إذا راجعنا مقولات الخطاب الإسلامي قبل قرن من الزمان، فإننا سنجد أنه كان أكثر تفاؤلاً بحدوث التقدم والإصلاح. قد كان الوعي الإسلامي فرحاً بذاته من خلال اكتشافه رمزيات الانحطاط الذي خيَّم طويلاً على الأمة، واكتشافه آفاقاً جديدة للنهوض، ولكن بعد مرور السنين وتكرار المطالبات بالإصلاح والشعور بأن ما يحدث من تقدم أقل بكثير مما كنا نطمح إليه ـ مال خطابنا اليوم إلى أن يتشح بوشاح اليأس والحزن والعتب على الآخرين وجلد الذات، إنه صار خطاب أزمة أكثر من أن يكون خطاب نهضة. وسبب هذا مفهوم؛ حيث إن الوعي البشري يتخذ من بيان المثالب والشكوى من سوء الأحوال محرضاً على التقدم، لكن الحديث عن السلبيات إذا تجاوز حدوداً معينة، فأصبح سمة عامة للخطاب فإنه يغلِّف العقل ببطانة تمده برموز الاستحالة واليأس، فيميل صاحبه إلى الاستهانة بكل الأفكار والمفاهيم والمقترحات الإيجابية البناءة، ويصير إلى العطالة والانحسار.
لا أعتقد أن المطلوب هو الصيرورة إلى الحديث عن الإيجابيات وغض الطرف عن السلبيات؛ فهذا غير صحيح وغير ملائم، لكن قد يكون المناسب هو أن نتحدث عن الإيجابيات والمفاهيم التي تدلنا على حقول الممارسة والطرق المفتوحة، ونتخذ من ذكر ملامح الأزمة شيئاً يؤكد الحاجة إلى العمل، ويثير الاهتمام بضرورة التغيير.
إن الانتقال بالأمة نحو وضعية أفضل من الوضعية التي هي فيها يحتاج إلى أمرين جوهريين:
الأول: هو إنتاج عدد كبير من المفاهيم التي تساعدنا على اجتراح الواقع واختراق طبقات الحقيقة. إن العقل البشري لا يستطيع رؤية الظواهر الاجتماعية من غير أدوات تساعده على الإبصار، وتلك الأدوات هي مجموعة المفاهيم التي تشكل صورتنا الذهنية عن قضية من القضايا أو مشكلة من المشكلات. إن إنتاج المفاهيم يحتاج إلى بحث عميق ومركّز من قِبَل متخصصين محترفين حتى تتسم تلك المفاهيم بالمصداقية، وتساعد العقل على أن يرى الأشياء على ما هي عليه دون تضخيم أو تقزيم. ونحن في الحقيقة لا نملك من مراكز البحوث ما يكفي لاحتضان الباحثين، كما لا نملك الإرادة المطلوبة لإقامتها والإنفاق عليها. لكن سيكون في إمكان المتخصصين الموجودين مضاعفة إنتاجهم على صعيد توليد الأفكار البناءة، ثم القيام بنشرها على أوسع نطاق ممكن.
الثاني: تغييرات ملموسة تطرأ على البيئة التي نعيش فيها، وهذه التغييرات قطعاً هي شيء مغاير للكلام؛ فالكلام وكذلك الأفكار والمفاهيم لا يشكل المطية التي يمكن أن نمتطيها للانتقال من حال إلى حال. التغييرات الإيجابية في البيئة الاجتماعية تنشأ من خلال تغيير النظم والقوانين التي تضع حدوداً للتفاعل الثقافي، كما تنشأ من جملة ما ندخله نحن الأفراد على سلوكنا الشخصي من عادات حميدة، تنشأ عنها علاقات جديدة، تحفز الناس على أن يكونوا أكثر استقامة وأعظم عطاءً.
إن القوانين الجيدة حين تطبق بعدل وصرامة تنشئ على المدى البعيد ثقافة شعبية جيدة، ومع الأيام تصبح تلك الثقافة أحد محركات السلوك العضوي، ولو نُسخ القانون أو غاب من يقوم على حراسته، من خلال المزيد من الوعي والفهم والمزيد من العمل والعطاء تتشكل منظومة مترابطة تدفع بالأمة نحو الأمام، فيرتقي خطابها، ويصبح أكثر تفاؤلاً.