للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[الصحوة الإسلامية والحاجة إلى طور جديد]

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فهناك أمور تجعل المرء على يقين بأن الصحوة الإسلامية المعاصرة قدر إلهي

ماضٍ إلى منتهىً مرسوم: أولها: من الناحية الزمانية: حيث تفاعل وجود هذه

الصحوة وانتشر في بدايات قرن هجري جديد هو القرن الخامس عشر، فكان ذلك

إرهاصاً بحصول السَنَن المحتوم بتجديد الدين على رأس كل مئة عام، وثانيها: من

الناحية المكانية؛ حيث غطت الصحوة معظم أراضي المسلمين بنسب متفاوتة مما

أبعد احتمال الادعاء بأنها ظاهرة محدودة في رقعة محدودة. وثالثها: من الناحية

الإنسانية، حيث كان الجمهور الأكبر من أبناء الصحوة من الطبقة التي تمثل نخبة

المجتمعات وأواسطها من حيث الثقافات والأعمار والمستويات، حتى لا يقال إنها

تمثل طبقة المعدمين الكادحين الناقمين، أو الأثرياء المتطلعين الطامحين. ورابعها: وهو أهمها أن هذه الصحوة جاءت على غير تدبير مسبق من البشر، فهي ليست

من صنع شخصٍ بعينه، ولا هيئة ولا دولة ولا جماعة بعينها، إنما جاءت تعبيراً

عن تحرك في الأمة بمجموعها لنصرة الدين، تحرك على مستوى الشعوب وليس

على مستوى الدول أو الأنظمة.

لقد انطلق أبناء هذه الصحوة للعمل لنصرة الدين، ولكن وسط ظروف غير

طبيعية ولا سوية؛ ذلك لأن الأنظمة التي يفترض فيها أن تحتضن حركات

الإصلاح النابعة من رعاياها خاصة في ظروف الأزمات تعامل معظمها مع الصحوة

بطريقة فجة مريبة، فليتهم إذ غلّوا أيديهم عن مساعدتها تركوها وشأنها وكفوا أذاهم

عنها، ولكن الحاصل مما يعلمه الجميع أن العراقيل وضعت، والمشاكل حشدت،

والاتهامات جُهزت، والدسائس حيكت، بما لا يسمح أبداً لهذه الصحوة أن تستأنف

سيرها الطبيعي في طريق الإصلاح.

متى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبني ثم غيرك يهدم

ولهذا فكثيراً ما اعتور هذه المسيرة الإصلاحية كبوات ونكبات كادت أن

تقضي عليها، بل قضت عليها بالفعل في بعض البلدان ... لكن سرعان ما كان

نورها الذي يخبو في مكان يعود ليتوهج في مكان آخر، وذلك عبر ما يقرب من

ربع قرن من الزمان.

وإذا حاولنا اليوم، ونحن على مشارف انتهاء العقد الثاني من القرن الخامس

عشر، أن نسترجع ما في الذاكرة لاستعراض مسيرة الصحوة فسوف نجد أنها مرت

بمراحل عدة وأطوار بارزة.

الطور الأول: بدأت فيه الصحوة بدوافع عاطفية روحية، حيث تحركت في

بداياتها المبكرة بتلك الدوافع مستجيبة للحنين الفطري للدين؛ فقد أحست جماهير

المسلمين بالحاجة للانتماء إلى شيء عظيم، بعد أن ملت من الانتماءات التافهة

الممسوخة من قوميات ووطنيات وعنصريات، وبعد أن صدمتها أحداث جسام

ترادفت في وقعها ووقوعها، لتوقظ الغفلات وتحرك الساكنات.

لقد كانت ظاهرة الاندفاع العاطفي والحماسي هي المحرك الأساس لمسيرة

الصحوة في تلك المرحلة دون اعتماد كبير على الأصول العلمية والتربوية التي

توجه العاطفة، وتضبط الحماس.

الطور الثاني: الصحوة العملية: وكانت استجابة بالأفعال والأعمال لنداء

العواطف الجياشة لنصرة الدين، ولو عدنا بالذاكرة إلى الوراء قليلاً لوجدنا أنه قد

نشأت أنماط من العمل الإسلامي، اتجهت مباشرة إلى التجارب الميدانية، قبل أن

تستكمل قسطاً وافياً من الدراسات التأصيلية المتعمقة والمتعلقة بالأطر الشرعية لهذا

العمل أو ذاك، وبمعنى آخر: كانت (التجربة) هي المحك والمقياس لصواب العمل

أو خطئه، ولذلك رأينا أن فصائل العمل الإسلامي المتنوعة في وجهاتها، نزلت

إلى ساحات الممارسة العملية بشكل غير مرتب ولا محسوب، فهو لا يعتمد إلا على

الاستحسان الذاتي في الغالب من كل إنسان لما يرى أنه يحقق ذاتيته ويلائم

شخصيته ويشبع ميوله، فاتجه هذا إلى العمل السياسي، وذاك إلى العمل

الاجتماعي، وآخر انحاز إلى العمل الجهادي، واختار آخر العمل الدعوي والعلمي.

ولا نشك أن هذا الاندفاع (العملي) ، قد أثمر زخماً متنوعاً قوّى من عود

الصحوة، واستلفت الأنظار إليها بشدة، ولكننا أيضاً لا نشك في أنه ولافتقاره إلى

التأصيل (العلمي) قد خلّف نوعاً من الفوضى غير المحمودة التي أنشأت تناقضات

واختلافات في الاجتهادات لم تلبث أن تحولت إلى نزاعات وفي بعض الأحيان إلى

صراعات! إذ اجتمع كل فريق في الغالب حول عمل لا يرى نصرة الدين إلا فيه،

ولا يرى في الناس خيراً إلا إذا اجتمعوا عليه ... !

الطور الثالث: الصحوة الدعوية: وهي مرحلة انطلقت فيها اتجاهات العمل

إلى الدعوة لكسب الأنصار، وحشد أكبر شريحة من المتعاطفين مع الدين إليها؛

وفي تلك المرحلة كثرت المؤلفات والأطروحات المقروءة والمسموعة حتى صارت

كثرة التآليف والتصانيف والمساجلات والتسجيلات (ظاهرة) لافتة، ودار تنافس

محموم للانتقال بـ (العملي) إلى (العلمي) ولكن بعض هذا التنافس للأسف لم يكن

بأسلوب علمي!

لقد تميزت هذه المرحلة بمحاولة كل اتجاه للتأصيل لما يراه من عمل، وكان

من الطبيعي أن تكثر الاجتهادات غير المبنية على أصول صحيحة في ظل ندرة

القدرات العلمية المتخصصة، أو على الأقل في ظل ندرة تفرغها، فتكلم باسم العلم

من يحسن ومن لا يحسن، وتكلم عن الدليل من لا يحسن فهم الدليل، بل بدرت

بادرة جديدة لم تكن من قَبْلُ معهودة وهي (التأصيل للبدع) ، وكذلك تصويب الخطأ

أو تسويغ الزلل بإضفاء صبغة علمية عليه، وظلت المطابع تلقي بالغث والسمين

والصالح والطالح إلى جمهور المتعاطفين مع الصحوة، الذين تختلط على كثير منهم

الأمور، حتى ليُظن أن كل بيضاء شحمة وكل سوداء فحمة.

ولاحت لأعداء الإسلام فرصة تاريخية، ما كانوا ليضيعوا اغتنامها أو يفوِّتوا

اهتبالها وهي: ضرب قلوب المسلمين بعضهم ببعض، ليكفوا بعد ذلك عن الحديث

عن (الصحوة) ولينكفئوا بعدها في مزالق الكبوة.

ولهذا نقول: إن الصحوة الإسلامية التي مرت بأطوارها: (العاطفية)

و (العملية) و (الدعوية) تحتاج الآن وبإلحاح للانتقال إلى طور جديد:

طور (الصحوة العلمية) :

لقد كان الترتيب الأنسب، بل الأصوب للصحوة أن تبدأ بالعلم قبل العمل ...

ولكن ظروف النشأة وظروف الإمكانات وظروف التحدي أيضاً، حالت دون ذلك،

إضافة إلى أن هذه الصحوة كما سبق ذكره لم تكن من صنع شخص بعينه أو جهة أو

هيئة أو جماعة بعينها حتى تُحكِم قيادها أو تضبط وجهتها، ولكنها سارت حسب

أقدار العليم الحكيم الذي يقول: [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى

يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ] [آل عمران: ١٧٩] .

إننا لا نرى اليوم عذراً لرموز الصحوة وموجهيها في المشارق والمغارب أن

يتخطوا العلم إلى العمل مرة أخرى، فكل عمل لا ينضبط على أساس متين من

دلائل الدين، فهو في الحقيقة ضرب من اتباع الهوى، ونربأ بأنفسنا وإخواننا عن

اتباع الهوى وهم يسعون إلى التمكين للدين والاستخلاف في الأرض. وقد كان عمر

بن الخطاب رضي الله عنه يأمر الناس بالتعلم قبل التصدي للعمل فيقول: (تعلموا

قبل أن تسودوا) وذلك حتى لا يقودوا الناس بالأهواء.

وعندما نقول بضرورة انتقال الصحوة إلى الطور العلمي، فليس معنى هذا أن

نقلل من شأن ما بذل وما يبذل في خدمة العلم ... ولكن نقول: إنه لم يستثمر على

المستوى العام، ولذلك؛ فهو لم يرقَ بعدُ إلى المستوى الذي يوصف معه بأنه

صحوة علمية عامة.

لسنا نطالب الناس جميعاً بأن يكونوا علماء أو طلاب علم، ولكن المطلوب

على الأقل أن يعرف الناس قدر العلم وبركة الأثر، وتأثير الدليل عندما ننقاد له

أثناء المسير.

ولقد رأينا كيف شردت الأهواء بأصناف من أصحاب (العمل) ، عندما أطلقوه

دون أن يربطوه بلجام الحكمة ووثاق العلم.

إن أمامنا حقائق ماثلة تدعم الرأي القائل بأن الوقت قد حان لحركة إصلاح

علمي تضبط السلوك وتقوّم المناهج وتوجه الأعمال، ومن تلك الحقائق:

أولاً: أن الصحوة الإسلامية الآن أصبح لها من القدرات العلمية (علماء

وطلاب علم) في كثير من البلدان؛ ما يكفي لأن تنطلق بهم إلى تلك النقلة المباركة، وهذا لم يكن متوافراً في بدايتها.

ثانياً: أن كثيراً من أنماط العمل الإسلامي، قد استنفدت ما يكفي من

(التجارب) التي ثبت أنها تحتاج إلى مراجعة سواء في الميدان السياسي أو الجهادي

أو الدعوي.

ثالثاً: أن هناك ظاهرة قد برزت بالفعل في الآونة الأخيرة في الساحة

الإسلامية، وهي ظاهرة (وقفات المراجعة) .. ولا أقل من أن تكون (المراجعة

العلمية) للمناهج، هي إحدى أهم هذه الوقفات.

وأخيراً: ثبت أن الصحوة الإسلامية معرضة لعوامل القوة والضعف،

والانتشار والانحسار والمد والجزر، ولهذا فلا بد من بذل أسباب الاستمرار لها

وإبعاد العراقيل من طريقها، وذلك بأن يراعى أولاً بأول تصحيح مسارها في

مسارها للتصحيح.

فهل نطمع ولو من باب تحديث النفس بالغزو أن نرى للصحوة الإسلامية في

العالم انطلاقة علمية تكسر قيود الجمود، وتحرر الآراء من الأهواء.. هل نطمع

أن نرى للصحوة على مستوى العالم قيادتها العلمية الموثوقة، ومرجعياتها العلمية

المخلصة.. التي تقودها إلى وحدة منهجية تجمع القلوب والصفوف ... ذلك أمل ...

نرجو أن يتبعه عمل..

والله من وراء القصد،