[في ظل خيمة]
نافذة أحمد الحنبلي
الثلوج تتساقط كأوراق شجر يابس.
الريح القوية تساعد الثلوج على التساقط بطريقة عشوائية؛ وتهزّ الخيام الخفيفة التي تكاد تطير كطائر مهاجر هرب عنوة وإكراهاً من الدفء إلى الصقيع.. ولكن أوتاد الخيام تساندها بالتماسك إلى الأرض.
ينبعث صوت أبي أحمد من داخل إحدى الخيام المتراصة المزروعة بين صفوف غير منتظمة على أرض طينية ازدادت تلبّداً من أمطار الشتاء وثلوجه.
أبو أحمد: أين أنت مختبئ يا بنيّ؟
أحمد الصغير يرفع رأسه من تحت إحدى الأغطية الصوفية المهترئة في زاوية الخيمة الأخرى: ها أنا يا أبي هنا، أين الضوء؟ إنني لا أراك.
أبو أحمد: آه يا بني! نفد الزيت من القنديل، لا تخف! إن شاء الله قريباً سيضيء الفجر، ولكن أين يوسف ومحمد وفلسطين وثائرة؟
أحمد: أبي إنهم كلهم هنا بجانبي؛ لأن هذه الزاوية لا يدخل منها هواء كثير.
أم أحمد تحاول أن تتلمس شيئاً في العتمة، ولكنها لا تجد إلا وجه زوجها الحبيب.. أبا أحمد: إن الخيمة فارغة من كل شيء.. حتى الحطب الذي جمعته قبل أسبوع أنا والنّسوة من الغابة البعيدة قد نفد، وحتى العيدان والأوراق التي نحرقها لم يبقَ منها شيء، وأصبح كل شيء رماداً.
أبو أحمد: هوّني عليك يا أم أحمد! في الصباح الباكر ـ إن شاء الله ـ سيكون الجوّ أهدأ فأنطلق إلى ساحة المدينة لأعمل أي شيء من أجل أن أجلب لقمة العيش، فحصتنا من الطحين، والسمن، والسكر التي توزعها (هيئة الأمم) قد نفدت.
أم أحمد: لا عليك! سأقترض من أم عبد الله كوباً من الطحين والسكر؛ علّني أصنع شيئاً للأولاد.
أبو أحمد يلفّ وجهه (بكوفيته) ، ويحاول أن يجرف قليلاً من الثلج من أمام الخيمة، ويضعه في وعاء من (التنك الصفيح) ؛ علّه يجده في الفجر ماء ليتوضأ به هو وزوجته.
يدخل إلى الخيمة، ويلقي بجسده على فراش ملتصق بالأرض، تنبعث منه رائحة الرطوبة والبرودة، يكوّم نفسه على نفسه محاولاً أخذ بعض من النوم.
انبلج ضوء خافت من تحت فتحات الخيمة، يبشر بقدوم فجر جديد.
صوت أحد الشباب يرتفع بالأذان من بين خلايا الخيام.
تسري الحركة المبكرة، رغم البرودة الشديدة في أرجاء المخيم، الكل يريد أن ينهض ليعمل، ليبحث عن لقمة العيش.
النساء يكشفن عن سواعدهن لتحاول كل منهن أن تصنع شيئاً.. أن تجلب شيئاً لأفواه جياع وأجساد نحيلة، يصلي من يصلي، ويخرج من يخرج.
أبو أحمد: تنغرس قدمه بخفّه (البلاستيكي) في أول خطوة خارج الخيمة.. المطر لا زال ينهمر بشدة.. يلفّ نفسه جيداً بمعطفه الصوفي المهترئ، الذي وُزّع عليه من أول يوم طُرد فيه من وطنه.. يحاول أن يُخرج قدمه فتنغرس الأخرى.. يقاوم، ويقاوم دون كلل، حتى يصل إلى مخرج المخيم؛ لتدوس قدماه أول طريق مرصوفة بشكل غير جيد.
يتابع سيره وخفه (البلاستيكي) المليء بالطين يبدأ يزول عنه الطين مع انهمار المطر.. ولكن تبقى قدماه مبلولتين باردتين.. تمرّ حافلة المدينة، لكنه لا يستطيع إيقافها؛ لأنه لا يوجد معه (فلسٌ واحدٌ) .. ويسرح بتفكيره ليسلّي سيره.. أين أرضي التي كنت أزرعها من الصباح إلى المساء؟ أين بيت أبي الذي كان يطلّ على سهول خضراء خصبة؟ أين أهلي وأقاربي..؟ آه! نصفهم شُرّد، ونصفهم قتل بغارات صهيونية في عقر خيامهم، ويقطع تفكيره صوت حافلة أخرى؛ فيتنبه من شروده، ويتحسس جيب معطفه الفارغ، ويقول لنفسه: لا يزال الوقت مبكراً، سأسير حتى أصل بإذن الله.