للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حاجتنا إلى استراتيجيات حادة]

أنور قاسم الخضري

تُستخدم اليوم في حياتنا السياسية والإعلامية والاجتماعية جملة من المصطلحات الوافدة التي تمثل نوعاً من الغزو الفكري والانبهار الذي وقع في نفوس المسلمين تجاه التقدم الذي وصل إليه الغرب.

من هذه الكلمات «الإستراتيجية» ، وهي لفظة مضافة أو مضاف إليها في التأليف والإعلام والدراسة:

فيقال: إستراتيجية الدول، إستراتيجية الأسواق المالية، إستراتيجية التربية، إستراتيجية التفكير..

ويقال: التخطيط الإستراتيجي، البعد الإستراتيجي، القوى الإستراتيجية، الخبير الإستراتيجي، الدراسات الإستراتيجية ...

٣ فماذا تعني كلمة «الإستراتيجية» ؟

جاء في الموسوعة العربية الميسرة (١) : «الإستراتيجية: فن القيادة العامة في الحرب بأجمعها، اشتقت من كلمة ستراتيجوس اليونانية بمعنى قائد» وهي كما يبدو تقابل كلمة تكتيك والتي عرَّفتها الموسوعة بأنها «فن القيادة في ميدان المعركة» . ثمَّ أفاضت الموسوعة في ذكر التعريفات المختلفة ووجهات نظر الذين تناولوا هذا الاصطلاح تعريفاً وشرحاً وضرب أمثلة.

أما كراسة التدريب المشترك البريطانية الصادرة عام ١٩٠٢م فتعرِّف الإستراتيجية بأنها: «فن التخطيط لحملةٍٍ ما وتوجيهها، وهي الأسلوب الذي يسعى إليه القائد لجر عدوه إلى المعركة» !

أما دليل ضباط أركان القوات المسلحة الأمريكية لعام ١٩٥٩م فقد عرَّف الإستراتيجية بأنها: «فن وعلم استخدام القوات المسلحة للدولة لغرض تحقيق أهداف السياسة العامة عن طريق استخدام القوة أو التهديد باستخدامها» .

إذن وبعيداً عن الصراعات وحروب القوة، فإن الإستراتيجية كلمة انسحبت من ميدان القتال إلى ميدان الحياة الذي هو الأرحب والأوسع والأخصب والأشد أثراً، وبالأخص ميدان الفكر والمعرفة والقيم.

٣ الإستراتيجية في الإسلام:

(عقدة التآمر) ، (العقلية المغلقة) ، (النفسية المتخوفة) ، ... تُهَمٌ توجه إلى كل من يريد الوقوف بعقلانية وتؤدة أمام قضايا الفكر والرأي والمعرفة التي هي محور القيم والعادات والسلوك الإنساني، بل ونقاط التغيير والتأثير.

بعض الناس يربط بين الإستراتيجية وما يسمى بـ «الرؤية» بمعنى: أن «الرؤية» ، أو ما يطلق عليه «التصور الذهني» هي المنطلق في صياغة الإستراتيجية؛ لأن الإستراتيجية هي الطريق الذي سنسير عليه وبدون الخريطة ـ الرؤية ـ لا توجد معالم طريق وإحداثيات مسار.

ونحن نؤمن بأن الإسلام منهج حياة مطلق صالح لكل زمان ومكان؛ فهل أشار الإسلام إلى «الرؤية» ، وهل يتضمن رؤية في أبجدياته وقواعده وتعاليمه؟

سؤال يبدو للوهلة الأولى أنه صعب، حين نترك «النظرية» (١) ونلتفت إلى واقع المسلمين في: السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والمعرفة والعلوم، والسلوك الحضاري للفرد والجماعة والأمة.

وقد يخرج بعضٌ بإجابة قطعية «نافية» لأن مؤشرات الواقع بكل تفاصيلها وجزئياتها على مستوى الأمة اليوم تعطينا هذه القناعة. وهنا تسقط الهوية والرسالة والأمل، ويأتي السير بعكس اتجاه البوصلة. وما أقبحها من جريمة عندما يتحمل الإسلام العقوبة ويفرُّ المذنبون!

إن قراءة عابرة للقرآن الكريم ـ الكتاب الرباني المحكم ـ تخاطبنا بآيات معجزة وحكم بليغة.

فحديث القرآن الكريم عن الإنسان منشئه وطبيعته ومصيره، وطبيعة الكون وقوانينه، وسنن الحياة والقدر.. والحديث عن عالم الغيب والشهادة وعن الأخبار والأحكام والحقوق والواجبات والأدوار والوظائف.. كل ذلك رؤية، حيث قال ـ تعالى ـ: {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: ١٠٥] . ووصف المؤمنين بأنهم «أولو الأبصار» ، وضرب مثلاً لمن آمن بالرسالة واتبعها ومن لم يؤمن بها ولم يتبعها بالبصير والأعمى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: ٥٠] وجعل الدعوة واجباً لا يقوم به إلا من كان على بصيرة «رؤية» : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: ١٠٨] .

وعندما يؤكد علماء الإدارة الإستراتيجية بأن الرؤية «توجد ـ فقط ـ عندما يشترك الأفراد ـ في مؤسسةٍٍ ما أو بيئة ـ في القيم والاعتقادات والمهام والأهداف التي يجب أن توجه سلوكهم، ليتم إيجاد «العقل الجمعي» فإننا نفهم كيف أن الإسلام كان عقيدة وشريعة وعبادة وأخلاقاً ليحقق الرؤية لكل من رضي به ديناً.

ما علاقة هذا الأمر بموضوع حديثنا حول «الدراسات الإستراتيجية: تقييم وتقويم» ؟

الأمر يرتبط بمقدمات لا بد منها:

أولاً: أن الدراسات الإستراتيجية التي توضع في الخارج عن العالم الإسلامي أو توضع في مؤسسات تنطلق في دراستها من المنطلقات الغربية ذاتها هي نتاج «رؤية» فرد أو مجموعة أفراد، لها منهجها الخاص في التعاطي مع المادة الخام (من البيانات والمعلومات والإحصائيات والتقارير والوثائق والأبحاث، وغير ذلك) .

ثانياً: أن منهج التعاطي مع المواد الخام، مهما سلمنا بشمول هذه المواد ودقة البيانات فيها وسلامتها من التزوير أو الأخطاء، له أثره في صياغة النتائج.

وأقرب مثال على ذلك: الصور الحية التي تنقلها وسائل الإعلام العربية والصهيونية عن الحوادث التي تتم في فلسطين (أو العراق حالياً) ، هي ذاتها في المكان والزمان والعرض.

وعندما يتناول الإعلام العربي صورة الطفل الفلسطيني وهو يطارد بالحجارة الجندي الإسرائيلي، منوهاً ببسالة المقاومة وجبن المعتدي.. تقلب أجهزة الإعلام الصهيونية المعادلة ليكون الطفل إرهابياً صغيراً والجندي الإسرائيلي جندي رحمة وسلام.

الصورة ذاتها في الحالين، لكن التعاطي معها مختلف.

مثال آخر:

عندما يزداد إقبال النساء على الحجاب الشرعي والالتزام بالآداب الإسلامية في التعليم والعمل والنشاط العام تكون الأرقام مؤشراً على وعي وتمسك بالإسلام وصحوة في الأوساط النسائية؛ هذا عند الدعاة إلى الله والأمة عموماً؛ لكن الأرقام ذاتها تصبح تهمة في جانب حقوق المرأة وحريتها الشخصية وتخلفاً في الأوضاع لدى الدراسات الأجنبية.

ثالثاً: أن هذه الدراسات تنقل في ثناياها رؤية مغايرة لرؤيتنا الإسلامية وتؤصلها لنا من خلال حشد الأرقام والبيانات؛ وشيئاً فشيئاً تصبح الرؤية الإسلامية ضبابية، ويحل محلها رؤية جديدة تسند إلى الإسلام الظروف المأساوية وكأنه المسؤول عنها والمتسبب فيها. على الرغم من أن بُعدنا عن «رؤية» الإسلام الكلية للحياة والإنسان والكون هي السبب الحقيقي وراء الظروف المأساوية لمجتمعاتنا وبلداننا الإسلامية عموماً.

ومن هنا فنحن مُلزَمون أن نقيِّم هذه الدراسات وفق رؤيتنا نحن، باعتبارها معطى من معطيات الواقع ـ كما هو الحال ـ إلا إذا أخذت طابع القداسة المطلقة فهذا شيء آخر، ومجال بحثه غير هذا المقام.

٣ تقييم الدراسات الإستراتيجية:

صادر عن مركز (......) للدراسات الإستراتيجية، وأعده خبراء إستراتيجيون، وأشرف عليه معهد.... للإستراتيجية الدولية، مع إضافة: طُبِع في واشنطن أو لندن أو باريس، وبخط عريض: «رؤية إستراتيجية لـ.....» !.

إنها مائدة تبدو دسمة ومغرية لأصحاب القرار والرأي في بلداننا الإسلامية والعربية منها غالباً؛ وخاصة إذا أضفنا نوعية الورق والطباعة الفاخرة والتصميم والإخراج الجذاب.

بعض الناس يقف عند هذه المقاييس، ولا يتجاوزها إلى القيمة الموضوعية للبحث في الحكم على مدى أهلية مثل هذه الدراسات والبحوث للاقتناء والنظر والاستفادة منها.

إن دراسات الاستراتيجية ـ كما أسلفنا ـ تقوم على تحويل المواد الخام من المعلومات والبيانات الواقعية إلى نتائج (نظريات أو فرضيات) ، وأياً كانت فهي تمثل أسلوب تغيير أو معالجة للواقع للوصول به إلى المستقبل الأفضل. وهذه العملية محكومة بعدة أمور هي عند قراءة الدراسة غير مشاهَدة (وإن كانت حاضرة أثناء إعداد الدراسة في ذهنية ونفسية الباحث المعد) ، منها:

١ ـ «الرؤية» الخاصة بالباحث أو الدارس، والتي في ظل مقاييسها ومصطلحاتها وقيمها ومبادئها وسياستها تعامل الباحث مع المواد الخام. فمن خلالها رتب ونظم وانتقى، وأوجز هنا وأسهب هناك، وأغفل هذا وأبرز ذاك.

٢ ـ «الهدف» أو الغاية التي لأجلها يُعدُّ البحث وتصاغ الدراسة. فأغلب أهداف البحوث والدراسات تكون خاضعة لإرادات متصارعة أو متصالحة، وفي كلتا الحالتين فالتوجيه إرادة مسبقة ونية مبيتة.

لذا فإن تقييمنا للدراسات الإستراتيجية يجب أن يأخذ في الاعتبار هذين العاملين لا مجرد «أسلوب المعالجة» الموضوعي ـ كما يطلق عليه ـ والذي تختبره أدوات المعمل، فكِلا الشخصيتين (الطبيب الجراح، والجزار) يتعامل مع الجالس تحت رحمة سكينه بأسلوب المعالجة الموضوعية ذاتها عند التشريح؛ لكن المحصلة النهائية مختلفة.

ونحن عندما نصور الأمر على هذه الحقيقة لا نزايد في مسلَّمات يتفق عليها الجميع، وهي أن الباحث والدارس مهما كان أسلوب تعاطيه مع المادة موضوعياً فإن معتقداته وخبراته السابقة لن تكون في معزل عن صياغة النتيجة، وكذلك الحال مع الأهداف والنوايا.

وعليه فإن تقييمنا لأي دراسة صادرة من الداخل أو الخارج لا بد أن يخضع إلى ثلاثة معايير هي:

الغاية، والمنهج، والخبرة.

فإذا توافقت هذه المعايير معنا باعتبارنا مسلمين كانت هذه الدراسات مقبولة، وإذا خالفت ما عندنا عرَّيناها على حقيقتها. وهنا اعتراف:

إننا بوصفنا مسلمين فإننا مقصرون في صياغة دراسات إستراتيجية تنبع من «رؤيتنا» ، تصور لنا واقعنا كما ينبغي أن نحكم عليه، ومستقبلنا الذي تتيح لنا قدراتنا الوصول إليه، والتحديات التي سنواجهها بين النقطتين ... وكيف يمكن تجاوزها.

إننا نستورد، أو نعيد تصنيع ما نستورده من القوم؛ أما أن ننتج محلياً وفق غايتنا ومنهجنا وخبرتنا فلا يزال الأمر حلماً لدينا.

نقف أمام الأزمات والنكبات والفواجع مستخدمين: خطب الحماسة الملتهبة، أو أوامر التوجيه الصارمة: يجب ويجب، أو المناشدات ومطالبات الاستجداء.

ويقف آخرون: يستقرئون الواقع، ويحللون المعطيات، ويرصدون الظواهر، ويتابعون التغيرات، يفسر أحدهم ويربط، ثم يرسم من خلال ما يراه خططاً ممرحلة، ويأخذ مواقع متقدمة المرة تلو الأخرى.. إنهم في الحقيقة أعداؤنا {وَإن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: ٤٦] .

إن معالجة تراكمات من السنين التي تمتد إلى قرون لا تزول بالعشوائية والارتجالية والمثالية وانتظار الخوارق، كما أن تعقيدات المشهد لا تُحَلُّ بالسطحية أو الإغراق في الجزئيات أو ترك القضايا تحل بذاتها ... !!

المعالجة هي قناعة مُحصَّلة لخطورة ما نحن فيه، وهي تبدأ بالدراسة الفاحصة والدقيقة والشاملة، لا من موقف عاطفي وردة فعل آنية، وهذا ما يغلب على تعاطينا مع الأمور.

بالمثال يتضح المقال:

تعرض الولايات المتحدة الأمريكية سنوياً، تقريراً خاصاً بالحقوق والحريات عن العالم بدوله وشعوبه، هذا التقرير تعده وزارة الخارجية الأمريكية بالتعاون مع أجهزة استخباراتية (غير معلنة) ومع منظمات ما يسمى بالمجتمع المدني (من الجهة المقابلة) . وهذه التقارير السنوية تتبنى الحالة العامة لحقوق الإنسان وحرياته على صعيد الممارسات السياسية والاقتصادية والإعلامية.. في بلاده.

للتقرير ديباجته المعتادة ومصطلحاته المختارة بدقة؛ وقد كان يمثل قبل ١١سبتمبر شهادة للمستوى الإنساني والحضاري الذي تحمله القيم الأمريكية؛ لكنه اليوم (وهو ذاته التقرير بالعبارات والمصطلحات نفسها) مجال لسخرية القانونيين والإعلاميين والمثقفين ولكل من لديه مثقال ذرة من عقل.

وفي ضوئه تتخذ سياسات وتوضع خطط وتنفذ أعمال بل حروب ظاهرة أو خفية. فكان بمثابة الرؤية الإستراتيجية لما ينبغي أن يكون عليه العالم، وتحت شفرته تقطع الدول إلى راعية لحرية المعتقد وحرية التعبير وحرية النشاط وغير راعية لذلك ـ أي دكتاتورية ـ وعليه تستحق دولةٌ ما المساعدات أو لا تستحق، وتستحق الاندماج في المجتمع الدولي أو لا تستحق.

إن «الإنسان» الذي تدافع الولايات المتحدة الأمريكية عن حقوقه وتسعى لحريته ليس هو «الإنسان» الذي تعرفه أنت أيها القارئ الكريم بداهة، وما أدل كلمات الشاعر أحمد مطر عندما يصور هذا المأزق الغربي في النظرة فيقول: الخلق صنفان.. إنس وأمريكان.

٣ تقويم الدراسات الإستراتيجية:

يتفق علماء الإستراتيجية على أن القيم والعقائد والأفكار هي الموجه للأشخاص والجماعات، وهؤلاء بدورهم هم الموجه للمواقف والأحداث.

وعليه فإن القيم والعقائد والأفكار تأتي في الدرجة الأولى من الأهمية ثم يليها الأشخاص ثم يلي ذلك المواقف والأحداث. وحيث إن الرؤية الإستراتيجية تصيغ العقائد والقيم والأفكار فهي لا تصلح أن تنبع من الأشخاص؛ لأن مَنْ حَقُّه التأخر لا يصلح أن يتقدم على من حقه التقدم. فلا بد أن تصاغ الرؤية الإستراتيجية ممن هو أعلى مرتبة ومنزلة.

وفي الإسلام يؤمن أتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الدين المنزل من الله، هو ما يمثل بالنسبة لهم الرؤية الإستراتيجية ليس في الدنيا وحسب بل في الدار الآخرة. ومن ثم يصبغ الإسلام: العقيدة، والقيم، والفكر، والشخصية والمواقف. وتكون الرؤية الإستراتيجية متناسقة ومتحدة ومتكاملة ومستقرة وصالحة لكل زمان ومكان وفي كل ظرف وحال.

لقد شملت تعاليم الإسلام وأحكامه كافة جوانب الحياة حتى جعل بعضهم يسأل صحابياً من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-: علمكم نبيكم كل شيء؟ فيرد الصحابي معتزاً: نعم! حتى الخراءة. (أي كيفية قضاء الحاجة) . وهي الكلمة التي صاغها أحد الدعاة المعاصرين في جملة: الإسلام قانون للحياة من كرسي الحَمَّام إلى كرسي الحُكَّام.

وهذا ما لا نتحرج منه.

فأين اليوم المسلمون الذين يقدمون الإسلام بهذه الروح؟ لقد صدق عدو (عاقل) حين وصف الإسلام فقال: نِعْمَ الدين لو كان له رجال! وقال عمر من قبل: لوددت أن لي ملء هذا المسجد ـ مسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- ـ رجالاً من أمثال أبي عبيدة عامر بن الجراح (أمين هذه الأمة) .

إن الإسلام «رؤية» استراتيجية في جوانب النفس البشرية ودورها في الحياة وما يحيطها. لكننا بحاجة إلى تقييم ذواتنا وتحديد موقعنا منه كخطوة أولى، قبل أن نحدد موقعه من الآخرين.

وبعض الناس يريد أن يصف جميع أحوالنا القائمة بأنها إسلام بل وإيمان، ويريد أن ننطلق بهذا الاعتبار في المواجهة والإعمار؛ وذلك تحت مبررات عدة أو تفسيرات متأوَّلة.. كالواقعية.

وبعضٌ آخر يريدنا أن نصل إلى الإسلام من السبل الأخرى التي أوصلت غيرنا إلى ما هم فيه؛ فهي الكفيلة في نظره للحل الذي بوجوده نتمثل الإسلام، فيظهر: الإسلام الديمقراطي، والإسلام الاشتراكي، والإسلام القومي، والإسلام الوطني، والإسلام المصلحي، والإسلام العقلاني،.... إلى ما هنالك في سبيل الوصول إلى الإسلام الرباني.

ويُكرَّر الخطأ ذاته، حيث يُضفى مسمى الإسلام على مبادئ وقيم منحرفة.. هي جزء من البلاء وأساس في الداء.

إن المشكلة في هذه الأزمات أنها لا تترك لأحكام الإسلام أن يُتعامَل معها وتُجَلَّى ويُحكم عليها، ولا تُترك للمختصين من أهل الفقه والعلم الشرعي باعتبارهم المختصبن بهذه المسائل.. نعم! قد يوجد لديهم قصور، هذا وارد؛ لكن على الأمة والمختصين الآخرين في مجالات العلوم الأخرى أن يشاركوهم في توصيف الواقع كما هو، لا كما نريد أن نفهمه نحن.

ومثال على ذلك (السلام مع العدو الصهيوني) فهو سلام في عقولنا نحن فقط، في تحركنا نحن فقط، لكنه كما يبدو عند العدو شيء آخر غير الذي نقصده ونريده، إنه انهزام.. استسلام.. أي شيء يجرنا إلى الذل؛ لكنه ليس سلاماً بالتأكيد.

فإستراتيجياتنا لا بد أن تقوم على نظرة حقيقية للواقع كما هو فعلاً، لا كما نتخيله في أذهاننا أو نراه في أحلامنا، وإذا خلطنا بين هذا وذاك كان السير على «خارطة الطريق» مهلكة محققة، ولن نجني منها لا بلح الشام ولا عنب اليمن.

وعليه فإن معرفة الواقع، معرفة دقيقة، وفهم اتجاهه وحركته، وفقه السنن التي يجري في ضوئها وأسباب التغيير ونقاط التحول وعوامل التأثير التي تشكله والعلاقات التي تحكم الروابط بين أجزائه ومكوناته هي الخطوة التي بوسعنا أن نشارك فيها جميعاً بصدق وأمانة.

٣ الدراسات الإستراتيجية، وما ينبغي أن تقدمه:

للوطن العربي والإسلامي خصوصيته الحضارية والعقائدية والفكرية والأخلاقية، وله مساره التاريخي الطويل الذي يمتد إلى ١٥ قرناً، وله ظروفه التي تحيط به؛ ولا بد أن نراعي هذه الجوانب ونعطيها قدراً من الاهتمام.

لذا فإن في تقديري أن على الدراسات الإستراتيجية أن تراعي الجوانب التالية:

١ ـ أن تصاغ الدراسات وفق مبادئ وقيم و «رؤية» الإسلام الكلية والشاملة، وأن تُضبط مفاهيم ومصطلحات الدراسة في هذا الإطار؛ بحيث تسمى الأمور بمسمياتها الحقيقية؛ سواء كان ذلك في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع، أو غير ذلك.

٢ ـ أن تعطي هذه الدراسات البعد التاريخي حقه من التأمل والتدقيق والتحقيق حتى تُنسب الظواهر إلى أسبابها البعيدة والغائبة إن وجدت، وأن لا تقتصر على توصيف الواقع فقط؛ لأن الواقع ثمرة الماضي؛ كما أن المستقبل نتيجة الواقع.

وقصقصة التاريخ أو عزله عن الدراسات الإستراتيجية، هو بتر «للرؤية» وتجزئة للحقيقة.

٣ ـ أن يتم توصيف الواقع بمقاييسنا واصطلاحاتنا نحن، قدر المستطاع، ونفصل بين الأسباب والمسببات، والظواهر ونتائجها، والأحداث وأشخاصها، في سبيل تحليل وتفصيل مادة الدراسة إلى الحد الذي تتبين معه ماهيات الأمور.

ثم يعاد ربط هذه الجوانب في صورة متكاملة ومنطقية؛ وهذا يتطلب أن يوجد الخبراء في مجالات الدراسة وأن يُعْطَوْا حظهم من الوقت وفسحتهم من الجمع والدراسة والصياغة.

٤ ـ أن تعد هذه الدراسات في ظل أهداف واضحة، لا نتائج مسبقة؛ فهناك فرق بين أن تطلب من فريق الدراسة للوصول إلى نتائج مسبقة.. وأن تحدد الهدف الذي لأجله تتم الدراسة، ألا وهو توصيف الواقع وتقديم الحكم له، أو الأزمة وإيجاد حلها.

٥ ـ أن تتجنب الدراسة الإستراتيجية الإغراق في الأزمة (أو المشكلة) أو الظاهرة؛ بحيث تغفل الجوانب المضيئة والعوامل الإيجابية.

٦ ـ أن ترتقي الدراسات الإستراتيجية من الوقوف على الحوادث ومواقف الأفراد، والأشخاص، لتتعامل مع القيم والمبادئ والأفكار؛ لأن الأحداث أعراض لحظية، والأشخاص أعراض قصيرة العمر مقارنةً بالقيم والمبادئ والأفكار، التي لها الديمومة في الحياة.

إنني أتساءل: لماذا تتعامل الأمة العربية في مستواها السياسي مع مؤتمر هنا ووثيقة هناك؟ وإجراء موجب وآخر سلبي؟! ورئيس مضى وآخر موجود وثالث قادم؟! لماذا لا تتعامل مع الأمور بمستوى المبادئ والقيم والأفكار؟! إذن لحسمنا كثيراً من مسائل الخلاف التي نتنازع عليها اليوم.

٧ ـ أن تشمل الدراسة الاستراتيجية المحاور التالية:

أـ الرؤية الواضحة للأمور.

ب ـ القواعد الكلية.

ج ـ الأطر المحيطة.

د ـ الأهداف الغائبة.

هـ ـ خارطة السير العامة.

وـ المشروع العملي المتكامل.

ز ـ الحلول البديلة عند الأزمات.

ح ـ البوصلة التي تحافظ على الاتجاه الصحيح.

ختاماً: فإن الطفل الصغير يفرح عند نفخ النُّفَّاخة أمامه، وكلما زدت نفخاً فإنه يطلب المزيد وترتسم على محياه علامات الرضى وابتسامات الضحك، وعندما تنفجر النُّفَّاضة فجأة يصرخ هو بصوت مدوٍّ.. إنه لم يكن يتوقع ما حدث؛ لأنه كان جاهلاً بقانون المادة.

هذا ما غفل عنه الصحابة في إحدى سباقات الإبل، عندما سُبقت ناقة للنبي -صلى الله عليه وسلم- كانت لا تُسبَق أبداً؛ فلما رأى الرسول -صلى الله عليه وسلم- استنكارهم قال: «إن حقاً على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه» (١) .

لكل شيء إذا ما تم نقصانُ

فلا يغر بطيب العيش إنسانُ

هي الأمور كما شاهدتها دول

من سره زمن ساءته أزمانُ

فتنبغي الإشارة إلى عدم جواز اليأس من أبناء الأمة أمام بهرجة الباطل اليوم؛ فإن العمل الجاد ومواصلة السير كفيل ـ بعد توفيق الله تعالى ـ بالنتائج. فهلاَّ صبرنا وصابرنا ورابطنا!

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين!


(١) الموسوعة العربية الميسرة، الجمعية المصرية ودار الجيل، الطبعة الثانية ٢٠٠١ مج ١ ص ـ ١٩٢.
(١) الإسلام دين رباني، وإنما نتنزل في الخطاب للوصول إلى الغرض.
(١) أخرجه البخاري، كتاب الرقائق رقم ٦٠٢٠.