افتتاحية العدد
صحوة الضمير هل تأخذ بعداً أشمل؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن رصد الواقع ومتابعته ثم التفاعل معه والتأثير فيه، مما يحث عليه ديننا
الحنيف، ولعل في الآيات الكريمات في صدر سورة الروم إشارة إلى ذلك حيث
يقول (تعالى) : [الّم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ
سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المُؤْمِنُونَ]
[الروم: ١ ٤] ، فلفت أنظار الطائفة المؤمنة إلى الصراع الدائر بين قوتين غير
مسلمتين إحداهما: (كتابية) والأخرى (مشركة) ثم التعقيب على ذلك بطبيعة المداولة
بين الأمم؛ فكل ذلك جدير بأن يأخذ منا نصيباً من الاهتمام الذي ينبغي أن ينعكس
على واقعنا واهتماماتنا.. ومن هذا المنطلق تأتي متابعتنا للواقع والتعليق عليه.
ومن ذلك الخبران اللذان لفتا نظرنا ولم يُعَلّق عليهما في كل ما اطلعنا عليه بما
يليق بقيمتهما الحضارية والأخلاقية ولا ندري ما السبب؟
والخبران يتلخصان فيما يلي:
أولاً: اعتذار رئيس دولة البرتغال (جورج سمبايو) في ندوة (التراث العربي
المشترك) ، حيث وصف ما جرى (للمسلمين) من اضطهاد في بلاده منذ قرون عبر
(محاكم التفتيش) بأنه ساعد في تخلف شبه الجزيرة (الإيبيرية) لعدة قرون، مؤكداً
أن بلاده تمتلك الشجاعة للاعتراف بإيجابيات الوجود العربي والإسلامي في هذه
المناطق الذي لا يزال أثره ماثلاً إلى اليوم في اللغة والأسماء والمعمار والخيال
الشعبي ...
... ... ... [الشرق الأوسط، ع/٦٧٤٤، ١٠/١/١٤١٨هـ]
ثانياً: اعتذار الرئيس الأمريكي (بيل كلينتون) في احتفال في البيت الأبيض
في ١٠/١/١٤١٨هـ باسم الولايات المتحدة الأمريكية لنفر من الأمريكيين السود
ممن بقوا على قيد الحياة (أصغرهم يبلغ ٩١ عاماً) ولذوي نحو من ٤٠٠ أسرة
آخرين راحوا ضحية اختبارات طبية عنصرية دامت أربعين عاماً (١٩٣٢ ١٩٧٢م) في مراكز حكومية في مدينة (توتسكيجي) بالألباما وكانت الاختبارات تهدف إلى
الاطلاع على تطور مرض الزهري في غياب أي علاج، وقال لهم: أقدم لكم
اعتذاراتي وأنا متأسف لتأخرها! .
[الوطن، ع/٧٦٣٣، ١١/١/١٤١٨هـ]
ورغم إيجابية الخبرين إلا أنه من خلالهما يتبين للقارئ الكريم حقيقة الحضارة
الغربية التي وإن أسهمت في تطور الإنسانية وإمتاعها من النواحي المادية إلا أن لها
وجهاً آخر يتجلى في العنصرية والظلم والميكيافيلية وإثارة الحروب بين البلدان
لترويج الأسلحة وربما لتجريب نوعيات جديدة منها، إضافة إلى عالم الحروب
السرية المقرر فيها خسارة ما يسمونه دول العالم الثالث أمام الأحلاف الأخرى،
ويمكن الاطلاع على هذا العالم في كتاب (ألعاب الحرب) لـ (توماس إيلن) أحد
اللاعبين الكبار في ذلك العالم الرهيب، وهذه الحضارة ذات الوجهين مهما تظاهرت
بالوجه الإنساني إلا أنها أحدثت من الأضرار في الدول التي ابتليت باستعمارها
وتسلطها وبعض تصرفات المنتمين لها ما يشهد به حتى المنصفون من مفكريها.
إن معاناة الإنسانية والمسلمين بخاصة من المواقف الجاحدة لفضلهم، وما
قامت به محاكم التفتيش من تنصير عن طريق التعذيب والقتل والسحل الذي لم
يشهد له التاريخ مثيلاً، كانت جسيمة وعظيمة. والاعتراف وإن جاء متأخراً من
الرئيس البرتغالي شيء جميل، ولكن ينبغي أن ينعكس إيجابياً على واقع المسلمين
هناك وهم أقلية وفيهم من هم من أهل البلاد نفسها بإعطائهم حقوقهم المدنية وإشهار
مؤسساتهم الإسلامية وافتتاح المدارس والمساجد أسوة بغيرهم من أهل الديانات
الأخرى، ولعل ذلك يكون في الحسبان في أقرب فرصة، ولعله أيضاً يحتاج إلى
جهد وتحرك من المسلمين أهل الشأن، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى: ترى
ماذا ستكون ردود أفعال الكُتّاب والمؤرخين البرتغاليين حول إعادة الصورة
الصحيحة لواقع الإسلام وتاريخه بعد ذلك الاعتراف وهل ستصحح الصورة أم لا؟
وأملنا كبير في إعادة كتابة التاريخ الإسلامي هناك في الجامعات والمعاهد
ولدى المؤرخين والباحثين بصورته الصحيحة، فالرجوع إلى الحق خير من
التمادي في الباطل.
* -أما أمريكا فلا شك أن اعتراف رئيسها بتلك المأساة الإنسانية وإن كان
بهدف غلق ملف العلاقات العنصرية في أمريكا إلا أن هذا الموقف إيجابي وإن جاء
متأخراً؛ ولكن هل هذا الاعتراف للمواطنين السود في أمريكا أم لكل خطأ (غير
إنساني) قامت وتقوم به هذه الدولة الكبرى ولا سيما في مواقفها من قضايا الإسلام
والمسلمين؟
فالدستور الأمريكي ما زال يقف من السود بعامة والمسلمين منهم بخاصة موقفاً
غير منصف، وهذا مسجل في دراسات وأبحاث معروفة، والمسلمون لا يُعْطَوْن
الحقوق نفسها التي تعطى لغيرهم وبخاصة (يهود) الذين استطاعوا أن يكوّنوا دولة
في وسط الدولة، وشكلوا (فعاليات) مهمة لها دورها في توجيه سياسات الدولة
وهيمنتها على موقع القرار، ويستطيع اللوبي الصهيوني أن يعمل ما يريد لا سيما
في مواقفه غير المنصفة من القضية الفلسطينية ومناصرة العدو الصهيوني في كل
سياساته العدوانية، ومع هذا الارتباط المصيري بينهما فاليهود هم اليهود ومصالحهم
هي الأوْلى بالرعاية، ولا نستغرب اكتشاف فضائح جديدة للتجسس من قِبَلهم على
أمريكا مثل (قضية الجاسوس ميجا في وزارة الخارجية الأمريكية) ، ولا نعتقد أن
ذلك غريب إذا عرفنا مكر اليهود وخبثهم وعملهم المستمر لصالح أنفسهم ودينهم فقط.
ثم إلى متى تقف أمريكا مواقف غير منصفة من كثير من دول العالم الإسلامي
وتعمل على تحجيم دورها، ولا سيما حيال إجهاض القرارات المصيرية في هيئة
الأمم المتحدة وإحباطها حتى ولو كانت مجرد إدانات شكلية للعدو، فضلاً عن
وقوفها في وجه أي محاولة للحصول على الأسلحة الاستراتيجية والرفض المطلق
لامتلاك (القنبلة النووية) من قبل دولة مسلمة مثل (باكستان) وتهديدها بكل ما تملكه
من مواقف لإلغاء مشاريعها تلك؛ وفي الوقت نفسه لا تحرك ساكناً تجاه امتلاك
جارتها (الهند) لذلك السلاح والتهديد به لإبقائها الدولة الأولى في القارة، وبالتالي
تهديد مصالح المسلمين ومحاصرتهم في المنطقة؟
وشيء آخر أصبح لكثرة ما تحدثت عنه صحافة الغرب بعامة والأمريكية
بخاصة أمراً ممجوجاً لكنه مسألة كبرى عندهم حيال دول العالم الإسلامي بعامة
والإسلاميين منهم على وجه الخصوص هو الاتهام بإشاعة الإرهاب والتطرف وذلك
يتجلى في أمرين:
أولاً: من الناحية الفردية: مضايقة الإسلاميين حتى ولو كانوا يحملون
الجنسية الأمريكية، والعمل بكل بساطة لتسليم أولئك لإسرائيل وغيرها مما
يواجهون معه مصائر معلومة النهاية كما ظهر في أكثر من حالة.
ولقد رأينا كيف يتحوّل أي عمل إرهابي في أمريكا (وبقدرة قادر) إلى تهمة
إجرامية تفسر رجماً بالغيب: أن من ورائها المسلمين، كما حصل في (تفجير
مركز أوكلاهوما الفيدرالي) وما عاناه المسلمون آنذاك من ضغوط نفسية ومضايقات
غير إنسانية؛ وفي النهاية تبين أن وراء الجريمة عصابة من اليمين الأمريكي
المتطرف، فمتى يُنصف الإسلاميون ويعطون حقوقهم أسوة بغيرهم؟
ثانياً: موقف الولايات المتحدة من الدول التي تعلن تبني الاتجاه الإسلامي مثل
السودان، فالموقف الداعي لعزله وحصاره لا يتفق والعدل والإنسانية في شيء، لا
سيما إذا عرفنا رفض السودان لكل الاتهامات التي تُدّعى عليه، وهذا يحتاج إلى
مزيد من الإنصاف ولا نريد أن يعاني المسلمون بجريرة غيرهم من ظلم المجتمع
الدولي وحصاره ثم لا يُنصفون إلا بعد سنوات!
إن صحوة الضمير ظاهرة تستحق التنويه لكنها في الوقت نفسه تقتضي أن
تكون شاملة كل المواقف السلبية تجاه الإنسانية أو الإسلام، فهل يحدث شيء من
الإنصاف وشيء من العدل حيال أمتنا وشعوبنا، أم أن المسألة انتقائية ومظاهر
إعلانية لا غير؟
هذا ما ستثبته الأيام أو تكذبه.