للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مقال

الانتخابات الأمريكية:

المطلوب استعمار استثماري

د. عبد الله عمر سلطان

«تعيش أمريكا حالة إجهاد شامل مصحوب بكثير من القلق والتوتر؛

وتتساءل عن المستقبل الذي يبدو ملبداً بالتحديات والمخاطر.. لقد جاء ريغان إلى

سدة الرئاسة وهو يمثل الأمل بالنسبة للناخب الأمريكي.. الأمل من حالة يأس

مشابهة عاشها الشعب الأمريكي في نهاية السبعينات، حينما بدا النظام السياسي

والرئاسي عاجزاً عن تخطي حواجز الواقع المكفهر.. لكن الفرق بين المصير القاتم

والتاريخ القريب أننا اليوم نعيش تحديات أكبر وواقعاً أكثر صعوبة وتجربة مرة كان

أكبر من صنعها فريق ريغان - بوش وتيارهم اليميني المتطرف» . هذه الشهادة

للكاتب والمفكر الأمريكي «ديولي» تلقي الضوء على الواقع الذي تواجهه الجموع

الأمريكية وهي تجتاز المرحلة الحاضرة التي ترافقها انتخابات الرئاسة لعام

١٩٩٢، جزء من هذا الواقع الصعب كان نتيجة للفراغ الهائل الذي لخصه

«ليستر ثورو» بروفسور العلوم الاقتصادية في جامعة هارفارد في كتابه الجديد «

رأساً لرأس» بقوله: «عندما وقف رونالد ريغان خلال حملته الانتخابية رافعاً

شعار إنهاء الحظر السوفييتي شبهه بدب في الغابة بعض الناس يرونه شاخصاً

أمامهم، وآخرون لا يرونه لكنهم يقولون: إنه دب لطيف.. نحن نراه ونعرف أنه

دب خطر متوحش.. السؤال هو: ألا يجب أن نكون حذرين؟ .. هذه الصيحة

التحذيرية أوجدت دوياً هائلاً في ذلك الوقت لكن من يستطيع أن يحفز الأمريكي

على مواجهة مماثلة بعد موت الدب فجأة حيث غدت الغابة آمنة..!» نعم لقد

وجدت أمريكا نفسها تعيش في حالة غريبة كانت تحلم بتحقيقها وفجأة حينما تم لها

الانتصار على الخطر الشيوعي وجدت عالماً مختلفاً عن ذلك العالم الذي تمحورت

حوله السياسة الخارجية الأمريكية في الأربعين عاماً الماضية وانعكاسات ذلك على

الصعيد الداخلي..، وهكذا كان على أمريكا أن تواجه استحقاقات وثمن المواجهة

الباهظة: استنزاف هائل للثروة من أجل إقامة ترسانة عسكرية هائلة ورهيبة لم

يعرف لها الكون مثيلاً، مما أثر على الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية

من جهة الإنفاق والاهتمام، وتفضيل للشركات الضخمة المتحالفة مع الحكومات

اليمينية المتعاقبة في مجال الضرائب، مما أفرز زيادة ضخمة في ثروات رجال

الأعمال الأغنياء أصلاً، وزيادة الفقر والحرمان في المجتمع الفردي التوجه إلى حد

الأنانية، وتكريس للمصطلحات والطروحات اليمينية التي جلبها الجمهوريون

كغطاء عقدي في مواجهتهم الشرسة للعصر الليبرالي الذي ساد أمريكا قبل صعودهم

للسلطة، وإدراك قوي لدى قادة الرأي والمفكرين بتقلص القدرة الأمريكية على

منافسة القوى الدولية الصاعدة كأوربا واليابان اللتين تسعيان حثيثاً إلى تقليص النفوذ

والسيطرة الأمريكتين، وتوجه متسارع من قبل اليمين الأمريكي لاقتناص الفرصة

والدخول في معارك ساحتها العالم الثالث للاستحواذ على الثروات والأسواق

وتصدير الثقافة كما تفعل الإمبراطوريات المادية النهمة كلما شعرت أن عصرها

يوشك على الأفول، وأن القوة العسكرية التي صنعتها تراكمياً لعقود هي الميزة

الوحيدة الباقية لابتزاز وإخضاع القوى الضعيفة، لا سيما تلك التي تحمل نحوها

كرهاً حضارياً وتاريخياً.

دلالات الانتخابات الأمريكية:

لم يبلغ حجم العزوف عن المشاركة الانتخابية هذا المستوى من الكثافة منذ

عام ١٩٢٤م. ففي انتخابات عام ١٩٨٨م أبدى أكثر من ٦٦% من الناخبين عدم

رضاهم عن المرشحين: دوكاكس وبوش، وهي أعلى نسبة منذ إنشاء الولايات

المتحدة، كذلك أوضح أكثر من ٥٠% من الناخبين عدم رضاهم عن الحملة

الانتخابية وأنها كانت شخصية تركز على الجانب السلبي لدى الخصم، دون

الحديث عن المواضيع الهامة التي تهم الناخب.. «إنها حملة شخصية بحتة.. ولا

علاقة لها بالمخاطر التي تجتاحنا» ، كانت هذه العبارة لناخبة أمريكية تربط بين

الحملة السابقة والحالية! وأضافت: «يبدو أن فريق الجمهوريين الذي ساعد بوش

في الوصول إلى السلطة يريد أن يعيد تشغيل الشريط مرة أخرى، فنحن الآن ندين

بالفضل لهم حيث أصبحنا نعرف بالتفصيل تاريخ كلنتون المخزي.. ومع من خان

زوجته؟ وكيف هرب من الجيش بواسطة نفوذ عائلته، وكم مرة تهرب من دفع

الضرائب.. ولكن هل بوش أكثر نزاهة منه، وهو الذي حارب أمثالي من الأسر

المتوسطة ورفع من تكاليف الحياة اليومية لملايين من أمثالي في الوقت الذي يسرق

أبناؤه ملايين الدولارات بلا رقيب.. هل هذه هي القيم الأسرية التي تنادي

بها؟ ؟» [١] ! هذه المرارة وذلك النقد الذاتي هما المعزوفة المنتشرة بين الناخبين اليوم.. لا سيما فيما يتعلق بالجانب الاقتصادي الذي يراهن عليه المرشح الديمقراطي للوصول إلى السلطة، والملاحظ أن العديد من الأمريكيين يعرفون مقدماً أن كلينتون لن يكون سوى جيمي كارتر آخر.. لكنهم مستعدون للمخاطرة والرهان عليه فربما تخطى بهم ساحل التردي الذي خيم على مشاعر وتصورات الأمريكيين الذين رأوا في رئاسة بوش تعاسة ممزوجة بالانتهازية.. «لقد فقدنا الزعامة الفذة التي تنظر إلى الأمور بتوازن.. بل حتى اللمسة الشخصية التي كان يتركها ريغان لدى الفرد الأمريكي حينما يخاطبه تبخرت هي الأخرى ولم يبق سوى وجه بوش الممل وخطاباته الفاترة.. أو صوت كلينتون الباعث على النعاس والخمول. أليس من المأساة أن يختار أكثر المنعطفات الحالية خطورة في ظل غياب

العمالقة؟» [٢] .

هذه الشهادات والمشاعر تصب في خانة اليأس والقنوط في الواقع القائم

والمطالبة بالتغيير والبحث عن بديل.. هنا لا يجد الناخب الأمريكي غضاضة من

إبراز «روس بيرو» كمرشح للرئاسة وهو بليونير لا يملك أي برنامج سياسي

واضح ما عدا كلمة واحدة: التغيير.. لكن دون تحديد الوجهة أو الطريقة.. من

هنا انسحب «بيرو» من سباق الرئاسة في مرحلة سابقة، ثم ما لبث أن عاد إلى

حلبة السباق حيث هناك فراغ هائل أكبر من قامة كلا المرشحين.. أو بعبارة مجلة

فورين أفيرز: «تراكم قوة الرغبة في محاربة الواقع القائم من قبل الناخبين مقروناً

بمشاعر متدفقة من القلق والتشاؤم والتصميم على قلب الوضع القائم في واشنطن» .. ربما يقول البعض إن السبب لبروز هذه المشاعر هو الكساد القائم لكن في هذا

الطرح تبسيطاً للعلاقة وطرحاً فجاً لنظرية السبب والنتيجة، لقد عاش الشعب

الأمريكي كساداً أفظع خلال عامي ١٩٨١-١٩٨٢ لكن مشاعر الحنق أعلى الآن من

مثيلاتها قبل عقد مضى.. ويبدو أن الرئيس حينما يراجع سبب تراجعه في

الإحصاءات إلى العامل الاقتصادي وحده يغالط نفسه وجمهوره.. إن الاقتصاد أحد

أعراض مرض أمريكا الحالي والمتفشي دون محاولة جادة من قبل المسؤولين لتقديم

العلاج، وإن عدم الاستجابة ذاتها يجعل الأمريكان يشعرون بالعجز والخجل من

أمريكا التي تقدم نصائحها للعالم، بينما تتناسى العار الذي اكتنفها «.. وهكذا فإن

شعارات كانت مستهجنة أصبحت مقبولة فباتريك بوكانون مثلاً تقدم للترشيح عن

الحزب الجمهوري رافعاً شعار:» أمريكا أولاً وثانياً وثالثاً «بصورة انعزالية

تدعو إلى انكفاء أمريكا على مشاكلها وترك العالم الخارجي وشأنه، ومع أن هذا

الشعار كان مطروحاً قبل بروز أمريكا في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلا أن

رواج هذه المقولة في هذه الحملة وحصول بوكانون على ما يقارب من ٢٠-٢٥%

من أصوات الناخبين يبرز الرغبة الملحة للتغيير لدى الناخب الأمريكي، والمطالبة

بتغيير سلم الأولويات وربما السياسات التي كانت متبعة خلال نصف قرن.. وهكذا

فإن المرحلة المقبلة ستكون بداية تشكل طروحات جديدة تعالج الدور الأمريكي على

الساحة الدولية والموقف من التحديات الداخلية وموقع المنافسة في ظل نظام متغير

ومنافسين جدد..

ومن الطريف أن السياسة الأمريكية وطروحات بوش واليمين الأمريكي

المطالبة بتصفية مخلفات الحرب الباردة ووجوهها في العالم الثالث، لتحقيق هيمنة

أكبر ونصر ساحق في عصر الاجتياح الأمريكي قد يطبق على رموز الحرب

الباردة وزعمائها في أمريكا وبواسطة الناخب الأمريكي.. وإذا حصل هذا فإن أفكار

اليمين المتطرف وزعامة الرئيس الأمريكي ستكون أول الضحايا ومقدمة الرموز

التي ستسقط في هذا السياق.

الخروج من الشرنقة:

من المناحي البارزة في الحملة الانتخابية الحالية أنها تعالج - كما فعلت

الحملات السابقة - مآزق الماضي وطروحات الستينات الميلادية. إن بداية سقوط

الإمبراطوريات العظمى يرافقه ميل إلى الانكفاء نحو الماضي الرامي إلى تصفية

حسابات القوى السياسية، حتى يصبح الحاضر والمستقبل القريب والبعيد رهائن

دائمة للطروحات السالفة، دون استشعار لتغير الزمن وتبدل التحديات.. ويبدي

بعض المفكرين الأمريكيين قلقهم من هذه الظاهرة وصعوبة المرحلة التي تواجه

العصر بعقلية التصفية والتصفية المضادة بين النخب المؤثرة، في الوقت الذي

تسبق الجموع والجماهير النخب في استشعار الخطر وتلمس المصاعب..» الفرد

أصبح مهدداً في أعز ما يملك.. حلمه الأمريكي في حياة مرهفة..! إنه يفقد

وظيفته ليطير إلى بلدان أخرى كالمكسيك، وهو يرى تراجع مستوى المعيشة

والرخاء في الولايات المتحدة، وهو يشاهد عدم استطاعته دفع مصاريف العلاج

وصرف غائلة المرض.. ثم يتراءى المأزق شاخصاً في أحداث لوس أنجلوس التي

كشفت عن وجوه أمريكا البشعة.. ثم يترتب أن تفعل المؤسسات الحاكمة شيئاً

لتغيير هذه الصورة القاتمة فلا يرى سوى اهتمام من النخبة الحاكمة - حكومة

وشركات - بمصالحها الخاصة والشخصية..! إن هذه اللامبالاة على مستوى

القيادات هي التي تحرك الغضب الشعبي وترفع من حرارة مشاعر الناخبين، وربما

أدى هذا إلى كارثة هائلة تتمثل في مأزق شرعية الوضع الراهن! ! [٣] هذا

المقطع يطرح مأزق الدائرة المفرغة التي تدور حولها معركة الانتخابات «التي

تدور حول شعارات رنانة دون وجود مادة خلفها» [٤] كما يقول النائب بيتر

دوفنشي. لقد استنفد الليبراليون والمحافظون طروحاتهم حول المشكلات ذاتها،

وأصبحت السنوات الثلاثون الماضية فصلاً في الردود والردود المضادة،

فالجمهوريون في هذه الانتخابات طرحوا شعار القيم العائلية، مقابل طرح الحرية

الشخصية لليبراليين، ويتفرع عنها قضية الاجهاض التي نجحت القوى الليبرالية

قبل ٣٠ عاماً في إجازته قانونياً، وأصبح تحريمه برنامج عمل مكثف لليمين خلال

الثمانينات.. وكما كانت قضية الأقليات وحقوقها مادة النزاع الأهلي في الستينات

حينما نال السود بعض الحقوق النظرية كانت فترة حكم الجمهوريين مرحلة تجميد

لهذه الحقوق عملياً وتركيز على هيمنة الرجل البروتستانتي الأبيض كما تكشف

أحداث الشغب في المدن الأمريكية عن حالة من الغضب من الغبن العنصري الذي

أتى به ريغان ومن بعده بوش.

أما السياسة الخارجية لأمريكا - بعد انقشاع الحرب الباردة - فقد ظلت أسيرة

حرب فيتنام التي جرت في العقد السادس، ويرى العديد من المراقبين أن جزءاً

هاماً من دوافع التدخل الأمريكي في الخليج ينطلق من شعار الرئيس الأمريكي: «لا فيتنام أخرى بعد الآن No more Vietnam» والذي يؤكد طرح اليمين

الأمريكي بأن التدخل والتوسع على الساحة الدولية ضروري للقيام بالدور

الاستعماري الكفيل بتنشيط الاقتصاد والثقافة الأمريكتين، ولو تم ذلك بصورة

مباشرة ومكشوفة، وهذا ما يعارضه قطاع من الليبراليين. إن حرب الخليج شاهد

على التخلص من عقدة فيتنام إلى الأبد، ومؤشر على ضرورة التدخل في المناطق

التي تشكل جزءاً هاماً من مناطق النفوذ والأمن الأمريكي في العالم، أما قضية

إصلاح الاقتصاد الأمريكي المتعثر فإنها تظل حبيسة الطروحات القديمة والمتمثلة

في رفع أو خفض الضرائب والإنفاق الحكومي، مما يؤكد شعور الناخب والمراقب

الأمريكي أن ما يعرض عليه من قضايا لا يعدو أن يكون تكراراً مملاً لتحديات

الستينات.. مرحلة الفورة والبريق المفقود، وإن السياسيين في كلا الحزبين

يصرون على عدم الخروج من شرنقة الماضي وطروحاته، عاجزين عن التصدي

لتحديات اللحظة.

ما هو البديل؟

إذا كان المرشحون الحاليون لا يملؤون الفراغ الذي يحس به الناخب

الأمريكي، فما الذي سيملأ هذا الفراغ وذلك الفضاء المتسع؟

ابتداءً يجب التأكيد على نقطة هامة وجوهرية وهي أن هذا الخليط العجيب من

الأعراق والديانات يجمعه هاجس «الفكرة الأمريكية» التي تقوم على عبادة

الدولار والحرية الشخصية.. في مجال الحرية الشخصية يتمتع الفرد الأمريكي

بهامش كبير منها ما دامت لا تتطور إلى «فكرة متحركة» تهدد الوضع القائم على

الهيمنة البيضاء بشقيها المتحرر والمحافظ وثقافتها المسيحية/اليهودية، كما يجمع

المرشحان الحاليان بوش وكلنتون.. إن مرحلة تسييس الفرد الأمريكي التي مرت

بسرعة خلال العقدين السادس والسابع حالة طارئة، استنفرت المؤسسة الحاكمة

جناحيها المحافظ والمتحرر لكبحها، بالرغم من أنها تستمد جذورها الأصيلة من

القيم الأمريكية، ولذا فإننا نرى أن الفرد الأمريكي هو الأقل تسييساً ومشاركة في

القرار مقارنة بالدول الصناعية الأخرى، وهذا ما يفسر جزئياً انحصار العملية

السياسية فعلياً في حزبين فقط يتقاربان كثيراً في مسألة إبعاد الجماهير عن السياسة

وإطلاق الحريات الضرورية ما دامت في خانة الآحاد المبعثرة..

أما الدولار - المعبود الأمريكي الأول - فإنه يعبر عنه بتعبيرات أكثر لباقة

فهو أحياناً يسمى «الاقتصاد» وأخرى «المصالح» وثالثة «بالعمل» ورابعة

«بالأمن القومي» وخامسة «بالمناطق الاستراتيجية» ولكن كل هذه التعبيرات

والمصطلحات تجمع على عبادة المال وتقديسه، وهو ما يلخصه بعض المفكرين

الأمريكيين «بالحلم الأمريكي» حيث الحرية الفردية الممتزجة بالراتب الوفير،

والسيارة الفارهة، والبيت المملوك، والمتاع المتوفر.. هذه هي أمريكا حتى

بالنسبة للحالمين بالهجرة إليها: فرصة جديدة. لتحسين الدخل ... ولذا فإن العديد

من الناخبين الأمريكيين يرون في الدولار الهارب أزمة الأزمات وأخطر المخاطر

التي يواجهونها؛ لقد تعود جيل الطفرة الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية أن يجد

عملاً مستمراً، وأن راتبه يزيد سنوياً وأن يتمتع بالمال المدخر الذي ينمو باستمرار

.. وفجأة وجد أن هذه المسلَّمات قابلة للنقص.. وهكذا «يتعلق الأمريكان بالاقتصاد

والمال بلهفة حتى المسائل الاجتماعية تجد جذورها المادية/الاقتصادية، فمشاكل

العلاج الصحي والتعليم، والجريمة والمخدرات ينظر إليها من منظور فردي مادي، حيث يشعر الناس أنهم مهددون بالطرد من العمل، وعندها لن يجدوا العلاج

المجاني، وهذا ينسحب على التعليم حيث أن ٨٨% من الأمريكان يؤمنون أن

التعليم الجماعي ضرورة لحياة كريمة، ولكنهم يرون أن أقساط الجامعات تتعدى

معدل الدخل والتضخم، ويقلقون بالتالي على مصير أطفالهم وكم سيدفعون لضمان

تعليمهم.. وغالبية الجموع ترى أن المخدرات والجريمة من نتاج الفقر وتراجع

الاقتصاد.. حتى السياسة الخارجية التي يؤمن أكثر من ٧١% من الأمريكان

بضرورة الاستمرار في تسيير دفتها العالية تصبغ برداء المادة والمصالح الاقتصادية

بعيداً عن نظريات الحرب الباردة ومحاربة الشيوعية وموازنة القوى.. يجب

إعطاء الجانب الاقتصادي أهمية بالغة في قدر وحجم التدخل الخارجي مستقبلاً بما

يضمن استمرار الرفاهية والترف المعيشي.. أما المناطق الأقل اجتذاباً وفقراً فيرى

الأمريكي أن رداً جماعياً تقوم به الأمم المتحدة ربما يرفع الحرج عن الرد الأمريكي

المطلوب تجاه هذه المعضلات» [٥] .

إذن فالبوسنة تذبح لسنوات.. لا تعني الفرد الأمريكي لأن البترول غير

متوفر هناك.. وبما أن الضحايا في عصر الارتداد إلى الماضي - زمن الشحوب

الحضاري - لا يمثلون امتداداً حضارياً (يهودياً مسيحياً) لهذه الأمة.. والمحصلة

النهائية مخزون هائل قائم على الماضي بأعدائه ورموزه وشخوصه يقف المسلمون

في مقدمة القائمة المستهدفة، ورغبة دفينة في الحصول على الموارد والمواد الأولية

والاستثمار في اقتصاد قائم على توظيف الأموال الأجنبية وجنوح نحو غسل عار

فيتنام. كل هذا لا يتم على مستوى النخب الحاكمة التي لها سجل طويل مخز في

صنع المخاطر والتلاعب بتوجهات الجماهير إنما.. يأتي هذا الشعور المتنامي من

القاعدة اللاهثة للمال والدولار والمغامرات الخارجية التي وصفها شوارزكوف في

مذكراته بقوله: «هناك في واشنطن يقف صانعوا القرار الذين أدمنوا مشاهدة أفلام

البطولات الأمريكية السينمائية يمتلئ صدر الواحد منهم ببطولات رامبو الأمريكي

الذي يسحق الآخرين الأشرار في الوقت الذي لم يطلق أحدهم رصاصة في حياته إلا

أنه يشعر أن بإمكانه اتخاذ قرار الحرب الشاملة بكل برود..» نعم بكل برود ما

دامت الأوصاف التي يطالب بها الناخب الأمريكي اليوم هي الاستعمار البشع

المكشوف، وما دام الضحايا الذين تنطبق عليهم شروط الذبح الأمريكية منطقة

واحدة محددة: العالم الإسلامي.

بالأمس كانت النخب المسيطرة والحاكمة في الولايات المتحدة تبرز مخزونها

العنصري، لا سيما حينما بدت الحرب الباردة تضع أوزارها.. حينها بدأت

الهتافات الحارة والدعاوي المزيفة تستنفر الغزو الأمريكي بشعارات مثل: المسلمون

قادمون الخطر الأخضر، المارد الأصولي يتململ، محاربة التطرف الإسلامي،

وأد الإرهاب المحمدي.. وغيرها من الشعارات التي تفنن اليمين الديني الأمريكي

في الدعاية لها والدعوة إليها.. أما اليوم فإن الفرد الأمريكي البسيط يرى في

معركته المحتمة مع مناطق الاكتناز الاقتصادي مصيراً لتحسن مستوى دخله دون أن

تدفعه قوة عقائدية أو راية صليبية.. وإن كانت ضرورية حين تشن الحرب المقدسة

لعوامل عدة أبرزها إضفاء الشرعية على التحركات الشريرة المقبلة ...

الجديد في الطرح الأمريكي هو قوة الدفع الشعبي المنطلق من عقيدة عبادة

الترف والذات لتلتقي في نقطة ما مع ما يدعو إليه غلاة اليمين الديني الجديد..


(١) ABC ١٢/٩/١٩٩٢.
(٢) CBS شالنجر ٧/٨/١٩٩٢.
(٣) بتصرف دانيال يانكلوفتش، فورين أفيرز خريف ١٩٩٢م.
(٤) ديوني: لماذا يكره الأمريكان السياسة ص ١٠.
(٥) فورين أفيرز خريف ١٩٩٢.