[من صفات الطائفة الناجية]
في الكتاب والسنة
د. سليمان العايد
خلق الله البشرية أول خلقها مؤمنة بربها، موحدة له. قال الله - تعالى -:
[كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ وأَنزَلَ مَعَهُمُ
الكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ومَا اخْتَلَفَ فِيهِ إلاَّ الَذِينَ أُوتُوهُ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقِّ
بِإذْنِهِ واللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] [البقرة: ٢١٣] .
وقال الله -عز وجل- في الحديث القدسي: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم،
فاجتالتهم الشياطين عن دينهم» رواه مسلم.
وآمن مع كل رسول أفضل أهل عصره، وخير أتباعه، وحملوا هذا الدين
ليبلغوه، وبذلوا ما استطاعوا لنصرته وتأييده. ثم حدث لكل أمة انحراف وضلال
عن نهج رسولهم. فاختلف الأتباع، وتعددت مذاهبهم. وزاغ أكثرهم عن طريق
الحق طريق الأنبياء والرسل. وكان من الصعب إعادة تلك الأمم وجمع تلك
الطوائف على كلمة الحق الواحدة، للتحريف الذي وقع في كتبهم، والتغيير الذي
أُحدث في أديانهم، فلم يبقَ لديهم أصل سالم من العبث يرجعون إليه، ولا قانون
محكم يتحاكمون إليه، فاتسعت الهوة، وعظمت الشقة، فلم يزدادوا إلا انحرافاً،
وأنَّى لمن فقد الأصل الصحيح أن يعود إلى الحق؟ !
وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن افتراق هذه الأمة، فقال:
«افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة» رواه الحاكم عن أبي هريرة، وصححه وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين، ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة، وهي
الجماعة» أخرجه أبو داود والدارمي وأحمد والحاكم، وجاء في بعض طرق الحديث، عن عبد الله بن عمرو: «إن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلها في النار إلا واحدة، فقيل له ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه اليوم وأصحابي» .
فالصفة الجامعة لأوصاف هذه الطائفة أن يكونوا مثل الصحابة، أن يكونوا
على ما كانوا عليه من الاعتقاد والعمل، والأخلاق، وغير ذلك من صفاتهم..
وهذه هي الجماعة المنصورة التي أخبر عنها رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - بقوله: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم،
ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله، وهم ظاهرون على الناس» . رواه الشيخان
وأحمد وقوله: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم
حتى يأتي أمر الله، وهم كذلك» . رواه مسلم والترمذي وابن ماجه عن ثوبان.
وهذه الطائفة لها أوصاف وسمات، تنزَّل بها الكتاب، ونطقت بها السنة،
وأُسُّ هذه السمات، وركن هذه الصفات هو الاعتقاد الصحيح في الله، وما يجب له
وأسمائه وصفاته، وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله
واليوم الآخر، وما أعده لعباده المؤمنين من نعيم، وما توعد به الكافرين من عذاب
مقيم، والإيمان بما قضى الله وقدر، من خير أو شر، حلوه ومره من الله وحده
[إنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ] [القمر: ٤٩] .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «.. واعلم أن الأمة لو اجتمعوا
على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام،
وجفت الصحف» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح وعند غيره:
«واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك» وهذه هي أولى صفات الأبرار؛ قال -تعالى-: [لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ والْمَغْرِبِ ولَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ والْمَلائِكَةِ والْكِتَابِ والنَّبِيِّينَ] [البقرة: ١٧٧] .
وهذه الصفة لا تتحقق إلا بسلوك منهج الصحابة في الإيمان: إيمان بلا شك،
وقبول بلا تردد، وتسليم بلا كراهة، وإذعان للأمر، واجتناب للنهي.
هذه هي الصفة التي إذا استقامت وصحت استقامت بقية الصفات، وباقي
السمات والأوصاف فروع منها، ومبنية عليها.
والكتاب والسنة قد بينا صفات هذه الطائفة، وأوضحا سماتها في مواضع
كثيرة، منها قوله - تعالى -: [والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ
ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] [التوبة: ٧١] .
وقال الأوزاعي: (خمس كان عليها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -: لزوم الجماعة، واتباع السنة وعمارة المسجد، وتلاوة القرآن، وجهاد في سبيل
الله) .
وإن من صفات هذه الطائفة:
١- طلب العلم والاشتغال به.
٢- لزوم السنة والعمل بها.
٣- الاجتهاد في الطاعات.
٤- الجهاد في سبيل الله.
٥- الدعوة إلى الخير.
٦- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
٧- النصح لكل مسلم.
٨- موالاة المؤمنين.
ونخص في الصفحات الآتية بعض الصفات بحديث مقتضب.
طلب العلم والاشتغال به:
لا عمل في الإسلام إلا بعد علم لقوله -تعالى-: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ
واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ] [محمد: ١٩] ، فبدأ بالعلم ثم أمر بالعمل.
والعلماء هم أصحاب القيادة والتوجيه في الأمة، والمسؤولون عن تركة
الأنبياء (العلم) ، والقائمون على تربية الأمة، وإصلاح شأنها، وقد عرف الإسلام
لأهل العلم فضلهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو الدرداء: «من سلك طريق علم سهَّل الله له طريقاً من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع
أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن السماوات والأرض والحوت في الماء لتدعو له.
وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر، العلماء هم
ورثة الأنبياء.. وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن
أخذ به فقد أخذ بحظ وافر» رواه أبو داوود والترمذي وأحمد وابن ماجه..
وأهل السنة هم حملة العلم، حملة الوحي، والأمناء عليه يبلغونه كما سمعوه،
ويؤمنون به كله، ويتناقلونه جيلاً عن جيل، وقرناً عن قرن، فيحمل العلم في كل
خلف أفاضلهم، وذوو العدل منهم، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وزيف الوضاعين.
والعلامة التي تميز علم أهل السنة عن علم غيرهم هي كثرة استدلالاهم
واحتجاجهم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وتعظيم شأن تلك الأحاديث، والبحث عن صحة أسانيدها والعمل بها ولو خالفت ما عندهم من آراء.
وعلامة أهل البدع اجتنابهم الحديث، وقلة استدلالهم به، فلا يكادون يذكرونه
إلا على سبيل النقد والرد، والتأويل والتحريف، والازدراء والاستهجان.
لزوم السنة والعمل:
من سمات المؤمنين، لا يكتفون بالنية الطيبة، ولا يصدهم الاشتغال بالعلم
عن العمل به، إذ هو ثمرة العلم، ويحذرون أشد الحذر من أن يحدثوا الناس أو
يأمروهم بأمر، ثم لا يقوموا به [أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وأَنتُمْ تَتْلُونَ
الكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ] [البقرة: ٤٤] .
والعمل بالعلم سبب لقبول الدعوة، وإجابة الداعي، كما قال الله عن صاحب
(يس) : [اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وهُم مُّهْتَدُونَ] [يس: ٢١] ، وقال شعيب
مخاطباً قومه: [ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا
اسْتَطَعْتُ ومَا تَوْفِيقِي إلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ أُنِيبُ] [هود: ٨٨] .
وما يصد الناس عن الحق مثل أن يجدوا دعاته غير عاملين به، وأهله غير
قائمين به، وأن يُلْفوهم مُطَّرحين العمل به جانباً، نابذين كتاب الله وراءهم ظِهْرياً،
ألسنتهم لا تفتر، وحناجرهم لا تبحّ، وجوارحهم لا تعمل، كالسراج يضيء للناس، ويحرق نفسه.
وقد تحققت هذه السمة في أهل السنة والجماعة، وكانوا أحق بها وأهلها فكانوا
في طليعة العاملين بالسنن، القائمين على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
المجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. وكان علماؤهم في أوائل صفوف
المجاهدين، كابن المبارك، والإمام البخاري، وابن تيمية، الذي حارب التتار حين
غزوا بلاد الإسلام.
فما كانوا يعرفون أن بعض المشايخ يتفرغ لجمع الأتباع، وحشد الأنصار
وتكثير الأشياع. أو ينصرف إلى كتابة الأبحاث العلمية، دون أن يكون لهم أثر
على الحياة، ودون أن يأمروا بمعروف، أو ينهوا عن منكر، ولا يعرفون أن هناك
علماء يختصون بأمر العلم، ويأمرون العوام بالجهاد والعمل والطاعة والسنة. ولا
يكونون سبَّاقين لما يأمرون به، بل كانوا علماء عاملين، يتعلمون العلم لا ليباهوا
به ويتصدروا به المجالس، بل تعلموا العلم ليعملوا به أولاً، ثم يدعوا الناس إليه.
فما كانوا يفهمون أن العلم يقصد لذاته، وأنه أمر مجرد، بل هو مسئولية، كلما
ازدادوا علماً زادت مسئوليتهم.
الجهاد في سبيل الله:
قال الله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ وتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ] [الصف: ١٠-١١] .
وقال - تعالى -: [أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَذِينَ جَاهَدُوا
مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ] [آل عمران: ١٤٢] .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات ولم يغزُ، ولم يحدث
نفسه بغزو، مات على شعبة من النفاق» ، وقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في حديث معاذ - رضي الله عنه -: «إن رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» .
ووجوب الجهاد والغزو في سبيل الله عقيدة عند أهل السنة، إذ يذهبون إلى
أن الجهاد ماضٍ مع ولاة الأمر من المسلمين - بَرّهم وفاجرهم - إلى قيام الساعة.
والجهاد ليس دفاعياً فقط - كما يزعمه المهزومون - بل الجهاد نوعان: جهاد
طلب، وجهاد دفاع، قال الله - تعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَذِينَ يَلُونَكُم
مِّنَ الكُفَّارِ ولْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ المُتَّقِينَ] [التوبة: ١٢٣] .
وترك الجهاد مهلكة، وهوان، وخسارة في الدنيا والآخرة: [وأَنفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ وأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ]
[البقرة: ١٩٥] .
وعن أسلم بن عمران قال: (حمل رجل من المهاجرين بالقسطنطينية على
صف العدو حتى خرقه،، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال ناس: ألقى بيده إلى
التهلكة، فقال أبو أيوب: نحن أعلم بهذه الآية، إنما نزلت فينا، صحبنا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - وشهدنا معه المشاهد، ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا - معشر الأنصار - نجياً؛ فقلنا: أكرمنا الله بصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصره حتى فشا الإسلام، وكثر أهله، وقد آثرناه على الأهلين، والأموال والأولاد، وقد وضعت الحرب أوزارها، فنرجع إلى أهلنا وأولادنا فنقيم فيهما، فنزل فينا: [وأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ] ؛ فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال، وترك الجهاد) رواه النسائي وأبو داود والترمذي وغيرهم.
الدعوة إلى الخير:
انتدب الله هذه الأمة لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، فقال: [ولْتَكُن
مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وأُوْلَئِكَ هُمُ
المُفْلِحُونَ] [آل عمران: ١٠٤] .
وجعلهم شهداء في أرضه، والقائمين على سُنته؛ قال - تعالى -: [وكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً]
[البقرة: ١٤٣] .
وشرَّفهم بأن جعل عملهم وعمل نبيهم واحداً وهو الدعوة إلى الله، قال: [قُلْ
هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ
المُشْرِكِينَ] [يوسف: ١٠٨] .
وجعل الدعوة خير القول وأفضل العمل قال: [ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا
إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ] [فصلت: ٣٣] وليس هذا موضع
التفصيل في هذا الموضوع.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وصف الله عباده المؤمنين بهذه الصفة في مواضع عدة، فقال: [والْمُؤْمِنُونَ
والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُقِيمُونَ
الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ويُطِيعُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ] [التوبة: ٧١] .
وقال عن عباده المؤمنين: [التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ
السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ والنَّاهُونَ عَنِ المُنكَرِ والْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وبَشِّرِ
المُؤْمِنِينَ] [التوبة: ١١٢] .
وقال: [الَذِينَ إن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا
بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ] [الحج: ٤١] .
ومن صفات الأمة الوسط، خير الأمم، وأتبعها للحق - الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، قال تعالى: [ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ
بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ] [آل عمران: ١٠٤] .
وقال: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ
وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وأَكْثَرُهُمُ
الفَاسِقُونَ] [آل عمران: ١١٠] .
وقال في مدح طائفة من أهل الكتاب: [لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ
قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ
ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ ويُسَارِعُونَ فِي الخَيْرَاتِ وأُوْلَئِكَ مِنَ
الصَّالِحِينَ] [آل عمران: ١١٣-١٤] .
ونعى على طائفة أخرى إقرارهم المنكر، ورضاهم به، وتركهم الأمر
بالمعروف، فقال: [لُعِنَ الَذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وعِيسَى
ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وكَانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ
لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ] [المائدة: ٧٨-٧٩] .
وترك الأمر بالمعروف، والتناهي عن المنكر نذير شؤم على الأمة، ينذرها
مغبة ما تصنع، ويؤذن بزوالها، أو حلول عقوبة الله فيها، قال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثم يقدرون على أن يغيروا
إلا يوشك الله أن يعمهم بعقابه» أخرجه أبو داود. وعن عدي بن عمير قال:
سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل
الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة» أخرجه أبو داود. والأحاديث بهذا
المعنى كثيرة وفيرة.
ويسلكون في تغيير المنكر الطرق الشرعية، من مثل قول الرسول - صلى
الله عليه وسلم-: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن
لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري.
وهم مع حرصهم على القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر،
يتحاشون إثارة الفتنة بين المسلمين، فلا يخرجون على الأمراء بالسيف؛ لأنه
يؤدي إلى فتنة تسفك فيها دماء المسلمين، ولا يتركون إنكار المنكر عليهم، وتبيين
المعروف لهم، لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الجهاد كلمة حق
عند سلطان جائر» رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد.
ولا ينابذونهم إلا أن يروا كفراً بُواحاً فيه من الله برهان.
ويقومون بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بين عامة المسلمين حتى
يعذروا إلى ربهم، بإقامة الحجة، وتوضيح الحق، عن أبي ثعلبة الخشني - رضي
الله عنه - «أنه قيل له: كيف تقول في هذه الآية: [عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُم مَّن
ضَلَّ إذَا اهْتَدَيْتُمْ] [المائدة: ١٠٥] ، قال: سألت عنها خبيراً، أمَا والله فقد سألت
عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: بل ائتمروا بالمعروف، وانهوا عن
المنكر حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، ودنيا مؤثرة. وإعجاب كل ذي
رأي برأيه، فعليك بنفسك، ودع عنك أمر العوام» أخرجه أبو داود والترمذي
وابن ماجه.
النصح لكل مسلم:
جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النصيحة هي الدين بقوله الذي
رواه أبو رقية تميم بن أوس الداري: «الدين النصيحة (ثلاثاً) قلنا: لمن يا رسول
الله؟ قال: لله - عز وجل - ولكتابه، ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - ولأئمة
المسلمين وعامتهم» رواه مسلم.
وحق على المسلم أن ينصح المسلمين، ويحب لهم من الخير ما يحب لنفسه
ولا يغشهم، أو يمنع خيره عنهم، بل يبذل لهم كل ما يستطيع من علم ومال ودلالة
على الخير وإرشاد إلى سبيل الحق، وما به صلاحهم في أمور الدنيا والآخرة. قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حق المسلم على المسلم ست» فذكر منها
«وإذا استنصحك فانصح له» . وقال أبو عمرو بن الصلاح: النصيحة لعامة
المسلمين إرشادهم إلى مصالحهم، وتعليمهم أمور دينهم ودنياهم، وستر عوراتهم،
وسد خلاتهم، ونصرتهم على أعدائهم، والذب عنهم، ومجانبة الغش والحسد لهم،
وأن يحب لهم ما يحب لنفسه،. ويكره لهم ما يكره لنفسه. وما شابه ذلك.
ومن نصحهم دفع الأذى والمكروه عنهم، وإيثار فقيرهم، وتعليم جاهلهم ورد
من زاغ منهم عن الحق في قول أو عمل بالتلطف في ردهم إلى الحق، والرفق بهم
في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومحبة إزالة فسادهم ولو حصل له أذى
في سبيل ذلك.
وأعظم نصح للمسلمين بيان الحق لهم، وشرح حقائق الإسلام، وتعريفهم بما
يجب عليهم، ورد ما يعلق بالشرع من أهواء مضلة، تصرف الناس عن الكتاب
والسنة، وبيان مخالفة تلك الأهواء، ودعوة في شيء منها إلى الاحتكام إلى الكتاب
والسنة، والعودة إليهما.
والنصيحة للخلق لها منزلة عالية، ودرجة رفيعة، لا ينالها إلا من مَنَّ الله
عليه بالهداية والتوفيق، قال أبو بكر المُزَني: ما فاق أبو بكر - رضي الله عنه -
أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في
قلبه قال: ما الذي كان في قلبه؟ قال: الذي كان في قلبه الحب لله - عز وجل -
والنصيحة في خلقه.
ومن النصيحة للمسلمين حسن اختيار الطريقة في وعظهم، وإرشادهم، كأن
يعظه سراً، ويدعوه بحكمة، ويأمره وينهاه برفق.
ويدل على ما للنصح من قيمة حديث جرير بن عبد الله البجلي: «بايعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على النصح لكل مسلم» رواه مسلم.