للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات شرعية

هل يمكن التعاون بين المسلمين

مع وجود الاختلاف؟

بقلم: سلمان بن عمر السنيدي

مدخل:

التعاون أمر مطلوب، أوجبه الشرع ولا يستغنى عنه في الواقع، والاختلاف

غير المذموم أمر واقع أقره الشرع ضرورة وفطرة، وبعض الناس يغيب عنه منهج

الإسلام الوسط في أمور شتى من بينها: التعاون حال الاختلاف؛ وحجم وطبيعة

ذلك الخلاف الذي يوجب الإسلام التعاون رغم وجوده، وذلك المطلب الشرعي المهم

هو المحور الذي تدور حوله هذه الدراسة التي نرى أنها تكون مجالاً للنقاش

الموضوعي بين ذوي الاختصاص، والله نسأل للجميع التوفيق والسداد.

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان -

التعاون على البر والتقوى مبدأ شرعي وواجب عام بين المسلمين بنص

القرآن الكريم قال الله (تعالى) : [وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى] [المائدة: ٢] ،

والبر إذا اقترن بالتقوى يقصد به ما تعدى نفعه إلى المسلمين من الأعمال المشروعة. والتقوى تختص بما يقتصر نفعه من الأعمال الصالحة على خاصة الإنسان.

وبهذا تحوي دلالات الآية مجالاً خصباً يتسع لكل عمل صالح يتحقق نفعه وخيره

بالتعاون على مستوى الفرد والأمة. وبرغم ما في الآية من وضوح وإشراق وحض

على التعاون؛ يجد الناظر إلى واقع العمل الإسلامي المعاصر أن التعاون بين فئاته

العاملة كثيراً ما يكون محصوراً أو مقيداً أو مشوباً بما يكدره ويعيق الغاية المنشودة

منه؛ إلا ما شاء الله.

أما الخلاف المفرق للألفة، والجهود، والأعمال؛ فإنه يعد من أهم العوائق

التي تحول دون التعاون على البر والتقوى؛ وهذا ما يدعونا إلى التوقف الطويل مع

هذا العائق وتحليله والنظر في حقيقته وما يكون منه مانعاً للتعاون، وما لا يكون

كذلك.

حقيقة الخلاف وأقسامه:

يدعي كل طرف في النزاع وجود عناصر للخلاف تدعو إلى الفرقة والتنافر

تمنع من التعاون على البر والتقوى؛ وبالنظر إلى هذه العناصر نجدها تنقسم إلى

قسمين:

الأول: عناصر مفتعلة: تُذْكَر للتشنيع على الخصم وتكبير هوة النزاع، ولو

توقف الخلاف عليها لأمكن التنازل عنها واحتواؤها وعدم إنكارها؛ بدليل: أنك

تجد في أتباعه من ينكرها وأنصاره غالباً من هو متلبس بمثلها من المخالفات.

الثاني: عناصر حقيقية للخلاف: وإذا نظرنا إلى أسبابها وجدنا أنها تنقسم

إلى قسمين هما:

١- أسباب غير سائغة مثل: التعصب القبلي، أو اتباع الأهواء، أو التنافس

على الزعامة، أو التنافس على الوجاهة والتمكن من التصرف في حقوق عامة من

حفنة مال أو أوقاف، ومنها أسباب يدفعها الثأر الشخصي، ويوجهها رصيد من

الصراعات السابقة حصل فيها تبادل الاتهامات وإلصاق التهم واتهام المقاصد.

٢- أسباب سائغة وهي تنقسم إلى قسمين هما:

أ- أسباب سائغة للخلاف ولكن لا تقتضي التفرق كما هو في الحالات التالية:

الاختلاف في مسائل فرعية من الشريعة.

الاختلاف في مسائل عقائدية ولكنها مما خفي دليلها، أو من الظنيات العلمية

كما اختلف الصدر الأول في رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- لربه.

الاختلاف في مسألة اجتهادية اعتبرها أحد الأطراف بدعة وضلالة.

الاختلاف في مسألة حادثة من النوازل الواقعة التي لم ينقل فيها نص أو

إجماع أو اتفاق، إنما اعتمد كل طرف فيها على نصوص عامة من الكتاب والسنة.

ب- أسباب سائغة للاختلاف بل توجبه وتقتضي التفرق؛ ونمثل له بما يلي:

المخالفة في أصل من أصول الإسلام وهي كثيرة ومن أشهرها: عدم توحيد

الله في تصريف الكون والأحوال، وعدم توحيد الله في أفعال العباد كالدعاء والذبح

ونحوه، تقديم العقل على الكتاب والسنة، نفي صفات الله (تعالى) ، الغلو في تعظيم

الرسول بصرف شيء له من حقوق الله ومقتضيات ألوهيته وربوبيته، الشك في

عدالة الصحابة، وتكفير المسلمين بلا مكفر.

إحياء مخالفات أهل البدع الكبار المشهورة كالخوارج والجهمية والروافض

والمعتزلة والقدرية والجبرية وغلاة الصوفية.

وهنا يأتي السؤال الذي يعقب هذا التقسيم: إلى أي مدى يمنع الاختلافُ

التعاونَ على البر والتقوى؟ وللجواب عليه يتضح أن عناصر الاختلاف لا اعتبار

لها في منع التعاون إلا ما كان منها حقيقيّاً، ولا اعتبار لغير السائغ منها في منع

التعاون، وأما السائغ فما كان منه لا يقتضي التفرق فلا اعتبار له في منع التعاون.

وهنا نجد فداحة خطأ من يتصور عدم التعاون مع وجود أدنى نوع من

الاختلاف، وذلك واضح من وجوه عدة منها:

أن الاختلاف من طبيعة البشر ولا يمكن التخلص منه في العادة، قال الله

(تعالى) : [وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ] (هود: ١١٨-١١٩) ، قال الشاطبي: (فتأملوا رحمكم الله كيف صار الاتفاق محالاً في العادة) [١] ،

فاشتراط رفع الخلاف لحصول التعاون كاشتراط المستحيل، وهذا فيه تعطيل مبدأ

التعاون الذي دلت على مشروعيته نصوص كثيرة من الكتاب والسنة.

أن قبول التعاون مع وجود خلاف الذي لا يقتضي التفرق لا يعني بالضرورة

المطالبة بأعلى صور التعاون؛ بل المطالبة بدرجة من التعاون يتحقق فيها الواجب

والمندوب، ويزول فيها المحذور والمكروه، فإن أعلى صور التعاون محمودة،

ولكنها عزيزة الوجود وخاصة وقد بَعُدَ الناس عن نهج النبوة.

ومع تخطئة مبدأ: (ترك التعاون مع وجود الاختلاف) ، يلزم التنبيه إلى ما

يقابله، وهو: أنه لا يدعى إلى التعاون مع كل مخالف بلا شرط وقيد فإن الأصل

عدم التعاون مع وجود اختلاف جذري يقتضي التفرق والمفاصلة، كما هو الحال مع

أصحاب المبادئ العلمانية أو الاشتراكية أو البعثية أو الفرق الباطنية؛ لأن هذا

تعاون على غير البر والتقوى، تقدم فيه المصالح النفعية، وتهضم فيه مبادئ

إسلامية وتعطل فيه أحكام شرعية.

درجات التعاون والاختلاف:

لا يعرف كثير من الناس إلا حالتين: إما التعاون الشامل، والوحدة الكاملة،

أو التنازع والخصومة والمواجهة، وهذا التصور صورة من صور الجهل وضيق

النظر وغياب الحكمة وقلة المعرفة بقواعد الشريعة وأحكامها، وقد يعذر بعض

العامة والجهلة على هذا القصور، ولكن اللوم والتثريب يقع على من بيده زمام

الأمور والطاعة والتوجيه لفئام من الناس، كيف يحجّر سبل التعاون الواسعة،

ويحرم غيره من الانتفاع مما شرع الله من المحبة والألفة والتعاون والتقارب

والتسامح والعفو والتواضع والإحسان إلى الخلق بإصلاح ذات البين؛ وذلك بسبب

مواقف شخصية تجعله يأنف من التواضع والتسامح والعفو والتقارب، ويبالغ في

الصدود والنفرة، ويسارع في اتخاذ المواقف الصارمة، ويبالغ في اتخاذ الأحكام

القاسية، ويغلو في التعامل مع الخصوم والمخالفين، ويتشنج حال التفاهم والحوار

مع إخوانه المسلمين، جاعلاً الناس قسمين: إما موافقاً له متبعاً لقوله فهذا يواليه،

وإلا جعله خصماً له يعاديه.

وهناك مراتب بين التعاون الشامل والوحدة الكاملة، وبين التنازع والخصومة

والمواجهة، ونجدها على درجات تالية:

١- التعاون الشامل والوحدة الكاملة.

٢- التعاون الوثيق والمشاركة الفعالة وتوحد الكلمة.

٣- المحبة والاحترام والتشاور وتبادل المنافع.

٤- الاعتزال بالمعروف وتبادل النصح.

٥- الإعراض وكف الأذى -التعاون السلبي-.

٦- الجفاء والغلظة.

٧- إعلان النقد وإظهار العيوب.

٨- المواجهة ومحاولة القضاء على الآخر.

وهنا يجب التنبيه إلى أن درجة النزاع الأخيرة التي تدعو إلى محاولة القضاء

على الطرف الآخر ينبغي أن تكون تحت نظر مصلحة السياسة الشرعية للأمة

الإسلامية، التي تسعى في الغالب إلى صرف النظر عن هذا الاحتمال في حال

ضعف أهل الحق والسنة والجماعة، وتفكك الأمة وغياب الولاية الشرعية العامة،

ومن ثم تأجيل مباشرته حتى يقوم لهم كيان مستقل استقر أمر الأمة فيه على ولاية

قوية، ذات شوكة وسلطان أمّنت فيه الثغور، وزال سلطان الكفر البواح، وقُضي

فيه على مظاهر الشرك وصرف العبادة لغير الله، عند ذلك ينظر إلى المخالف

نظرة المواجهة والمصادمة ومحاولة القضاء على شوكته إن كان يستحق ذلك، وكان

لا سبيل لدفع الشر والمنكر إلا هذا، وذلك بعد البيان والإعذار.

ثمار التعاون:

١- زيادة الألفة، وتنمية المحبة، وتضييق دائرة الفرقة والعداوة.

٢- عدم إشغال عامة الناس وضعاف الإيمان بتلقي التهم وسماعها وتداولها،

وإشغالهم بدلاً عن ذلك بقضايا العلم النافع والعمل الصالح.

٣- إشغال أصحاب الطاقات المتميزين بالكتابة والخطابة والحجة والبيان بما

هو مفيد ونافع لخدمة الإسلام وأهله، ورصد الباطل وصده، ودحض الفساد

والانحراف من البدع والمنكرات.

٤- قطع الباب على المنافقين والمرجفين الذين يفرحون بنشر العيوب

وتشكيك الناس بدعوة الإصلاح في المجتمع والذين يفرحون بالشماته بالمصلحين.

٥- حسم مادة الخلاف وزوال بذرة الشقاق، لكي لا يثيرها من شاء من

المرجفين، متى شاء وكيف شاء.

٦- إغاظة أصحاب الفساد الذين يفرحون بتفريق الجهود الإصلاحية وضعفها، لينفذوا أغراضهم السيئة بيسر وسهولة، في ظل انشغال أهل الحق بعضهم ببعض، وضعف شوكتهم. وفي حال التعاون توجه الجهود لكشف مخططاتهم الإفسادية،

وقطع السبيل عن تحقيق أهدافهم.

٧- توحد الكلمة وهذا له أثر بالغ في دحض الباطل وأهله، وإرغامهم على

إظهار تعظيم شعائر الله واحترام الدين وأهله.


(١) انظر: الموافقات، ٣/٧٦٤.