للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[أمريكا وسوريا.. وتغيير قواعد اللعبة]

حسن الرشيدي

«إذا كان على الولايات المتحدة أن تبقى كلاعب كبير في المنطقة، وإذا كان

على إسرائيل الاستمرار كأمة فعلى الجانبين واجب التفكير في الإقدام على ما لا

مهرب منه: الحرب؛ فالحرب وحدها تحول الأزمة إلى فرصة» .

قائل هذا الكلام هو ديفيد وورمسر الذي انتقل الشهر الماضي فقط من العمل

مع الصقر الليكودي جون بولتون في وزارة الخارجية الأمريكية إلى العمل مع من

لا يقل صقرية وليكودية لويس ليبي مدير مكتب نائب الرئيس الأميركي ديك

تشيني.

لقد ارتقى وورمسر درجة في سلم الإدارة، والمغزى من ذلك أن هناك في

واشنطن من يريد توجيه رسالة إلى العرب تتبنى المنطق الشاروني: ما لم يحل

بالقوة يحل بالمزيد من القوة.

إن فهم هذه الرسالة يحل بعضاً من الإشكاليات الناتجة عن تفسير ما يجري في

العلاقة السورية الصهيونية بشقيها الأمريكي واليهودي؛ فالتصعيد بين الطرفين

ينشب ثم ما يلبث أن يتوقف أو يخمد، ثم يعتريه دورة أخرى من التصعيد. ولا

شك أن تلك العلامة سمة بارزة في العلاقات بين هذين المعسكرين طيلة العقود

الماضية، ولكن ازدادت وتيرتها مع الاحتلال الأمريكي للعراق لتنتهي بضربة

جوية إسرائيلية لمنطقة عين الصاحب على مشارف دمشق في ظل ترحيب

أمريكي.

ولذلك فإن أي منهج تحليلي يحاول تفسير ما يجري لا بد له أن لا يغفل ثلاثة

أبعاد هامة:

* طبيعة النظام السوري:

يشترك النظام السوري مع بقية النظم العربية في عدة خصائص، ويتميز

عنها في مفردات أخرى، ولكن مجمل هذه الخصائص تتمثل فيما يلي:

* نظام طائفي:

تتحكم فيه أقلية نصيرية بغالبية الشعب السني، وقد أضفيت سمات هذه

الطائفة على أفعال النظام وتصرفاته؛ فمجمل معتقدات هذه الطائفة معتقدات باطنية

تقول أشياء بينما هي تعتقد خلافها؛ وهذا ما نلاحظه في جملة تصريحات أقطاب

النظام التي تتشدق بالعداء لأمريكا وإسرائيل، وتتغنى الطبقة السياسية بمناصرة

الشعب الفلسطيني؛ بينما ما يتم في الخفاء أمر آخر محصلته سحق المقاومة

الفلسطينية والتآمر عليها إلى درجة إبعادها نهائياً عن لبنان وعن حدود إسرائيل

ليبقى في النهاية تمثيل محدود ومسيطر عليه لكوادر تنظيمية لبعض الفصائل.

* استراتيجية اللاحرب واللاسلم:

ظل النظام السوري أكثر ضبطاً لمجتمعه من أي دولة عربية؛ فجبهة الجولان

سكنت في الهدوء المطلق ثلاثين سنة مما يشير إلى استراتيجية لا تتوافق والخطاب

الحاد الذي كان النظام يتبنّاه، إنها استراتيجية اللاحرب واللاسلم التي تكفي لإكساب

النظام سمعة عدم التفريط، سمعة لم تتورط بما تورط به آخرون في المنطقة، وهو

ما يفسر إصرار حافظ أسد على عدم التوقيع على معاهدة كالتي وقعها زملاؤه.

ومن الناحية الأخرى تكفي هذه الاستراتيجية أن تقنع الإسرائيليين

والأمريكيين بأن يفضلوا التعامل مع حكم لا يحارب ولا يسالم على أن يأتي

حكم مجهول قد يحارب وقد يسالم.

* الطموح لتكوين سوريا الكبرى:

إن الحلم بإعادة دولة الشام كما كانت عليه في القرون السالفة لهو أمر ظل

يداعب حكام دمشق؛ حيث بواسطة هذا الدور تلعب سوريا دوراً إقليمياً ليس داخل

نطاقها الحدودي الضيق، ولكن يمتد ليشمل لبنان والأردن، ومن ثم حاول النظام

السوري امتلاك أوراق سياسية تكون بمثابة أداة يتم بها الاعتراف به بمقتضاها

بدوره المتنامي، ولعل المثال الأبرز في ذلك تحالفه مع أمريكا ضد العراق في

حرب الخليج الثانية، وبمقتضاه قبض تفويضاً أمريكياً دولياً لحسم الأمور لصالح

سورية في لبنان، وهو ما حدث عندما تدخلت القوات السورية وأخرجت العماد

ميشيل عون من قصر الرئاسة وأطاحت به دون أن يثير تدخلها احتجاجاً دولياً كما

جرت العادة في مثل هذه الأمور.

وداخل الورقة اللبنانية توجد ورقة حزب الله، ويمثل حالياً الورقة الوحيدة

تقريباً التي تمنح سوريا القدرة على موازنة القوى مع إسرائيل؛ ففي اليوم التالي

للقصف الإسرائيلي لعين الصاحب قتل ضابط إسرائيلي على الحدود مع لبنان.

* استراتيجيات الإدارة الأمريكية الحالية في المنطقة:

ونعود مرة أخرى لوورمسر الذي يتميز بكثرة أحاديثه المقروءة والمسموعة؛

فله عدد من الكتب وإطلالات تلفزيونية أكثر من أن تحصى: إنه جزء من تيار

موجود في مراكز بحث ومعاهد دراسات ومواقع صحافية، والأهم من ذلك في

صلب الإدارة. والمعروف عن وورمسر هجومه الدائم على المملكة العربية

السعودية ومصر، وصلاته القوية بأحمد الجلبي والمؤتمر الوطني العراقي الذي

حاول تنظيم لقاءات له مع مسؤولين إسرائيليين، كما ساعده في اختراق الكونغرس،

غير أن وورمسر يكاد يكون متخصصاً في التحريض ضد سوريا ككيان وليس

فقط ضد السياسة السورية.

إنه مقرّب جداً من ريتشارد بيرل حيث عملا في مركز أميركان أنتربرايز

المعروف بتوجهاته اليمينية المحافظة، وكتب الثاني مقدمة كتاب الأول عام ١٩٩٩م

حول ضرورة شن الحرب على العراق، كما أن زوجة وورمسر ميرياف أنشأت

موقعاً على الإنترنت بالتعاون مع الكولونيل احتياط في الجيش الإسرائيلي يغال

كارمون، وهي مديرة دراسات الشرق الأوسط في معهد هدسون.

إن مطالعة لأدبيات هذا الرجل تستوجب التوقف حيال المقال الذي نشره

صيف ٢٠٠١م في مجلة الشؤون الأمنية الدولية الصادرة عن المعهد اليهودي

لشؤون الأمن الوطني؛ حيث يقول إنه لا بد من إعادة النظر بالسياسة الشرق

الأوسطية في ضوء تفجر الانتفاضة الفلسطينية رداً على عقد كامل من العجز

الأميركي والإسرائيلي، ويضيف: نحن أمام وضع شبيه بما كان عليه الوضع في

عام ١٩٣٩م حين اتضح إخفاق أميركا وبريطانيا في استثمار الانتصار الذي تحقق

في الحرب العالمية الأولى، وبعد الحرب العالمية الثانية طبقت النخبة البريطانية

على الشرق الأوسط سياستها السابقة فتراجعت وتخلت عن المشروع الصهيوني،

وأخفقت في أن تلاحظ التطابق الكامل بين كثافة العداء للصهيونية ودرجة الاستبداد،

والتعاطف مع النازيين ثم السوفييت.

لقد أدى تخلي بريطانيا عن إسرائيل إلى طردها من الشرق الأوسط؛ هكذا

يعتقد وورمسر ويقول: ورثت السياسة الأميركية في البداية الأساليب البريطانية

إلى أن انتبهت إلى أنها مع إسرائيل في معركة واحدة: معركة الأمم الحرة ضد

الاستبداد.

ويعتبر وورمسر أن إسرائيل هزمت الجيوش العربية ٥ مرات: ١٩٤٨

و١٩٥٦ و ١٩٦٧، ١٩٧٠ و ١٩٧٣م ولكنها لم تستثمر انتصاراتها، فحصلت على

هدنات مديدة فقط، الحرب الوحيدة النموذجية بهذا المعنى هي الغزو الإسرائيلي

للبنان في ١٩٨٢م حيث استكملت إسرائيل تدمير منظمة التحرير بدل الاكتفاء

بالإضرار بها.

ويمضي وورمسر ليعتبر أن الثمانينيات هو بمعنى ما عقد ذهبي افتتح بالغزو

واختتم بضرب العراق؛ هذان الانتصاران: الإسرائيلي والأميركي جعلا العرب

يقتربون من إسرائيل وأميركا. لقد اصطفت الأمم لتسالم، وبدا أن النصر المشترك

آخذ بصياغة المنطقة مع انتقال الراديكاليين العرب بأطيافهم كافة إلى الهامش.

غير أن الكارثة في رأي وورمسر هي أن تل أبيب وواشنطن لم تفهما

انتصارهما، وتخلتا عنه فقد؛ وقعتا في خديعة الاعتقاد بأنهما تسببان الكراهية،

فسعتا إلى إصلاح الأمر ورفع الظلم واستجداء العطف. لقد أخطأت الولايات

المتحدة بحق إيران فلم تنقض عليها، وأخطأت بحق العراق فاكتفت بحصار

متراجع، ولكن الخطأ الأكبر هو ارتكاب خرافة أوسلو. لقد اقتنع اليسار

الإسرائيلي أن الظلم الذي أنزل بالفلسطينيين هو القوة الدافعة للنزاع وغرق في

يوتوبيا الحل والتسوية، وغفل عن الحقيقة القائلة إن القوة المتفوقة يمكن استخدامها

لزعزعة أسس القومية العربية الراديكالية والأصولية الإسلامية.

ويمضي وورمسر فيقول: نشأ وهم يعتبر أن التخلي عن ثمرة الانتصار في

٦٧ هو المدخل إلى حل، والأنكى من ذلك في عرف وورمسر أن التخلي لم يكن

معروضاً على الأردن وإنما باسم تلبية التطلعات الوطنية الفلسطينية؛ ففي رأيه أن

مجرد الاعتراف بحقوق متساوية للفلسطينيين يشرع الاعتقاد الفلسطيني بأن وجود

إسرائيل نفسه جريمة وسطو.

يلوم وورمسر أميركا كلينتون على مشاركتها في الأخطاء ولومها إسرائيل

على تعثر التسوية واعتناقها خرافة حل الأزمات عبر تشجيع معسكرات سلام تبحث

عن قواسم مشتركة، ويتهم قادة الولايات المتحدة وإسرائيل العمالية بأنهم أوهموا

أنفسهم أنهم يكتبون قواعد جديدة للتاريخ؛ غير أن التاريخ انتصر وانتصاره يقود

الطرفين نحو هاوية.

يختم وورمسر ناطقاً باسم الأميركيين والإسرائيليين: بما أننا محكومون

بالكراهية لما نحن عليه، ولما هم عليه؛ فإننا محكومون بالحرب إلى حين توجيه

ضربة قاصمة إلى مراكز الراديكالية والحقد: دمشق، بغداد، طرابلس، طهران،

غزة.

إن وورمسر ينتمي لاتجاه المحافظين الجدد الذي برز بعد ١١ أيلول، ولقد

تأسس هذا التيار عملياً في غمار الحرب الفيتنامية، وانتقل رواد منه من أقصى

اليسار إلى أقصى اليمين بدافع بذل أقصى الجهد لهزيمة البيروقراطية الستالينية

السوفييتية، وطور هذا الجناح أفكاره عن السياسة الخارجية عبر مجادلات عديدة

أبرزها السجال مع واقعية هنري كيسنجر المتهم بالإذعان إلى ضغوط وبهندسة

التراجع أمام الفيتناميين. ويكاد الشعار المركزي لهذا التوجه يكرر شعار الغلاة في

إسرائيل: دعوا الجيش ينتصر. لقد شكلت الريغانية بهذا المعنى فترة ذهبية أولى

لهذه الأفكار؛ ليس لأنها جددت الحرب الباردة وزادت العدوانية حيال موسكو

فحسب، بل أساساً لأنها تصرفت وكأن التوسع السوفييتي في العالم قابلاً للكسر

(نيكاراغوا، أثيوبيا، أفغانستان، أوروبا الشرقية) تمهيداً لإرغام حلف وارسو على

الركوع.

وجاء جورج بوش الأب، ولكنه شكل خيبة أمل لهذا التيار لأنه لم يحسن

الاستفادة من الانفراد بعد جدار برلين؛ كذلك نظر هذا التيار إلى ولايتي بيل

كلينتون بصفتهما عاراً يجب الخلاص منه بأي ثمن؛ وإذا كان وصول بوش الابن

نافذة فرص فإن تفجيرات ١١ أيلول فتحت النافذة على مصراعيها.

ومن المثير أن استعادة ذكرى فيتنام لا تثير عند هذا التيار ذعراً من الحرب،

وإنما تستحضر الخوف من الخسارة؛ ولذا يمكن القول إن ما يعتبره البعض تباشير

فيتنامية في العراق هو مدعاة إلى التصعيد ليس في العراق فحسب ولكن في أرجاء

المنطقة.

ويؤكد هذا المعنى ما أكده رامسفيلد في الآونة الأخيرة؛ ففي مقال نشرته

واشنطن بوست تحدث فيه عن الدروس التي استخلصها من تفجير مقر المارينز في

بيروت قبل عشرين عاماً؛ حيث ذكر أن الولايات المتحدة وضعت نفسها في موقع

دفاعي، فتكيف الإرهابيون مع ذلك، وضربوا؛ فأمام كل عمل دفاعي كان

الإرهابيون يتحركون صوب طريقة أخرى للهجوم. ويلاحظ أن الإرهابيين يملكون

قدرة الضرب في كل مكان؛ ولذلك ليس من الممكن الدفاع عن كل هدف وفي كل

زمان ومكان. وبناء عليه فإن الطريقة الوحيدة لهزيمة الإرهابيين هي أخذ الحرب

إليهم عن طريق ملاحقتهم أينما يعيشون أو أينما يخططون للاختباء والتصريح

بشكل واضح للدول التي ترعاهم وتوفر مكاناً لإقامتهم بأن أفعالاً من هذا النوع لها

عواقب وخيمة.

يضيف رامسفيلد: إن هذا ما يفعله جورج بوش، ولا مأخذ عليه سوى

ضرورة رفع وتيرته؛ وبذلك يريد رامسفيلد أن يقول إن تفجيرات بيروت سقط فيها

مئات القتلى غير أن واشنطن ردت عليها بوجهة خاطئة: الانكفاء أما تفجيرات ١١

أيلول فإنها خطرة وسقط فيها آلاف القتلى، وقد ردت عليها واشنطن مستفيدة من

درس بيروت: الحرب على الإرهاب، ولذلك يجب تطوير الدرس اللبناني وتجاوز

ما جرى تطبيقه بعد ١١ أيلول من أجل تطوير الهجوم بشكل كاسح بما يتوجب منع

تشكيل جيل جديد من الإرهابيين لا بل إيقاف الإرهابيين قبل أن يتمكنوا من إرهابنا،

أي إيقافهم حتى قبل أن يصبحوا إرهابيين. فالولايات المتحدة لا يمكنها العيش

وراء متاريس؛ هذا هو درس بيروت.

رامسفيلد يشير إلى ضرورة ربح حرب الأفكار، ويعتبر أن وسائل ذلك هي

ما يستخدمه بوش من عناصر قوة عسكرية ومالية ودبلوماسية واستخبارية وأمنية؛

فكسب حرب الأفكار بالمعنى الذي يقصده رامسفيلد هو تلقين الشعوب الأفكار

الأميركية بالقوة.

وبما أن الحرب على الإرهاب لا يمكنها إلا أن تبقى مفتوحة فالدعوة إذاً هي

تصعيد لا نهائي يعني ذلك عملياً عدم الاكتفاء بمنازلة شبكات هلامية، بل الإسراع

في نقل المعركة لضم أنظمة إلى المنظمات. إن هذا هو ما يريده رامسفيلد، والذين

ينطق باسمهم ضمن الإدارة.

إن الحرب في رأي رامسفيلد هي في بداياتها الأولى، ولن تخسرها الولايات

المتحدة إلا إذا امتنعت عن تصعيدها؛ هذا هو في عرفه درس بيروت.

* الاشتباك الأمريكي السوري الحالي:

ثمة نظريتان تفسران الموقف الأمريكي الحالي من الضغوط على سوريا:

الأولى: تعتبر أن هذه الضغوط تهدف إلى إزاحة النظام استكمالا لنظرية

الدومينو وتغيير منطقة الشرق الأوسط (أي ضغط استراتيجي) فقد قالت صحيفة

الغارديان البريطانية في عددها الصادر الثلاثاء ١٥/٤/٢٠٠٣م: إن وزير الدفاع

الأميركي دونالد رامسفيلد أمر مساعديه في الأسابيع القليلة الماضية بوضع خطط

طارئة للحرب على سوريا في أعقاب سقوط العاصمة العراقية بغداد.

وأضافت: إن رامسفيلد طلب من دوغ فيث وكيل وزارة الدفاع للشؤون

السياسية وويليام لوتي رئيس مكتب التخطيط التابع للبنتاغون أن يضعا سوياً خطة

موجزة لشن حرب ضد سوريا، وأشارت الصحيفة إلى أن كلاً من فيث ولوتي لعبا

دوراً محورياً في حث البيت الأبيض على المضي قدماً في الحرب ضد العراق،

وهما يلعبان دوراً مهماً جداً في الإدارة الأميركية.

وقد كتب ريتشارد بيرل رئيس مجلس سياسة الدفاع التابع لوزارة الدفاع

الأميركية تقريراً تحت عنوان تحول واضح: (استراتيجية جديدة) وملخص

التقرير هو أنه لا بد من تغيير كامل في العالم العربي برعاية أميركية، وبالنسبة

لسورية وفلسطين يكون التغيير بمساعدة إسرائيل. ونصح التقرير باستراتيجية

الضربة الوقائية الأميركية التي أعلنها الرئيس بوش في العام الماضي.

والتقرير له صلة بمشروع قانون محاسبة سورية الذي ناقشه الكونغرس ووافق

عليه، وله صلة بالتصريحات الصحفية بأن سورية تأتي بعد العراق في استراتيجية

التخلص من الحكومات المارقة.

ونسبت صحيفة لوكانار أونشينيه الفرنسية إلى الرئيس جاك شيراك في أكتوبر

الماضي تخوفه من أن حرباً إقليمية كبرى ستندلع في الشرق الأوسط في نوفمبر

وتشمل عدواناً إسرائيلياً واسعاً على لبنان وسوريا.

وقد ذكر الجنرال ويسلي كلارك والذي يخوض اليوم معركة الترشح في

الحزب الديموقراطي في كتاب جديد له أن الحكومة الأميركية وضعت خططاً حربية

ضد سوريا ولبنان وإيران والعراق وليبيا بعد أسابيع فقط من تفجيرات ١١ أيلول.

وفي هذا الإطار حذر الأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي في كوبا من أنه

يتعين على الرئيس الأميركي جورج بوش فبركة تهديد جديد للأمن الأميركي لكي

يضمن فوزه في الانتخابات الرئاسية التي ستجري في العام ٢٠٠٤م بعد الإخفاق

الذي منيت به الولايات المتحدة في احتلال العراق، وقال: إن إدارة بوش جاءت

لتهيمن على العالم باستخدام القوة العسكرية إذا احتاج الأمر، وإن العراق كان

الاختبار الاول.

الثانية: تقول إن الضغوط الأمريكية على سورية هي مجرد تكتيك لإفهام

النظام أن قواعد اللعبة قد اختلفت ويقول توني بلير رئيس الوزراء البريطاني: لا

يوجد قائمة، وسوريا ليست في القائمة، لكن على سوريا أن تفهم خطورة الموقف؛

وهذا ما أكده أيضاً خوسيه ماريا أزنار رئيس الوزراء الأسباني، فصرح بأن سوريا

ستظل دولة صديقة لأسبانيا، ولن تكون هدفاً لعمل عسكري، وأنا مقتنع أن النزاع

في العراق لن يمتد إلى دول أخرى في الشرق الأوسط.

فأميركا على اقتناع تام بأن الدور السوري الإقليمي الذي يخدم مصالحها في

لبنان والمنطقة لم يعد قائماً ولا ملائماً؛ لأن المنطقة - حسب وجهة النظر

الأميركية - دخلت منعطفاً إقليمياً ودولياً هاماً مغايراً بدأ منذ إعلان الإدارة الأميركية

الحرب على ما يسمى بالإرهاب ولم ينتهِ بالنصر العسكري الأميركي على العراق؛

مع الرغبة الأميركية بفرض حلٍ للقضية الفلسطينية يلائم خططها في المنطقة،

ويتناسب مع النزعة العدوانية الاحتلالية للحليف الإسرائيلي.. وهذا ما يفرض على

أميركا وإسرائيل تجريد سورية من الورقة اللبنانية وبما تحتويه من أوراق فرعية:

(حزب الله، وسوق العمل اللبناني الذي يشغله حوالي مليون عامل سوري،

وعمولات الشخصيات السورية ذات النفوذ من أرباح الشركات اللبنانية) وذلك

تمهيداً للدخول في عملية السلام بين سورية وإسرائيل بموقفٍ سوريٍ ضعيف.

ولعل أميركا وإسرائيل لن تعثرا على أفضل من هذه الظروف السياسية القائمة في

المنطقة للضغط على سورية؛ ولهذا كانت المطالب الأميركية المقدمة إلى سورية

قاطعة وحازمة على رأسها ضرورة الانسحاب من لبنان.

أي أن الرسالة الأمريكية التي تريد أمريكا إيصالها بأن النظام السوري لم يعد

في استطاعته اللعب بأوراقه السياسية كما كان في السابق للضغط أو الحصول على

مكاسب إقليمية ومحلية معينة، بل إن الوقت هو وقت هيمنة أمريكية مباشرة في

المنطقة، وهذه السطوة لا تحتمل أن يلعب أحد معها بأوراقه؛ وهذا ما أجمله باول

في تصريحه الشهير: «إن العالم قد تغير، وإن على السوريين أن يتغيروا» .

ويحمل هذا التوجه فريق باول داخل الإدارة الأمريكية الحريص على التهدئة

كلما زادت درجة التصعيد؛ فقد دعا وزير الخارجية الأميركي كولن باول سوريا

وإسرائيل إلى تخفيف حدة التوتر بينهما حتى اللفظية منها، واعتبر باول أن مثل

هذه التصريحات لا تساعدنا ولا تساعد أي طرف في المنطقة على التقدم، وقبلها

كان باول قد أشار إلى أن ما يعنيه عندما يتعلق الأمر بالحالة السورية أقرب إلى

التنبيهات منه إلى التهديدات.

فثمة مطالب أمريكية معينة من سوريا إن هي نفذتها واستجابت لها؛ فليس

هناك مشاكل. ويأتي على رأس هذه المطالب ما يتعلق بنظام صدام حسين. وتقول

التايمز البريطانية: إن القوات الأميركية سوف تتدخل وتتجاوز الحدود الفاصلة بين

سوريا والعراق إذا تأكدت من وجود صدام حسين في مكان ما على الأراضي

السورية.

ونقلت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية عن مسؤولين في الإدارة الأميركية

قولهم: إن المحققين الأميركيين يمتلكون أدلة على وجود ثلاثة مليارات دولار من

أموال نظام الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين موجودة في مصارف في سوريا

ولبنان.

وأوضح المسؤولون بحسب صحيفة نيويورك تايمز الأميركية أن وفداً من

وزارة الخزانة الأميركية أمضى نحو أسبوعين في دمشق في محاولة للتوصل إلى

الحسابات المصرفية الخاصة بحكومة صدام حسين أو حلفائها، وأضافوا: إن

سوريا وعدت بالتعاون، لكنها لم تقم بذلك حتى الآن.

وتابع المسؤولون بحسب الصحيفة نفسها أن المليارات الثلاثة ومعظمها في

سوريا هي الاكتشاف الأكبر للأموال العراقية خارج العراق.

وقال مسؤولو إدارة بوش: إن الحديث عن هذا الملف يمكن أن يعرض

للخطر أي تعاون من قِبَل سوريا. وأضافوا أنهم قلقون من أن تستخدم الأموال

الموجودة في المصارف السورية عوضاً عن ذلك في تمويل الهجمات على القوات

الأميركية داخل العراق.

ويريد هذا الفريق داخل الإدارة كذلك استخدام جميع الوسائل الفاعلة غير

العسكرية للضغط على سوريا منها العقوبات مثل قانون المحاسبة ومنها السياسي

والاقتصادي وغيرها؛ كما يختلف مع الفريق الأول أنه لا يشترط تلبية المطالب

الأمريكية من سوريا فوراً؛ وهذا ما أكده باول قبل زيارته لسوريا في مايو الماضي

في أسبانيا حيث أكد أن المباحثات مع سوريا ستكون صريحة ومفيدة، ولكنه لا

يتطلع إلى نتائج فورية.

وفي هذا يقول وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز لصحيفة معاريف

الإسرائيلية: أعتقد أن الأمريكيين لن يتجاهلوا ما تفعله سوريا؛ لا يعني ذلك

بالضرورة أنهم سيستخدمون القوة ضدها. وتابع: إن الولايات المتحدة كقوة عظمى

لديها خيارات أخرى كثيرة قبل استعمال القوة لتغيير تفكير وسلوك دول في العالم.

ونقلت مجلة ديفينس نيوز الاميركية عن رئيس الطاقم السياسي الأمني في

وزارة الدفاع الإسرائيلية عاموس جلعاد قوله: إن سياستنا هي إقناع الأسد بتغيير

سياسته، وإذا لم يقتنع فسوف نرسل إليه توصيات أخرى.

وعلى الرغم من ذلك أشار جلعاد إلى أنه لا يتوقع تصعيداً وقال: إن الهدف

المركزي هو دفع سوريا إلى وقف دعمها للمنظمات الفلسطينية.

كذلك اتهم السيناتور الأمريكي توم لانتوس المعروف بتعصبه الشديد للصهاينة

أثناء زيارته لدمشق سوريا بارتكاب أخطاء مرعبة في تعاملها مع نظام صدام حسين،

ودعاها إلى تصحيح هذه الأخطاء، ورأى لانتوس أن هذا التصحيح يتطلب

إغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية، ووقف المساعدات لحزب الله اللبناني،

والانسحاب السوري من لبنان، وأن تتخذ دمشق خطوات بناءة في تحسين علاقاتها

مع واشنطن، وإلا فإن البديل سيكون سلبياً على حد تعبيره.

وبذلك يمكن تلخيص المطالب الأمريكية في أمرين: عدم التدخل في الملف

العراقي إن لم تساهم سوريا في دعم الموقف الأمريكي. وترك القضية الفلسطينية

وعدم استخدامها ورقة للمساومات.

هذه الضغوط هي التي دفعت فاروق الشرع وزير الخارجية السوري إلى

القول إن سوريا تتعرض حالياً لأقسى ضغوط في تاريخها، وأن إدارة بوش هي

الأعنف والأكثر حماقة بين كل الإدارات الأمريكية.

وفي النهاية فإن السلوك الأميركي تجاه سوريا يكاد يكون ترجمة حرفية لمفهوم

الغموض الاستراتيجي الذي تمارسه واشنطن - منذ فترة غير قليلة - تجاه أعدائها

المحتملين.

فواشنطن تريد الخروج من ورطتها في العراق من خلال تحميل كل الأطراف

العربية مسؤولية هذه الورطة وهي ستفعل كل وأي شيء لتحقيق هذا الهدف.

وتل أبيب تسعى وراء أهداف جديدة للانتقام من العمليات الاستشهادية بعد أن

استنفدت كل الأهداف الممكنة في فلسطين، وهي أيضاً مستعدة للإقدام على أي

شيء للوصول إلى هذا الهدف.

والاثنان يشتركان في التفكير بأن ما يدور في العراق وفي فلسطين إنما هو

معركة واحدة تماماً ضد الإرهاب، ومن طبيعة هذه المعركة غير المفتوحة على أفق

سياسي للتسوية أنها لا تخاض إلا فوق مسرح إقليمي شامل يتضمن بالضرورة

سوريا ولبنان.

من هنا توسيع إسرائيل للمعركة، ومن هنا عدم الاعتراض الأميركي.