للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا دعوية

[معالم في التعامل مع مآسي المسلمين]

محمد بن عبد الله الدويش

[email protected]

أصبحت المأساة والمعاناة اليوم هي القاسم المشترك بين أحوال المسلمين، فهم

ما بين جائع يبيت لياليه طاوياً، وبين خائف لا يعرف أن هناك في الوجود شيئاً

يسمى الأمن والطمأنينة، وبين مَنْ يصبح ويمسي على أزيز الرصاص ودوي

القنابل، قد أصبح اللون المعهود لديه هو لون الدم، وغدت مناظر الأشلاء والجثث

المتطايرة مشاهد معتادة لديه لا تثير استغرابه أو دهشته، كل يوم يشيعون ضحية

بل ضحايا.

حين تلفظ بكلمة المأساة؛ يقفز إلى الذهن أنك تعني المسلمين الذين ما أن

يفيقوا من مصيبة إلا ويصبحون على أخرى.

وإزاء هذا الواقع نسمع حديث الغيورين والناصحين، فنبكي وننتحب، ثم

نبكي وننتحب، ثم يعود الأمر برداً وسلاماً.

إننا ومع تعدد المآسي التي تواجه الأمة بحاجة إلى ترسم معالم منهج في

التعامل معها والنظر إليها، ومن ذلك:

١ - فهمها في إطار الواقع:

الأحداث التي تمر بالأمة ليست نموذجاً شاذاً بل هي إفراز للواقع الذي تعيشه،

وثمرة للتخلف الذي تعاني منه في جوانب شتى من حياتها. ومن ثم فلا يمكن أن

نفهم الأحداث فهماً سليماً حين نعزلها عن إطار الواقع العام للأمة، فهي حلقة من

سلسلة، ونموذج من ظاهرة، والتخلف الذي تعاني منه الأمة اليوم يمكن تلخيصه

في مجالين رئيسين:

الأول: ضعف الأمة في دينها، وبعدها عنه.

والثاني: تقصيرها في الأخذ بأسباب القوى المادية التي أُمرت بها.

٢ - وزن ردود الأفعال:

تولد الأحداث بضخامتها صدمات عنيفة لدى كثير من الناس، وهذه الصدمات

تفقد الكثير منهم اتزانه، وكثيراً ما يحدث الخلل في ردود الأفعال مع الأحداث

المؤلمة.

إننا لا يسوغ أن نلغي تفاعل الناس مع الحدث، ولا أن نهزأ بمن يملكون

عاطفة جياشة حرمنا منها نحن، لكننا بحاجة إلى ضبط ردود الأفعال، وتربية

الناس على وزنها بميزان الشرع والعقل، وعلى أن تكون العاطفة والحماسة وقوداً

للعمل المثمر المنتج لا لاجتهادات تفسد أكثر مما تصلح.

كما أننا بحاجة إلى تربية الناس على أن التفاعل الحقيقي مع الحدث هو تفاعل

الإنسان بكيانه كله، بعاطفته وبعقله وماله وبدنه، وبفكره ورأيه، وحين يعلو جانب

على حساب آخر يطيش الميزان ويضطرب.

وها هو صلى الله عليه وسلم يتعامل مع أبي جندل وسائر ضعفاء المسلمين

بما يقتضيه الموقف، وإن كان التفاعل العاطفي المجرد يوحي بخلاف ذلك.

٣ - التفاعل معها باعتدال:

إن التفاعل مع قضايا الأمة وهموم المسلمين ليس مجرد ثقافة سياسية أو

انشغال بما لا يعني، بل هو أثر من آثار الإيمان، عن أَبِي مُوسَى الأشعري رضي

الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ

بَعْضًا. ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا إِذْ جَاءَ رَجُلٌ

يَسْأَلُ أَوْ طَالِبُ حَاجَةٍ؛ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللَّهُ

عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ» [١] .

وعن النعمان رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

«تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا

تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» [٢] . وفي رواية: «الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ

وَاحِدٍ إِنْ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ، وَإِنْ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ» [٣] .

ومع أهمية التفاعل وضرورته، إلا أنه ينبغي أن يأخذ القدر الملائم معه

فتتوازن اهتماماتنا ومطالبنا. وهذا يعني أن تدخل هذه القضايا ضمن منظومة

اهتماماتنا ومشاغلنا، دون أن تكون هي كل شيء أو أن نطالب الناس بأن يجعلوها

كل شيء.

إن المآسي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من واقع الأمة، وحين تستغرقنا كل حالة

فهذا يعني أن جهدنا كله سينحصر في التعامل مع المآسي، ولن يتبقى حينها وقت

لمشروعات الإصلاح الأخرى فضلاً عن مشروعات البناء الهادئة، فمتى نجد الوقت

لتقديم برامج علمية وإنشاء مؤسسات تعليمية، أو إيجاد برامج إصلاح اجتماعي،

أو تطوير مراكز وقنوات إعلامية، فضلاً عن قراءة الواقع قراءة متأنية. بل قد

يستغل الآخر هذا الانشغال فيمرر كثيراً من مشروعات الإفساد؛ مستثمراً انشغالنا

بمثل هذه الأزمات.

٤ - الحل ضمن مشروع شامل للإصلاح:

الأحداث ليست نموذجاً شاذاً، بل هي جزء من نسيج الأمة وواقعها كما سبق،

ولن يكون التعامل معها سليماً حين نفصلها عن واقعنا، وفي المقابل فلن يتأتى

الحل بعيداً عن حل القضية الكبرى، ولن يكون الحل إلا جزءاً من مشروع

الإصلاح الشامل؛ فلتوظف الأحداث لحشد الأمة إلى مشروع التغيير والإصلاح

الذي يرتقي بها.

إننا بحاجة إلى العمل في مسارين: مسار يتفاعل مع الأحداث ويهتم بها،

ومسار يسير في مشروع الإصلاح الشامل.

٥ - توسيع دائرة الاهتمام:

إن اتساع دائرة الأزمات، وتعدد مواطن الخلل في المجتمعات الإسلامية؛

يتطلب أن يتسع أفقنا للتعامل مع الأزمات، وأن نبتعد عن المراهنة على أن يتم

حسم هذه القضايا المعضلة من خلال فئة محدودة من المتعاطفين مع الأحداث لا

يملكون حضوراً حقيقياً في مؤسسات المجتمع، ولا يجيدون لغة التواصل مع فئاته

المختلفة، فضلاً عن مدى النضج الذي يمتلكونه.

وإننا بحاجة إلى ألا يمنعنا تحفظنا على بعض فئات المجتمع ومؤسساته من

السعي إلى النهوض بها، فقوة مجتمعات المسلمين رصيد مهم للأمة، فامتلاك

باكستان على سبيل المثال للسلاح النووي أفاد شعبها المسلم وحماه من تسلط محتمل

من عدوه، رغم الفارق بين النظام والشعب. وها هو الغرب يعي أن قوة الأنظمة

العربية مهما بلغت في عمالتها ليست في صالحه ولا صالح ربيبته المدللة.

٦ - البعد عن التناول العاطفي المجرد:

الجانب العاطفي يبدو جلياً في المآسي، فهي تستثير عاطفة الجامدين فضلاً

عمن يحملون الغيرة والحمية لدينهم، ويتألمون لآلام إخوانهم.

والخطاب الدعوي اليوم خاصة المسموع منه يتفاعل بصورة ملحوظة مع

المآسي، إلا أن الغالب عليه هو الحديث العاطفي، وهو مع أهميته خاصة في مثل

هذه القضايا إلا أنه لا ينبغي أن يكون هو النمط الوحيد، فلا بد من الاعتناء

بالخطاب المنطقي العقلاني الذي يتناول المواقف ويحللها بصورة متزنة؛ فالإصرار

على الخطاب العاطفي وحده قد يجعل العاطفة هي مصدر تحديد المواقف لدى طائفة

من المستمعين، كما أن استمرار هذا اللون من الخطاب يسهم في تسطيح عقلية

المستمعين.

٧ - الأحداث مدعاة للاجتماع لا الافتراق:

الأحداث المتسارعة والمتلاحقة قد لا يتفق على تفسيرها العقلاء، وقد لا تلتقي

الآراء والأفهام حول موقف واحد في تسويغ عمل أو ردة فعل، فما يراه أحدهم

سائغاً ومشروعاً قد لا يراه غيره كذلك.

والمأمول من الأمة أن يتسع صدرها لتقبل الاجتهاد وتعدد الآراء، وألا تخلع

على من يخالفها في فهم المواقف ألفاظ الجبن والتخاذل، أو التهور والاندفاع، وأن

يتم التفريق بين الخلاف في المباديء والمفهومات، والتطبيقات العملية لها.

والأحداث فرصة للاجتماع لا الافتراق، ومن الافتراق أن نتطلع إلى أن يتفق

البشر على ما لا يمكن أن تجتمع كلمتهم عليه.

٨ - لكل حدث خصوصياته:

لكل حدث طبيعته وخصوصياته، وما يجدي في موطن لا يجدي في آخر،

وما يطفيء النار في مكان يزيدها اشتعالاً في غيره.

ثمة مواطن يحتاج فيها المسلمون إلى حمل السلاح وإعلان الجهاد والصراع

مع العدو، ومواطن يحتاجون إلى كف اليد لا رفضاً لمبدأ الجهاد، فهو ماض إلى

يوم القيامة، لكن لأن ما يرجى من مصالح الصراع والمواجهة دون مفاسد ذلك

بكثير، والله تعالى لم يشرع الجهاد لمجرد أن تراق الدماء بل لتعلو كلمة الله ويكون

الدين له عز وجل.

وثمة مواطن تتطلب أن يهب لها طائفة من أبناء الأمة ممن أخذوا بعنان

خيولهم في سبيل الله يبتغون الموت والقتل مظانه، وأخرى تتطلب أن يكون دور

غير أهل البلاد مدهم بالمال والرأي والحكمة.

إننا بحاجة إلى فقه ووعي وإعطاء كل موقف ما يناسبه.

٩ - التفاؤل والبعد عن التيئيس:

الأحداث المتلاحقة والمحن المتواصلة تورث اليأس لدى النفوس، وتغرس

بذور الإحباط والقنوط، والدعاة الحكماء هم أولئك الذين لا يحولونها إلى آلة لرفع

رصيد اليأس، وإلى وسيلة لصنع الأسى.

إنهم يؤمنون بأن في المحن منحاً، وبأن النصر مع الصبر، وبأن مع العسر

يسراً: [وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ] (آل عمران:

١٣٩) ، [حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن

نَّشَاءُ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمِينَ] (يوسف: ١١٠) .

ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجد أنه يعتني بتعزيز روح

التفاؤل لدى أصحابه في المواقف الحرجة، فحين أتاه خباب رضي الله عنه يشتكي

له ما لقي من المشركين قال له: «وَاللَّهِ! لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ

صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لا يَخَافُ إِلا اللَّهَ، أَوْ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»

[٤] .

وفي غزوة الأحزاب حين اشتد الكرب بالمؤمنين، وبلغت القلوب الحناجر،

وظن المنافقون الظنون بربهم تبارك وتعالى؛ فتح النبي صلى الله عليه وسلم باب

الفأل أمام أصحابه، «عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنه قَالَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ

صلى الله عليه وسلم بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، قَالَ: وَعَرَضَ لَنَا صَخْرَةٌ فِي مَكَانٍ مِنْ الخَنْدَقِ

لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، قَالَ: فَشَكَوْهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ

رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ عَوْفٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَضَعَ ثَوْبَهُ، ثُمَّ هَبَطَ

إِلَى الصَّخْرَةِ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. فَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ وَقَالَ:

اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ! إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ مِنْ مَكَانِي

هَذَا. ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. وَضَرَبَ أُخْرَى فَكَسَرَ ثُلُثَ الْحَجَرِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ

مَفَاتِيحَ فَارِسَ، وَاللَّهِ! إِنِّي لأُبْصِرُ الْمَدَائِنَ وَأُبْصِرُ قَصْرَهَا الأَبْيَضَ مِنْ مَكَانِي هَذَا.

ثُمَّ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ. وَضَرَبَ ضَرْبَةً أُخْرَى فَقَلَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ

مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ! إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ مِنْ مَكَانِي هَذَا» [٥] .

وإشاعة الروح الإيجابية والتفاؤل ينبغي أن تكون واقعية، ومستندة إلى السنن

الربانية، لا أن تكون مجرد تخدير للمشاعر والعواطف، فضلاً عن تلمس المنامات

أو السعي إلى تنزيل ما صح وما لم يصح من أخبار الفتن الملاحم.

١٠ - الاعتناء بتقديم البرامج العملية:

نستطيع استثارة عواطف الناس ومشاعرهم، وفي المصائب والمآسي مادة

ثرية لا تعجز المتحدث والخطيب ولا تحوجه إلى اللسان الفصيح أو القلم السيال،

لكننا مع ذلك بحاجة إلى أن نوقف الناس على مشروعات وجهود وبرامج عملية

يطبقها الصغير والكبير، ويقوم بها الرجل والمرأة.

إننا أمام تحد يتجاوز النحيب والبكاء، أو التفاعل العاطفي، ويسعى إلى

الانطلاق والعمل، فالشعور الحي الصادق ما وقر في القلب وصدقته الأعمال.

وحين تستثار النفوس وتتفاعل المشاعر، فالناس أكثر تهيؤاً لأن يعملوا عملاً

ذا بال، ويخطوا خطوات ذات أثر، والمأمول من أصحاب الكلمة المسموعة أن

يضعوا أقدام الناس على معالم الطريق، وأن يرشدوهم إلى ما يعملون.

١١ - توظيفها توظيفاً إيجابياً:

الدعاة وبناة المجتمع يبحثون عن الفرص حتى من بين المواطن التي يتبادر

اليأس فيها إلى ذهن الناس، وبقدر ما في المآسي من أعباء ومشكلات؛ ففيها فرص

كثيرة يمكن توظيفها واستثمارها.

ومن مجالات توظيف الأحداث والمآسي ما يلي:

* على مستوى بلاد الدعاة ومناطقهم:

١ - فهم مشكلات الأمة:

الأحداث والمشكلات لا تنفصل عن واقع الناس، وهي إفراز لأمراض

تعايشها الأمة وتعاني منها، ومن ثم فهي بقدر ما تستثير فينا المشاعر للتعاطف مع

إخواننا والتألم لآلامهم؛ فهي تكشف لنا أمراضاً وعللاً كانت تحجبنا عنها الأوضاع

الهادئة المستقرة، وفي التنزيل: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى

هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران: ١٦٥) .

[وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ] (الشورى: ٣٠) .

فما أجدر الغيورين الناصحين أن يجعلوا من الأحداث نذير خطر لأمتهم، وأن

يوظفوها في الكشف عن مواطن العلل والخلل في واقع الأمة.

٢ - تقرير المبادئ والمفهومات:

كما أن الأحداث تكشف الأمراض والعلل فهي تتيح فرصاً لتقرير كثير من

المبادئ، وتجلية كثير من المفهومات الغائبة لدى الناس، وتصحيح ما علا عليه

الران وغطى عليه الغبش.

فهي فرصة لتقرير حقائق الولاء والبراء، والقضاء والقدر، والتوكل واليقين،

وهي فرصة لبناء جسور الأخوة المقطوعة بين الأمة، وترميم ما أورثته

الحزبيات والصراعات الجاهلية.

وهذا هو منهج القرآن الكريم في التعقيب على كثير من الأحداث، كما جاء

سورة الأنفال في التأكيد على إصلاح ذات البين عند التعقيب على غزوة بدر، وكما

جاء في سورة النور حول حادثة الإفك، والتأكيد على التثبت، وحسن الظن

بالمسلمين، وكما جاء في سورة آل عمران في بيان مسؤولية الأمة عما يحل بها من

مصائب عند التعقيب على أحداث أُحُد.

وفرق بين تناول هذه القضايا في الأجواء الساخنة والمواقف التي تتفاعل معها

النفوس، وتناولها في الأجواء الهادئة والنفوس مترهلة.

٣ - فهم واقع الصحوة:

تمثل شرائح الصحوة أكثر شرائح المجتمع الإسلامي تأثراً بالأحداث وتفاعلاً

معها، وهذا التفاعل يتيح للمصلحين قرءاة واقع الصحوة قراءة أدق وأعمق،

فالأحداث تُبرز مكنونات النفوس، فتبدو إيجابيات غائبة، وعلل وأمراض خفية.

وكما أن الأحداث تبدي لنا ما كان خافياً من محاسن أو مساوئ، فهي ترينا أن

كثيراً من الأمور محاسن أم مساوئ أكبر أو أقل بكثير مما كنا نعتقد.

٤ - الارتقاء بالوعي:

يتيح تفاعل الناس مع الأحداث اتساعاً في دائرة الإقبال على السماع والمناقشة

لتفاصيلها، وهي فرصة سانحة لتوظيف هذا الإقبال والتفاعل مع حضور الحدث

في الأذهان لتنمية الوعي الذي نعاني من ضحالته لدى مجتمعات المسلمين، ولدى

شباب الصحوة، وهذا لن يتم تحقيقه ما دام الخطاب العاطفي هو السائد كما أشرنا.

٥ - إيجاد المؤسسات والجمعيات:

تعد المؤسسات والجمعيات الدعوية والإغاثية مطلباً مهماً لدى كثير من الدعاة،

ولا يزال القائم منها دون المستوى المطلوب، والأحداث والمآسي تهيئ فرصاً من

تفاعل أهل الأموال وتعاون أصحاب القرار، وهذه الفرص لا تتاح في الظروف

المعتادة.

فمن المفيد استثمار هذا التفاعل لما وراء الحدث، ومن ذلك السعي إلى إنشاء

الجمعيات والمؤسسات التي يمكن أن يمتد نشاطها زماناً ومكاناً وموضوعاً.

٦ - التواصل مع شرائح وفئات أخرى:

ما زالت الصحوة تعاني من ضعف تفاعلها مع كل طبقات المجتمع، فثمة فئة

عريضة من غير المتدينين يملكون طاقات جيدة يمكن توظيفها في كثير من

المشروعات الدعوية. وكثير من هؤلاء يتفاعلون مع الأحداث، وهذا التفاعل إما

أن يتلاشى أثناء الحدث لعدم تهيؤ المجالات العملية، وإما بعد انتهاء الحدث.

ومن المهم أن يستثمر هذا التفاعل في إزالة كثير من الحواجز، وفي مد

الجسور معهم ليزداد التواصل فيما بعد.

٧ - تفعيل الطاقات المعطلة:

تملك الصحوة عناصر غير فاعلة من المستجيبين لها والمحسوبين عليها،

وهذه العناصر تمثل هدراً في الطاقات بل عبئاً يستهلك كثيراً من الجهد الدعوي

والتربوي، وأياً كان السبب في ذلك فالأحداث تدعو كثيراً من هذه العناصر لإعادة

التفكير، وتحفزهم على التفاعل؛ مما يمثل فرصة ثمينة لتوسيع دائرة هذ التفاعل

زماناً فلا يتوقف عند هذا الحدث، وموضوعاً فيمتد لمجالات أخرى من العمل.

* في مناطق الأزمات:

١ - الوجود الدعوي:

تتيح الأحداث والأزمات زوال كثير من الحواجز التي تقف دون وصول

العمل الدعوي إلى تلك المناطق، كما تمثل الأعمال الإغاثية فرصة لإيجاد

المؤسسات الدعوية هناك.

وهذا يتيح مجالاً للوجود الدعوي في هذه المناطق بقدر لا يتحقق في ظل

الأوضاع المعتادة.

٢ - تبنّي قيادات مستقبلية:

تفتقر كثير من مناطق المسلمين إلى قيادات علمية ودعوية، وكثيراً ما تعوق

الحواجز السياسية واللغوية والأوضاع المادية للمجتمعات أمثال هؤلاء عن التواصل

مع الدعاة وأهل العلم.

والأزمات تسهم في زوال كثير من الحواجز، وفي استفاقة فئات عدة من

شباب المسلمين في مواقع الحدث.

ومن هنا فهي فرصة سانحة للاعتناء بأمثال هؤلاء، وإعدادهم ليكونوا قادة

ودعاة في مجتمعاتهم.

٣ - استثمار فرصة التفاعل:

يتفاعل كثير من المسلمين مع المناطق المنكوبة والمصابة بالأزمات، وهذا

يهيئ فرصاً لأن يُوظف هذا التفاعل في مشروعات دعوية حيوية تنهض بهذه

المناطق؛ من خلال إنشاء مدارس ومعاهد شرعية، ومن خلال احتضان العديد من

أبنائها في الجامعات الإسلامية، ونشر اللغة العربية عند من لا يتحدثونها، وطباعة

الكتب وترجمتها ... إلى غير ذلك من الفرص التي يمتد تأثيرها، وقد يصعب القيام

بها في غير أوقات الأزمات.

* عالمياً:

يمتاز عصرنا باتساع دائرة التفاعل العالمي مع الأحداث، فما يحدث في

الشرق يتردد صداه في الغرب، وكثيراً ما يتسابق العالم للتفاعل مع هذه الأحداث

وفق مصالحه.

وجدير بالمصلحين في الأمة أن يوظفوا التفاعل العالمي مع الحدث بما يحقق

مصالح الأمة بقدر استطاعتهم.

فأحداث العراق الأخيرة على سبيل المثال قد أحدثت تصدعاً في التحالف

الدولي؛ يمكن تفعليه وتوظيفه في اختراق هذا التحالف الذي كثيراً ما يكون ضد

مصالح الأمة.


(١) رواه البخاري (٦٠٢٧) ، ومسلم (٢٥٨٥) .
(٢) رواه البخاري (٦٠١١) ، ومسلم (٢٥٨٦) .
(٣) رواه مسلم، (٢٥٨٦) .
(٤) رواه البخاري (٦٩٤٣) .
(٥) رواه أحمد (١٩٢١٩) .