دعوة
[الأطباء والدعوة الإسلامية]
د. حسن علي الزهراني
لا شك أن العاقل البصير - أيا كان تخصصه أو موقعه - يعلم بأن العمر
قصير، والأنفاس معدودة، والموت قد يأتي بغتة، والأطباء - بصفة خاصة -
أكثر الناس معايشة لهذه المفاهيم، لأنهم يحسون بها كل يوم، بل في اليوم أكثر من
مرة أحياناً.. يشاهدون لحظات الموت حية أمام نواظرهم.. يتابعون الاحتضار
لحظة بلحظة.. كما أنهم يعايشون أحاسيس أهل المريض عند موته، لذا كان من
الطبيعي أن يكونوا أكثر معرفة بالله وخوفاً منه، إن قورنوا بعامة الناس، ولكن -
للأسف الشديد - فإن القليل منهم في هذا الزمان يعي أهمية دوره كطبيب في الدعوة
إلى الله. وهذه العجالة ليس القصد منها تنبيه أولئك الغافلين الذين يحتاجون إلى
النصح والوعظ المدروس الذي قد يستنفد جهداً كبيراً؛ ولكنها موجهة إلى أصحاب
الوجوه النيرة، ممن أحبوا الله ورسوله، فظهر ذلك على مظهرهم وسمتهم،
رسالتي إليهم تتلخص في مجموعة أسئلة وملاحظات أحب منهم أن يقفوا عندها
بتجرد وإخلاص، ويراجعوا أنفسهم، لعل الله يحقق لنا ما نصبو إليه من عز الدنيا
وثواب الآخرة، خاصة وأنهم يقضون أكثر من ٧٠% من وقتهم داخل أروقة
المستشفيات.
ماذا قدم الطبيب لنفسه ...
وأقصد بهذا دعوة الطبيب نفسه. ونفوس الأطباء من أيسر النفوس لتقبل
الدعوة، كما هو مشاهد في كليات الطب من كثرة الصالحين عند مقارنته على سبيل
المثال بكليات أخرى مثل الآداب أو الاقتصاد أو غيرها، فالطب وعلومه يدعو إلى
التأمل في خلق الإنسان: مرضه وصحته، حياته موته.. كما أنهم - أي الأطباء -
أعلم الناس بقدرة الله على تحريك أي خلية تسبب مرضاً سرطانياً، أو انقباضاً
شريانياً يودي بحياة الإنسان، أو فيروساً يضع المريض في موقف القائل:
وحسب المنايا أن يكن أمانيا ... كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً
ومع ذلك لا بد من تذكيرهم بالأمور التالية:
١- الإخلاص وابتغاء ما عند الله:
ففتن الطب كثيرة.. من مركز، وجاه، وعجب، وطلب الثناء من الناس،
لا يعصم من ذلك كله إلا مراقبة الله، وطلب ما عنده من الثواب [والآخِرَةُ خَيْرٌ
وأَبْقَى] .
٢- الزهد في الدنيا بمفهومه الصحيح:
وهو أن يستوي عند الطبيب بقاؤه في منصبه أو وظيفته وعدمه إن تعارضت
مع طاعة الله.
٣- المحافظة على الفرائض:
وهي أقل الزاد وأعظمه، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث
القدسي: «وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» ، ولا يعذر
الإنسان في التقصير في تلك الفرائض مهما كانت انشغالاته.
٤ - المحافظة على النوافل والأذكار وقراءة القرآن، وكل ما يبعث في النفس الحماس والنشاط للعبادة، وكل إنسان أدرى بنفسه.
٥- استشعار نعمة الله وواجب شكرها:
وبالذات فيما يتعلق بنعمة الصحة خاصة عندما يشاهد الطبيب الأمراض
الفتاكة والحالات المستعصية كقول: «الحمد لله للذي عافاني مما ابتلاك به،
وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً» أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-.
دعوة الطبيب لزملائه:
وهي من أوجب الواجبات لقول النبي: «الدين النصيحة» وهم أولى الناس
بها لأنهم زملاء العمل ورفاق المهنة، يعيش الإنسان بينهم أكثر مما يعيش مع أهله
أو أقاربه، ومن الغريب أن تجد بعض الصالحين من الأطباء شعلة من النشاط مع
عامة الناس خارج المستشفى وفي ذات الوقت ليس عندهم ما يقدمونه داخل ...
المستشفى، فتظهر الازدواجية بكل معانيها وما يترتب عليها من سلبيات.
كما أن في دعوة هؤلاء الزملاء إقامة للحجة، كما قال الله عز وجل: [وإذْ
قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إلَى
رَبِّكُمْ ولَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] .
ولا شك أن في التعاون على البر والتقوى مع هؤلاء الزملاء خيراً كبيراً في
نشر المعروف وإزالة المنكرات التي تعج بها المستشفيات.
والسؤال الذي يطرح نفسه.. كيف يتم ذلك؟
من الواجب أن يخصص الطبيب المسلم لهؤلاء وقتاً يجلس لهم فيه، يراعي
فيه أن يكون مناسباً للجميع، ولا يتعارض مع وقت العمل، حتى لا يكون هناك
تضييع لحق المرضى، وكلمة - يخصص - فيها من الجدية الشيء الكثير.
- السعي في حاجاتهم الدنيوية:
من مساعدة في العمل، وبالذات ما يتعلق بالمناوبات وحل للمشاكل، وعطف
ومشاركة في الهموم وقد قيل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ.
- القدوة الحسنة في أمور الدنيا والدين.
- الزيارة المنزلية لما فيها من التحبب ورفع الكلفة.
- الهدايا الحسية مثل: الأشرطة والكتيبات بل قد تكون كتباً طبية أو حتى
قلماً إلخ..
- الهدايا المعنوية: من ذكرهم بالخير، والإشادة بالمبرزين في حقول
اختصاصهم بالحق.
- الاحترام، الابتعاد عن التفاهات، الترفع عن التكالب على أمور المعاش،
الابتعاد عن تصيد الأخطاء.. هذه وغيرها أمور ينبغي أن يتحلى بها الداعية عند
دعوته لزملائه.
دعوة المرضى:
وقد وظف المنصرون هذا الأمر لنشر دينهم الفاسد خير توظيف، ولا شك
بأننا أولى بهذا منهم فليس عجائز بريطانيا مثل: تيريزا وغيرها من الآلاف الذين
يجوبون أصقاع المعمورة بخير من حملة التوحيد من الأطباء المسلمين، وهنا أركز
على النقاط التالية:
- احتساب الأجر عند الله وحده عند علاجهم لقول الله تعالى: [ومَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً] وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «من فرج عن مؤمن
كربة من كرب الدنيا فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» .
- الصبر عليهم عند علاجهم: وبالذات على كبار السن توقيراً لهم، وعلى
الأطفال رحمة بهم، وعلى الملهوفين في الحالات الطارئة، لقوله -صلى الله عليه
وسلم-: «في كل ذات كبد رطبة أجر» .
- طلب الدعاء منهم: وبالذات من الضعفاء منهم الذين لا يملكون إلا الدعاء،
وقد يكون فيهم من لو أقسم على الله لأبره.
- نصحهم: وبالذات في قضايا العقيدة من رقى وتمائم وأحجبة وغيرها،
والمريض يكون عادة في حالة من الضعف يتقبل فيها ما يشير عليه الطبيب، ثم
حضهم على الصلاة والحجاب وغير ذلك.
- تذكيرهم بالله، وذلك عن طريق رد النتائج إلى الله عز وجل، وأن الطبيب
ما هو إلا أحد الأسباب التي تجري عليها أقدار الله.
- السؤال عن أحوالهم في البيت وعن أولادهم أو آبائهم، والتلطف معهم مما
يؤدي إلى تكوين علاقة شخصية ودية ليس فيها طابع الرسمية، بشرط البعد عن
المبالغة في رفع الكلفة، الأمر الذي قد يؤدي إلى الابتذال المذموم.
- إعداد بعض الأشرطة أو الكتيبات وإهدائها إلى هؤلاء المرضى.
دعوة أقارب المريض:
وينطبق عليهم ما ذكر آنفاً، إضافة إلى وجوب حرص الطبيب على الجلوس
معهم ومقابلتهم لشرح حالة المريض لهم، وبالتالي التأثير عليهم من خلال
مناصحتهم.
دعوة العاملين في المستشفى:
والمقصود غير الأطباء من ممرضين وفنيين وإداريين وسائقين وغيرهم،
وهناك أمور منها:
* مراعاة التركيز على كل الطبقات، فلا ينبغي استصغار أحد لجنسه أو
وظيفته أو غير ذلك.
* الاهتمام برؤساء الأقسام ممن فيهم سيما الصلاح، لأنهم أهل الحل والربط، وقد ينفع الله بهم من خلال تعميم لا يكلف بضع دقائق مما يوفر الجهد والوقت.
* الاهتمام بغير المسلمين بدعوتهم وتقديم الكتب والأشرطة إليهم، ومعاملتهم
معاملة تقربهم إلى الإسلام، ولا تنفرهم منه بضوابطها الشرعية، وقد أثمرت هذه
الجهود في كثير من المستشفيات، ورأينا أن الكثير من هؤلاء العاملين قد دخلوا في
الدين الله أفواجاً، ويكفي قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لأن يهدي الله بك
رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم» .
* الحذر عند التعامل مع النساء - من المبالغة في التحادث بحجة الدعوة أو
حتى العمل الطبي، مما قد يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه من معاصٍ وفتن أو سوء فهم.
دعوة الإدارة:
وهم كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع
بالقرآن» وبيدهم - بعد الله - الإصلاح أو التسبب في الفساد العريض، لذا كان
من الواجب الاهتمام بدعوتهم من خلال الكتابة لهم ونصحهم مع استخدام أسلوب
مناسب مع المترددين منهم، وينبغي أن يشارك في هذا الأمر كل غيور على دينه
حريص على دنياه وآخرته، مع استخدام أسلوب التخويف بالله والترغيب فيما عنده، أما الصالحون من الإداريين فينبغي التحبب إليهم ومساعدتهم والوقوف بجانبهم
ودعمهم معنوياً.
وأخيراً هناك ملاحظات عامة ينبغي ذكرها لعموم البلوى بها منها:
عدم ترتيب الأولويات في الدعوة، فمثلاً قد يبدأ الطبيب بِحَثِّ المريض على
عدم التدخين على الرغم من مقارفة المريض لشركيات وكبائر ينبغي البدء بها أولاً.
سوء الخلق عند بعض الأطباء، فمهما كانت المبررات ليتذكر المرء قوله -
صلى الله عليه وسلم-: «وتبسمك في وجه أخيك صدقة» .
التحاسد في أمور الدنيا، وأمره شنيع إن كان بين الأخوة المتحابين في الله.
عدم مشاورة الأخيار من الأطباء، اتباعاً لشهوة أو كبراً أو غروراً، مع أن
الله عز وجل أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالشورى فقال: [وشَاوِرْهُمْ فِي
الأَمْرِ] ، مما يؤدي إلى بعض الاجتهادات الخاطئة التي قد تفسد ما بناه الآخرون.
ضعف العلم الشرعي بصفة عامة، وبالذات ما يتعلق بمجال الطب، والحل
هو التزود من العلم بسؤال العلماء ومراجعة أهل الخبرة من الصالحين خاصة في
بدء حياته العلمية.
ظاهرة الاستغراق في العمل: فيصحو الإنسان وينام وهو يفكر في دنياه،
وينسى أن الله قد خلقه لغير هذا، حتى ينحصر اهتمام الشخص بين البيت
والمستشفى وما تبقى ففي المسجد.
المبالغة في تقدير مصلحة الدعوة: مما يؤدي إلى السكوت عن المنكرات، بل
استمرائها، ومن ثم الانحراف والنكوص على الأعقاب لا سمح الله. وختاماً.. هذا
غيض من فيض، لكن؛ ليتذكر كل طبيب أن الله قد خلقه لعبادته، وأن الحياة
ليست عبثاً ولا معطفاً أبيض وسماعة فحسب؛ بل هي جهاد واحتساب حتى يأتي
الله بأمره، وأن الأمة تنتظر منه أن يحمل هم الدين عنها - في مجاله على الأقل -
في عصر اجتمعت فيه أمم الكفر على ضرب الإسلام عن قوس واحدة، ولا ينسى
أنه قد قطع من العهود والمواثيق بينه وبين الله أثناء دراسته على مقاعد الكلية أن
يقوم بأداء مهمته خير قيام حال تخرجه، قال تعالى: [ومِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ
آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ولَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ
وتَوَلَّوْا وهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا
وعَدُوهُ وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ] [التوبة٧٥-٧٧] نعوذ بالله من سخطه وأليم عقابه.