للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[إسرائيل طليعة استعمارية.. أم طبيعة دينية؟]

د. محمد مورو

كي نستطيع أن نواجه التحدي الصهيوني الذي مثل ويمثل أكبر التحديات

وأخطرها بالنسبة لأمتنا وهويتنا وحضارتنا ومصالحنا ومستقبلنا بل ووجودنا ذاته،

ينبغي أن نعرف طبيعة هذا الكيان المغتصب وتوجهاته. وقد يبدو للوهلة الأولى أن

هناك تعارضاً بين نظرتين لفهم طبيعة المجتمع الصهيوني:

الأولى: ترى أنه جزء من مشروع الهيمنة الغربية على المنطقة في إطار

الصراع الحضاري.

والثانية: ترى أن المجتمع الصهيوني مجتمع توراتي قائم على الأسطورة

الدينية، وأن اليهود؛ بما لهم من نفوذ مالي وإعلامي وغيره، نجحوا في السيطرة

على صناعة القرار الغربي، فحصلوا على الدعم اللازم لمشروعهم.

والحقيقة أنه بشيء من التركيب يمكن أن نجد أن للمفهومين أصلهما التاريخي

والواقعي؛ فالكيان الصهيوني نشأ أصلاً من رغبة غربية استعمارية لإقامة كيان أو

مجموعة وظيفية في هذه البقعة الحساسة من قلب العالم العربي والإسلامي كجزء من

مشروع الهيمنة الغربية على المنطقة، وكحلقة من حلقات الصراع الحضاري بين

الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية. وتلاقت هذه الرغبة الاستعمارية أو غذت

مفهوم الحلم والأسطورة المزيفة لدى اليهود عن حق العودة إلى فلسطين وإقامة وطن

قومي لهم على أساس التفسير المحرف للتوراة المحرفة أصلاً، أو على أساس

الدعاية الدينية اليهودية لجمع يهود العالم في هذه البقعة. وفي الحقيقة فإن الرغبتين

والمصلحتين التقتا في محطة تاريخية تمخض عنها قيام هذا الكيان، ويجب هنا أن

ندرك أن هناك وجداناً غربياً كارهاً ومعادياً لليهود أصلاً، ومارس الاضطهاد بحقهم

طويلاً؛ وبذلك فإن إقامة وطن قومي لهم يحقق هدفين: الأول: هو التخلص من

اليهود كزبالة بشرية غير مرغوب فيها في الغرب، ويحقق ثانياً: الاستفادة من هذا

الكيان في تحقيق الأهداف الاستعمارية، والكيد للحضارة الإسلامية، وتمزيق وحدة

المنطقة، ومنع نهوضها أو تطورها، واستمرار نهبها.

إذن فالكيان الصهيوني هو مشروع غربي في الأساس تم صياغته داخل أروقة

المؤسسات الاستعمارية الغربية قبل أن يفكر فيه هرتزل بفترة طويلة. فهناك على

سبيل المثال لا الحصر نداء نابليون بونابرت إلى يهود العالم من أجل إعادة إنشاء

مملكة القدس القديمة «سنة ١٧٩٩م» في إطار المشروع الاستعماري في الشرق

الذي كان يحكم به نابليون، وهناك دعوة الرئيس الأمريكي (جون آرامز) إلى

استعادة اليهود لفلسطين «سنة ١٨١٨م» . وهناك مذكرة سكرتير البحرية

الإنجليزية إلى وزير الخارجية (بالمرستون) التي يقترح فيها دعوة أوروبا إلى

إعادة اليهود إلى فلسطين «عام ١٨٣٩م» . وهناك برنامج (اللورد سافتبري)

إلى مؤتمر لندن بشأن توطين اليهود في فلسطين «سنة ١٨٤٠م» . وهناك

مشروع «إدوارد تنورد» لإقامة دولة يهودية متكاملة في فلسطين تحت الحماية

الإنجليزية المؤقتة إلى أن تتمكن هذه الدولة من الوقوف على قدميها

«سنة ١٨٤٥م» . وهناك كتاب (أرنست لاهان) المستشار الخاص لنابليون

الثالث في المسألة الشرقية «إعادة بناء أمة اليهود» «سنة ١٨٦٠م» .

وهناك كتاب «أرض جلفاد» للورنس أوليفنت عضو البرلمان الإنجليزي ووزير

الخارجية والذي يقترح فيه إقامة مستوطنة يهودية على مساحة ١.٥ مليون فدان في

الأردن وفلسطين «عام ١٨٨٠م» . ثم هناك تأسيس بلاكستون في شيكاغو لمنظمة

العثبة العبرية نيابة عن (إسرائيل) من أجل حث اليهود على الهجرة إلى فلسطين،

ومذكرة بلاكستون إلى الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون ووزير خارجيته جيمس

لين بإنشاء وطن قومي لليهود عام ١٨٩١م، وصدور كتاب الدبلوماسي الإنجليزي

وليمر هشلر «إعادة اليهود إلى فلسطين» الصادر عام ١٨٩٤م، كل هذا قبل

صدور كتاب تيودور هرتزل «الدولة اليهودية» الذي صدر عام ١٨٩٦م.

وفي هذا الصدد يقول جمال حمدان في كتابه «استراتيجية للاستعمار

والتحرير» ، ص ١٦٨: «التقت الإمبريالية العالمية مع الصهيونية لقاء تاريخياً

على طريق واحد هو المصلحة الاستعمارية المتبادلة، فيكون الوطن اليهودي قاعدة

تابعة وحليفاً مضموناً أبداً يخدم مصالح الاستعمار؛ وذلك ثمناً لخلقه إياه وضمانه

لبقائه، ويقول أيضاً في الكتاب نفسه، ص ١٧٦:» الاستعمار هو الذي خلق

(إسرائيل) بالسياسة والحرب، وهو الذي يمدها بكل وسائل الحياة من أسلحة

وأموال، وهو الذي يضمن بقاءهما ويحميها علناً «.

ويؤكد (روجيه جارودي) على هذه الحقيقة أيضاً بقوله:» إن الأب

الروحي للصهيونية ثيودور هرتزل أشعل الرغبة الاستعمارية في خلق (إسرائيل)

وقدم لها مسوِّغات إقامة هذه الدولة على أساس أنه إذا قامت إحدى الدول

الاستعمارية بحماية هذه الدولة اليهودية فسوف تتمتع بميزة على خصومها؛ لأن هذه

الدولة ستعتبر رأس حربة مزروعة في المنطقة من أجل التغلغل الاستعماري.

وكتب تيودور هرتزل سنة ١٨٩٥م في كتابه (الدولة اليهودية) قائلاً: «ستكون

هذه الدولة بالنسبة إلى أوروبا متراساً ضد آسيا، وستكون بمثابة الحصن المتقدم

للحضارة ضد البربرية» .

وفي محاضرة لروجيه جارودي في ١٣/١٠/١٩٩٦م في فندق الماريوت

بالقاهرة قال: «إن (إسرائيل) ستلعب دوراً هاماً في المواجهة الحضارية بين

العالم الغربي والعالم الإسلامي نظراً لموقعها الاستراتيجي في قلب العالم

الإسلامي» .

وإذا كانت هذه هي أهداف السياسة الاستعمارية من خلق (إسرائيل) لتكون

وكيلاً للاستعمار الغربي وجماعة وظيفية لأداء وتنفيذ أهدافه، فإن القادة الصهاينة

لعبوا على تلك النقطة تجاه الرأي العام الغربي وقواه السياسية وأجهزته ومؤسساته

الحاكمة، وفي نفس الوقت لعبوا على الأسطورة التاريخية لدى اليهود عن الوعد

التوراتي بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، سواء كان هذا السلوك من قادة

الصهاينة نوعاً من الدجل والدعاية، أو أنه يعبر عن اقتناعهم الحقيقي، سواء كان

هؤلاء القادة الصهاينة ملحدين أو مؤمنين فإنهم عكسوا في سلوكهم وتصريحاتهم

وبنائهم للكيان الصهيوني تفسيراً أسطورياً توراتياً محرفاً بالطبع ومزيفاً وكاذباً،

فجولدا مائير زعيمة حزب العمل التاريخية في تصريح لها لصحيفة لوموند الفرنسية

١٥/٥/١٩٧١م تقول: «نشأ هذا البلد تنفيذاً لوعد الرب ذاته؛ ولهذا لا يصح أن

نسأله إيضاحاً عن شرعية هذا الوجود» . ومناحم بيجين «ليكود» يصرح

لصحيفة دافار الإسرائيلية، ١٤/١٢/١٩٧٨م بقوله: «لقد وعدَنا الرب هذه

الأرض، ولنا الحق فيها» . أما موشي دايان «ملحد» فيقول: «إذا كنا نملك

التوراة، وإذا كنا نعتبر أنفسنا شعب التوراة فينبغي أن نمتلك أيضاً بلاد التوراة،

بلاد القضاة أرض أورشليم وحيرون وأريحا» جيروزاليم بوست، ١٠/٨/١٩٦٧م.

وهكذا يتردد دائماً على ألسنة الزعماء الصهاينة نفس المنطق سواء كانوا من

اليمين أو اليسار، أعضاء في حزب العمل أو في كتلة الليكود، ناطقين باسم

الجيش أو الحاخامية؛ فالتوراة ترسم كل شيء في (إسرائيل) ، ترسم ثقافة

الأطفال في المدارس؛ فبناء على توجيه دافيد بن جوريون فإن الدين اليهودي في

إسرائيل يدرس كمادة إجبارية في المدارس.

والزواج في (إسرائيل) زواج ديني، ولا يوجد في (إسرائيل) دستور؛

لأن التوراة هي القانون الأساس للدولة، والتوراة هي التي تعرّف المواطن وتحدد

من هو الإسرائيلي، وهي ذاتها تحدد حدود الدولة، بل وتسوِّغ الحرب والإرهاب

«علينا ألاَّ ننسى أجزاء التوراة التي تسوِّغ هذه الحرب؛ فنحن نؤدي واجبنا الديني

بوجودنا هنا؛ فالنص المكتوب يفرض علينا واجباً دينياً وهو أن نغزو أرض العدو»

حاخام برتبة نقيب، هآرتس، ٥/٧/١٩٨٢م.

والمذابح من دير ياسين إلى صابرا وشاتيلا تُحِلُّها التوراة وتأمر بها:

«وحرِّقوا كل ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل ومسن وشيخ حتى البقر

والحمير بحد السيف» سفر يشوع، الإصحاح ٦ آية ٢١.

وبالطبع فإن هذا الفهم للتوراة وهي محرفة أصلاً هو بدوره فهم مغلوط،

والحديث عن الوعد الإلهي في التوراة حديث مغلوط؛ لأن يهود إسرائيل أولاً ليسوا

هم أبناء اليهود الأوائل من ناحية؛ فهم من يهود الخزر غالباً، وحتى لو فرض أنهم

من أبنائهم فقد فقدوا أهليتهم بسبب عصيانهم التاريخي المستمر لأنبيائهم، ولأنه بعد

الإسلام بالذات فإن الأمة الإسلامية هي الأمة الرسالية، ونحن من ثم أوْلى من

اليهود بإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وموسى، ويوشع، وداود،

وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى بن مريم - عليهم السلام - وأن هؤلاء

الأنبياء وغيرهم قد بايعوا محمداً الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء رحلة الإسراء

والمعراج عندما أمَّهم في تلك الليلة في الصلاة في بيت المقدس، وأن موسى وداود،

وسليمان وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل لو بعثوا اليوم ما كان بوسعهم إلا الدخول

في الإسلام، باعتباره الدين الحق الحنيف الذي جاء به إبراهيم أصلاً من عند الله،

وجاء به النبيون من قبله ومن بعده، والذي جاء محمد صلى الله عليه وسلم ليكون

به خاتم الأنبياء، وليكون المسلمون هم ورثة كل وعد إلهي.

والكيان الصهيوني كيان عنصري؛ فهو قائم في تعريف المواطنة وكذا في

سلوكه السياسي على فكرة تجميع يهود العالم الذين ُيزعم أنهم من أب واحد وكتلة

قومية ودينية واحدة، وأنهم شعب الله المختار وبقية العالم عبيد لهم، والديمقراطية

الإسرائيلية لليهود فقط.

والكيان الإسرائيلي كيان عسكري وعدواني؛ فـ (إسرائيل) تنفق ٥٠% من

ميزانيتها على الجيش، والمؤسسة العسكرية تتحكم في كل شيء في (إسرائيل)

تقريباً، وعلى حد تعبير بنيامين نتنياهو رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق

«فإن القوة العسكرية مؤسسة لا بديل عنها للمحافظة على أمن إسرائيل.

ونظريات السلام مع العرب ونظريات الخلاص اليهودي بالسلام يدلان على رؤية

غير واقعية للواقع الإسرائيلي البائس، وعلى أحلام كاذبة تنبع من محاولة الهروب

من الصراع المحتوم عليها نتيجة وجودنا فإنه بين الشعوب العربية» بنيامين

نتنياهو كتاب «فكان تحت الشمس» .

وهكذا فالمفهوم الإسرائيلي للسلام يتلخص في التفوق العسكري والخضوع

الفاعل عسكرياً وسياسياً من جانب العرب للهيمنة الإسرائيلية، وهذا بالطبع يشير

إلى استمرار وجود قوة عسكرية هائلة، واستمرار توجيه ضربات إجهاضية لكل

محاولة عربية لامتلاك القوة.

ولأن الكيان الصهيوني جماعة وظيفية أولاً لممارسة العدوان لحساب

الاستعمار الغربي «الأمريكي حالياً» ولأن حقيقة وجودهم مصنوع وغير طبيعي

فإن المجتمع الإسرائيلي الذي قام على سلب حقوق الآخرين يحس بهاجس الأمن أو

ما يسمى بعقدة الأمن، وهي عقدة ناجمة عن شعور إسرائيلي داخلي بأن وجودهم

على هذه الأرض غير شرعي ولم تفلح محاولات زرع ثقافة مصطنعة في إعطاء

الإسرائيليين الشعور بالانتماء أو المشروعية؛ ولذا فإن المجتمع الإسرائيلي مجتمع

معسكر؛ فأنماط المعيشة في إسرائيل «المستوطنات، الكيبوتزات، الموشوفات»

وطريقة التجنيد والتعبئة ونظام الاحتياط ووضع المؤسسة العسكرية السياسي من

حيث كونها مصدراً للنخب السياسية والأمنية رفيعة المستوى، وأهمية حقيبة وزارة

الدفاع في الحكومات الإسرائيلية، ونسبة مخصصات الميزانية العامة الإسرائيلية

للاتفاق العسكري، توضح الوضع الذي تمثله المؤسسة العسكرية في (إسرائيل) .

ويعاني المجتمع الإسرائيلي أيضاً من مسألة عدم تجانس اليهود القادمين من

مختلف بقاع العالم، من غرب أوروبا وأمريكا، ومن شرق أوروبا، ومن اليمن

والعراق والمغرب وروسيا، والحبشة وغيرها، وكل منهم يحمل ثقافة مختلفة،

ولن يفلح الحديث عن الأسطورة التاريخية أو وحدة الأصل اليهودي في صهر هذا

المزيج غير المتجانس، وكذلك فإن الوجود العربي الفلسطيني داخل فلسطين المحتلة

يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة لإسرائيل؛ فلا هي قادرة أو راغبة على إعطائهم حقوقهم

السياسية كمواطنين إسرائيليين ومع تزايد معدلات النمو السكاني الفلسطيني فإن

مشكلة ديموجرافية خطيرة ستواجه الكيان الصهيوني.

* الكيان الصهيوني بعد الحرب الباردة:

إذا كان الصهاينة قد قبلوا أن يقوموا بدورهم كوكيل للاستعمار الغربي في

المنطقة مقابل السماح لهم بإقامة كيانهم ودعمه مادياً ومعنوياً، فإن مرور عشرات

السنين على هذا الكيان جعل قادته يفكرون في التحول من دور التابع إلى دور

الشريك الاستراتيجي، وتواكب في تلك اللحظة حدوث متغير هام في الصراع

الدولي ومعادلاته الإقليمية؛ فبسقوط الاتحاد السوفييتي السابق ونهاية الحرب

الباردة، قلَّت أهمية (إسرائيل) الاستراتيجية بالنسبة للغرب عموماً وأمريكا

خصوصاً، وتواكب ذلك مع الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة بعد حرب

تحرير الكويت ١٩٩١م، أن أمريكا جاءت بجيوشها ولم تستخدم هذه المرة لأسباب

كثيرة الصهاينة كجماعة وظيفية لأداء خدمات عسكرية نيابة عنها، وهذا بدوره

قلل الأهمية الاستراتيجية للإسرائيليين، ولكي يعيد الإسرائيليون التأكيد على

أهميتهم ودورهم ساروا على عدة محاور أولها زيادة التغلغل الصهيوني في

الإدارة الأمريكية؛ وخاصة الخارجية والمخابرات والدفاع ومراكز البحث

ومؤسسات صنع القرار الأمريكي عموماً بشكل لم يسبق له مثيل على الإطلاق

في تاريخ العلاقة بين الطرفين.

ثم عملت (إسرائيل) على تقديم نفسها ليس كتابع لأمريكا بل كحليف

استراتيجي - مستقل - لها، ولو كحليف صغير أو أقل حجماً.

يقول شمويل كاتز في بحثه المعنون: «وجهة نظر إسرائيلية للعلاقة

الأمريكية الإسرائيلية» : «ما مدى صحة القول بأن (إسرائيل) تعتمد على

الولايات المتحدة الأمريكية اعتماداً تاماً؟ إنه قول سخيف حتماً لو أخذناه على

ظاهره؛ فإذا كانت إسرائيل توصف دائماً بأنها حليف؛ فمعنى ذلك أن هناك بين

الولايات المتحدة وإسرائيل حالة من الاعتماد المتبادل لا تقل، بل إنها تزيد في

بعض الجوانب عن العلاقة بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية» ، ويضيف

الباحث الإسرائيلي شمويل كاتز: «لا غنى لأمن أمريكا عن إسرائيل الصديقة، لا

بسبب الحقائق الجغرافية السياسية وحدها؛ بل أيضاً لأن إسرائيل أصبح لديها

القدرة على خدمة المصالح الأمريكية بشكل إيجابي ولا سيما في الشرق الأوسط» .

ويطرح كاتز أن علاقة الحلفاء هي الأكثر قبولاً بقوله: «ولا شك في أن

بالوسع إقامة علاقة صحيحة ومتكافئة كالعلاقة بين الحلفاء بإبرام اتفاق تعاقدي لا

يتأثر بالتحيزات السياسية ليضمن لإسرائيل أن تحصل لا على منح بل على مقابل

للخدمات» .

وطرحت (إسرائيل) نفسها بعد الحرب الباردة كذراع قوية وفعالة في

مواجهة الصحوة الإسلامية، وإذا كانت دوائر حلف الأطلنطي وأمريكا بالذات قد

اعتبرت أن الإسلام هو العدو الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وأن

الصحوة الإسلامية تمثل خطراً على المصالح الأمريكية والغربية قيمياً وسياسياً

وعسكرياً، واقتصادياً، فإن (إسرائيل) التي تحس بالخطر ذاته عليها مستعدة

للقيام بدورها لحماية نفسها ولحماية مصالح أمريكا والغرب أيضاً. كما أكثرت

(إسرائيل) من الحديث عن دورها الهام في موازنة الخطر الإيراني المرتقب

المتربص بأمريكا والغرب وإسرائيل.

وقد طرحت (إسرائيل) نوعين من التكتيك لخدمة الأهداف الأمريكية بعد

الحرب الباردة: الأول طرحه شيمون بيريز زعيم حزب العمل ورئيس الوزراء

الإسرائيلي السابق والذي يتضمن سيطرة أمريكا اقتصادياً وكذلك سياسياً وعسكرياً

على المنطقة من خلال إدماج المنطقة في تجمع اقتصادي وعلاقات اقتصادية

«السوق الشرق أوسطية» تحقق لأمريكا أهدافها، وتكرس سيادتها على

العالم والمنطقة، وتكون إسرائيل فيه أكبر الشركاء والقائد الإقليمي للتنمية التي

تحقق بدورها من خلال رفع مستوى معيشة العرب نزع فتيل التطرف الإسلامي

الذي يستمد مادته من تدهور الأوضاع الاقتصادية في المنطقة، وفي الوقت نفسه

تحقيق نوع من السلام مع العرب يضمن لإسرائيل البقاء في المنطقة كجزء مندمج

فيها من خلال شبكة قوية ومتنوعة من العلاقات الاقتصادية مع المحافظة على تقوية

الذراع العسكري الإسرائيلي ونزع سلاح العرب؛ أي أن بيريز كان يريد أن يحقق

نوعاً من الربط بين (إسرائيل) والعرب يجعل من الصعب على الدول العربية أن

تفكر في قطع صلتها بـ (إسرائيل) والتحول إلى علاقة عداء والرؤية الثانية

التي تبناها نتنياهو بدلاًِ من بيريز لرئاسة الوزراء، تقوم على استمرار إسرائيل

منفصلة عن الشرق الأوسط وليست مندمجة في نظام شرق أوسطي؛ لأن مستقبل

إسرائيل والمصالح الغربية من وجهة نظر نتنياهو يتمحور حول إسرائيل ذاتها

وقدرتها على الاحتفاظ بشخصيتها في وسط معاد، وأنه لا توجد وسيلة للتعامل مع هذا

المحيط إلا بالقوة والردع والعنف.

يقول نتنياهو في كتابه «مكان بين الأمم» : «السلام الوحيد الممكن تحقيقه

بين العرب و (إسرائيل) هو السلام الذي يعتمد على ردع العرب، هو سلام حذر

ومسلم يوفر لإسرائيل درجة كافية من القوة القادرة على ردع الجانب العربي عن

التفكير في استمرار الحرب» .

وفي الحقيقة فإن (إسرائيل) قد نجحت بوسائل عدة في إقناع واشنطن

بأسلوب التحالف بدلاً من أسلوب التابع؛ فقد أعلن كلينتون: «أن الطرفين اتفقا

على الارتفاع بمستوى تحالفهما الاستراتيجي إلى درجة عليا لتصبح (إسرائيل)

شريكاً كاملاً للولايات المتحدة في كل ما يجري من ترتيبات في المنطقة» .