للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[مهمة العلماء]

إن المكانة التي ينالها العلماء بين صفوف المسلمين لا تعدلها مكانة أبداً، وإن

عناية المسلمين بتسجيل دقائق حياة علمائهم مشهورة ومشهودة، تشهد بها آلاف كتب

التراجم والطبقات التي حفظت هذا المقدار الهائل من أسماء العلماء على مدار

العصور، وعلى اختلاف مناحي المعرفة.

وسبب ذلك أن النظرة إلى العلم والعلماء قضية داخلة في صلب العقيدة الدينية، فقد ترسخت هذه المكانة للعلماء من يوم أن اعتبر أن العلماء هم ورثة الأنبياء،

ومنذ تفرق الصحابة - رضي الله عنهم - في البلدان، ينشرون الدين، ويعلمون

الناس ما جاء به محمد بن عبد الله - عليه الصلاة والسلام - من العلم والنور

والهدى.

وقد كان المنصب العلمي غير منفصل عن منصب القيادة السياسية في حياة

الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفي حياة خلفائه الراشدين، بل وفي حياة

بعض الخلفاء الذين تحول الأمر على أيديهم إلى ملك عَضوض.

وبعد ذلك بدأت العلاقة بين المكانة العلمية والمنصب السياسي تتراخى، حتى

أصبحت طبقة العلماء متمايزة تقريباً عن طبقة الحكام، إلا في استثناءات يسيرة.

ومع هذا، فإن عامة الناس ازداد التفافها حول علمائها، فبينما كانت العلاقة

بينهم وبين القادة السياسيين - في الغالب - تحكمها الأمور الرسمية، وتحيط بها

مشاعر الرهبة والخوف لأنها كانت ناتجة عن استخدام القوة والإكراه، كانت

علاقتهم بالعلماء علاقة قلبية تقوم على مشاعر الولاء الداخلي الصادق النابع من

عقيدتهم، وذلك لأنهم كانوا يجدون في هؤلاء العلماء الملاذ من قسوة الظروف،

وكانوا يلتمسون عندهم الحلول لمشاكلهم، والنور الذي يهتدون به حينما كانت تشتد

عليهم الأحوال الداخلية أو الخارجية.

وحينما حصل الانفصال بين العلم وبين القيادة، وتسلط على الناس مَن لا

يبالي ولا يقيم وزناً لمثل هذه المؤهلات - أصبحت هيبة العالِم تزداد، وأثره

يترسخ بقدر بُعده عن أبواب هؤلاء السلاطين، وكان هذا نوعاً من المقاومة السلبية

لهذه الحال غير الطبيعية.

ولو أننا أردنا أن نستخلص مميزات للعلماء الذين بقوا في ذاكرة الأمة،

واستمر أثرهم حياً بعد موتهم، من خلال استعراضنا لتاريخ العلم والعلماء لأمكننا

أن نعثر على كثير من الصفات التي كفلت لهؤلاء العلماء جميل الذكر وعميق الأثر

في حياتهم وبعد مماتهم، ومن ذلك:

١- العلم الصحيح النابع من توجيهات القرآن الكريم، وما صح من سنة

المصطفى - صلى الله عليه وسلم -.

٢- الإخلاص في طلب هذا العلم، وفي تبليغه، وعدم الحرص على فضول

الدنيا وحطامها الزائل.

وإننا لنجد العجب العجاب في سيرة علمائنا حول هذا المعنى، ولقد سن هؤلاء

لمن بعدهم نهجاً واضحاً في التقلل والصبر والبعد عن إذلال النفس وإهانتها في

سبيل تحصيل فضول العيش، وضربوا أروع الأمثلة في ذلك، بل إنهم كانوا لا

يستنكفون عن القيام بأي عمل يدوي مهما كان؛ ليعيشوا في غناء عن الحاجة لأحد، أعزة يقولون كلمة الحق في وجه من يحيد عنها، لا يخشون قطع جراية أو مرتب، فكان منهم الفرَّاء والعطار والزجَّاج والإسكاف و ...

٣ - الالتصاق بالجماهير، فالعلماء الذين أحدثوا أثراً مدوياً هم الذين لم

ينعزلوا في بيوتهم، أو في حلقات ضيقة حصروا أنفسهم فيها ولم يدروا ما يموج به

المجتمع من مشاكل، وإنما تناولوا قضايا الناس الملحة، ونظروا فيما له أثره

وانعكاساته على حاضر الناس ومستقبلهم.

وإنني سأكتفي بضرب مثالين من أمثلة كثيرة على هذا الأمر من حياة إمامين

جليلين هما: الإمام أحمد بن حنبل، وشيخ الإسلام ابن تيمية.

ففيما يتعلق بالإمام أحمد فإنه وقف موقفاً جريئاً وثابتاً من قضية شغلت الناس

في عصره، وبدعة استظهر على القول بها جماعة من أهل الأهواء بقوة السلطان،

وامتحنوا الناس بها، وأرادوا أن يحملوهم عليها قسراً، ألا وهي بدعة القول

(بخلق القرآن) .

وقد يظن بعض الناس - لأول وهلة - أن موقف الإمام أحمد ليس له ما يبرره، وأن القضية التي تصدى لها ليس لها ذلك الخطر الذي نصب نفسه لمجابهته، ولكن هذا الظن قد تدفع إليه العجلة أو الجهل بالحقائق، فقد وجد الإمام أحمد في هذه المقالة - من حيث المبدأ - أمراً لا أصل له، ولا دليل عليه، ومن

جهة ثانية كانت هذه المقالة بتأثير من الأفكار الوافدة والفلسفات الدخيلة التي تسربت من خلال الترجمة لبعض آثار الأمم غير الإسلامية، بتصوراتها الوثنية، ولوثاتها التي تصادم ما عليه المسلمون من عقيدة ومنهج.

وليس هذا مقام تحليل ظروف المحنة، وما كانت ستؤدي إليه النظريات

الاعتزالية والعقلية، فيما لو هيمنت على أسس النظر والاستدلال عند المسلمين،

ولكن نقول:

إن بقاء الإمام أحمد صابراً محتسباً، يسام العذاب في سبيل عقيدته، لا

يزلزله الترهيب، ولا يستخفه الترغيب - أمر لا يدعو إلى الإعجاب فقط، بل

يدعو للتساؤل عن سبب هذا الثبات على الرأي، على الرغم من أن كثيراً من

علماء عصره آثروا السلامة، ووافقوا ما يريده الخليفة وبطانته تقيَّة.

وقد يقال: أَمَا كان أحمد بن حنبل مندوحة فيما سلكه علماء عصره من لتَّقِيَّة؛ وأن يداري الخليفة وبطانته بقول وقلبه مطمئن بخلافه، ويجني من وراء ذلك الموقف رضا السلطة عنه واستمرار دروسه وانتفاع الناس بعلمه؟

ولكن مع أن التقية في دار الإسلام - حيث تستقر الأحكام - تناقض مبدأ

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف بمن هو مثل الإمام أحمد أن يقف هذا

الموقف المتخاذل الذي يمكن أن ينتج عنه افتتان كثير من العامة به، وقد كان هذا

المعنى حاضراً في ذهن الإمام أحمد حينما دخل عليه بعض الناس، وهو محبوس

بالرقة، فجعلوا يذاكرونه ما يُروى في التقية من الأحاديث، فقال:

كيف تصنعون بحديث خباب: «إن من كان قبلكم كان ينشر بالمناشير ثم لا

يصده ذلك عن دينه» ؟ وقال له المروزي لما أرادوا أن يقدموه للضرب: يا أستاذ! قال الله - تعالى -: «ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ» [النساء: ٢٩] ، فقال: يا مروزي! اخرج انظر أي شيء ترى؟ ؛ قال: فخرجت إلى رحبة دار الخليفة فرأيت خلقاً

من الناس لا يحصي عددهم إلا اللهُ - عز وجل -، والصحف بأيديهم، والأقلام

والمحابر في أذرعتهم. فقال لهم المروزي: أي شيء تعملون؟ ، فقالوا: ننظر ما

يقول أحمد فنكتبه. فقال المروزي: مكانكم، فدخل إلى أحمد وقال له: رأيت قوماً

بأيديهم الصحف والأقلام، ينتظرون ما تقول فيكتبونه. فقال: يا مروزي! أُضل

هؤلاء كلهم؟ ! أقتل نفسي ولا أضل هؤلاء كلهم.

قلت: هذا رجل هانت عليه نفسه في الله - عز وجل - فبذلها [١] .

وهنا يتضح معنى شهادة علي بن المديني التي قال فيها: (إن الله - عز

وجل - أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة،

وأحمد بن حنبل يوم المحنة) [٢] .

أما شيخ الإسلام ابن تيمية فقد عاش مشاكل عصره بعمق ومعاناة جعلاه مميزاً

من بين العلماء في تفاعله مع القضايا المصيرية التي كانت راهنة يومذاك.

ولقد كان يسعه ما وسع كثيراً من غيره من العلماء، فيقنع بالرتابة التي لفت

وتلف الكثيرين، وتمضي حياته بين وظيفة رسمية يتقلدها فتستعبده، وإن آثر

الابتعاد عن ذلك فحسبه أن يكتفي بدروس يلقيها على طلبة العلم، وغوص في غمار

المسائل الدقيقة خلال جماعة معدودة، اختصت به، ورضي بها، ولكن - مع أن

التبحر في العلم، والتعمق به من لوازم صفات العالم - إلا أنه أدرك أن العلم الذي

لا يحرك الجماهير، ولا يبصرها بواقعها ويستحضر لها المخاطر التي تتهدد كِيانها

من جذوره علم ساكن، يعيش صاحبه ويموت ويزول أثره كحلم لذيذ بين أجفان

متعب وسْنان، سرعان ما يُنسى تحت وطأة اليقظة وتكاليفها الثقيلة.

فاختار الطريق الشاق، ورمى بنفسه في أتون قضايا عاصفة، فها هو قد فتح

عينيه على الحياة وقد قوض التتار الخلافة العباسية، وزحفوا كالطاعون فأزالوا

مدناً وممالك من الوجود، وعاثوا فساداً في كل أرض وطئوها، ووجدوا في طريق

زحفهم قوى إسلامية مبعثرة، تفتك فيها الفرقة، ويعيش في ظلالها أهل الأهواء،

على اختلاف منازعهم ومللهم، وفرقاً باطنية تنخر كالسوس في هذا الكيان الذي كان

يوماً تحت سلطة مهيبة الجانب، وعلماء ركنوا إلى الدنيا، وجمدوا على التقليد،

ولقنوا أتباعهم التعصب، وبدل أن ينفقوا جهودهم في إحياء الأمة من رقادها،

أنفقوها في الكيد لبعضهم، وفي التسابق في طريق الوشاية عند السلطان، وأعداءً

قدامى لهذا الدين انتهزوا هذه الفرص ليرصوا صفوفهم من جديد، ويجهزوا على

مكامن القوة فيه ... وشيئاً كثيراً من السلبيات تضيق هذه المقالة عن ذكره.

فخاض - رحمه الله - في كل اتجاه، حتى تألب عليه بسبب ذلك من لا

يسامونه في همته، ولا يساوونه في غيرته، فحارب التتار، وبين حكم الله فيهم،

بعد أن نكل عن ذلك كبار علماء عصره، وحرض الناس على التصدي لهم، حتى

سرت فيهم نفحة جهادية كفت عنهم هذا الوباء الأصفر، وتصدى للعاملين على

إشاعة الجمود والخرافة والتحلل من ربقة الشريعة، فلم يبالِ بما لهم من كلمة نافذة

في صفوف العلماء والأمراء والعامة، وعمل على إرساء أصول النظر الصحيح من

خلال إعادة الناس إلى فهم الكتاب والسنة، ونبذ الأفكار الدخيلة التي فرقت الأمة،

وكادت تعصف بما يميزها من عقيدة صحيحة، ولم يجمجم - بينه وبين نفسه -

برأي يقوله في أصحاب الفرق الضالة، والمذاهب المنحرفة، بل قالها صريحة

واضحة في وجوههم، وبين حكم الإسلام وما استقر عليه رأي العلماء الذين يعتد

بهم في الفرق الباطنية وجذورها وأساليبها الملتوية في خديعة المسلمين والمكر بهم،

وبطلان أدلتها القائمة على الشُّبه والهوى والظلم.

ولم تهن له عزيمة، ولم تلن له قناة وهو يواجه هذا الجم الغفير من أعداء

الداخل والخارج، وتحمل من أجل ذلك ما تحمل من الكيد والوشاية التي أودت به

إلى السجن ثلاث مرات.. حتى مات في السجن صابراً محتسباً - رحمه الله -.

ونحن حين نقول هذا في ابن تيمية لا ندعي له ولا لغيره من العلماء العصمة، ولا ننزههم عن الخطأ في السلوك أو الاجتهاد، ولكن نود أن نستخلص فكرة

محددة من خلال كل هذا ألا وهي أن العالم الذي يبقى صداه مدوياً مجلجلاً هو ذاك

الذي يدفعه التحرق والتألم على واقع أمته إلى المشاركة الفعلية في مشكلاتها

والاكتواء بنار هذه المشكلات، فهذه هي وظيفة القادة الذين يمثلون روح الأمة،

والرواد الذين يسيرون بها نحو الغاية، حين تشتبه السبل، وتعم الفتن، وتكثر

الدعوى، ويعجب كل ذي رأيه برأيه.


(١) جلاء العينين لنعمان الآلوسي ٢٣٦.
(٢) المصدر السابق.