتها أمام الأسرى في قلعة جانجي التي هي بقدر ما وصمة عار

لأمريكا وبريطانيا اللتين تبجحتا في البداية بمشاركة قواتهما في المجزرة مع قوات

الهزارة الرافضية ودوستم الشيوعية؛ فإنها وسام للمجاهدين الذين فضلوا الموت

بشرف بدل الموت بذل ومهانة أثناء التحقيق الهمجي الذي كان يمارس معهم. وقد

اكتشفت ١٥٠ جثة في ساحة القلعة مقيدة الأيدي! ومع ذلك فإن وزير خارجية

بريطانيا ووزير الدفاع الأمريكي لا يريان داعياً للتحقيق؛ لأن الأسرى قتلوا وانتهى

الأمر، ولكن ما يزال الواجب هو تسجيل هذه الجرائم وتوثيقها وجمعها مع مهزلة

أسرى غوانتنامو التي أدت الغطرسة الأمريكية في التعامل مع الأسرى إلى عكس

المراد، وأدت إلى انشقاق علني في مواقف وزير الخارجية ووزير الدفاع مع ردود

الأفعال السلبية حتى بين الجمهور داخل أمريكا.

٧ - تنامي التعاطف الشعبي مع طالبان داخل وخارج أفغانستان؛ فقد أدى

تدهور الأمن وعودة الأمور إلى ما قبل طالبان إلى الحنين إلى أيام طالبان،

والمجاهدين العرب الذين حاول الإعلام تشويههم؛ فقد صعقت جماهير الأفغان

الغفيرة التي تزور قبورهم في قندهار مع وجود حكومة قندهار العميلة ومن وراءها.

أما في الخارج فقد عاد اهتمام الناس بأفغانستان، وسيؤدي تطور الأحداث واشتداد

العمليات إلى تجذر هذا التعاطف وتناميه.

٨ - محاولة الغرب الاستئثار بأفغانستان واتخاذها قاعدة مركزية لمراقبة

الصين وروسيا والتحكم في باكستان وإيران. ئوتبين هذا من اقتصار القوات

المشاركة على قوات حلف الأطلسي تحت علم الأمم المتحدة في كابل، ومشاركة

كندا وأستراليا مع القوات الأمريكية، وسيكون لهذا التجاهل لمصالح الدول

المحيطة أثر كبير في مستقبل الأحداث.

٩ - ضعف الموقف الرسمي الإسلامي وتجاهله لمخاطر الانتصار الأمريكي

السهل في أفغانستان، وأنه سيقوي شهية القيصر الجديد لالتهام دول أخرى وإعادة

تشكيلها.

١٠ - الارتباك الشديد الذي يسود الإدارة الأمريكية وقيادة القوات الأمريكية

في كيفية التصرف أمام حرب عصابات متوقعة في أفغانستان تتزامن مع عمليات

انتقامية قد تقع حتى داخل أمريكا، والمشكلة الأساسية هو حرص الإدارة على نصر

بدون أي خسائر معلنة؛ وذلك أمام عدو لديه استعداد للمواجهة حتى الموت!

وإذا كان خيال حرب فيتنام وهزيمة الروس في أفغانستان ماثلاً أمام القيادة

الأمريكية فإن الصمود البطولي في الشيشان يمثل المثال الذي يحتذى أمام قيادة

المجاهدين؛ حيث إن عملية الانسحاب من كابل وقندهار والصمود في تورا بورا

يشبه إلى حد كبير عملية الانسحاب في جروزني والانحياز إلى جبال القوقاز.

وأخيراً فإن أهم ما أفرزته الأحداث وسيكون له أثر كبير على مستقبلها هو أن

العلاقة بين طالبان والقاعدة لم تعد هي العلاقة بين إمارة إسلامية ذات إطار محلي

داخل أفغانستان توفر الحماية والملجأ لتنظيم جهادي عالمي إلى شبه اندماج سيفرز

حركة جديدة تزداد تجانساً كلما طالت الحرب في أفغانستان والتي تعتمد أساساً على

قدرة أمريكا على تحمل تبعات الحرب وتكاليفها؛ مع العلم أن انسحاب أمريكا من

أفغانستان يستلزم تقليص أو إزالة الوجود العسكري الأمريكي في مختلف أنحاء

العالم الإسلامي، وكما قال بوش إنها الحرب العالمية الأولى في هذا القرن؛ ولذا

فإن الحرب قد تخرج عن نطاق أفغانستان لتشمل وسط آسيا وشبه القارة الهندية

التي تشهد عملية تسخين بين الهند وباكستان قد تؤدي إلى نشوب حروب تخلط

الأوراق.


(*) أستاذ مشارك في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود.