للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملفات

القضية الفلسطينية.. مآس متجددة

العلو الكبير (١/ ٢)

من خيمة الذل ... إلى حصن الجبروت

دور القوى الكبرى في التمكين لليهود

عبد العزيز كامل

قضى الله - تعالى - قضاءً لا مرد له، بأن تظل أمة اليهود في ذلة مقيمة

بعد أن حلَّت عليهم لعنة الله - تعالى - بسبب كفرهم وتكرار جرائمهم مع الأنبياء

والمصلحين، وتأكد هذا بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذه الذلة

المقيمة معهم والمضروبة عليهم كالخيمة حيثما حلُّوا أُخضعت لاستثناءين أو حالتين

ترفع فيهما:

الحالة الأولى: أن يدخلوا في الإسلام فيستمدوا منه العزة المكتوبة لله ولرسوله

وللمؤمنين.

الحالة الثانية: أن تشملهم مظلة قوة من قوى الشر من البشر الذين يستغلونهم

أو يستعملونهم لأجل أغراض ومصالح مشتركة؛ وهذا ما قرره القرآن العظيم في

وضوح جليٍّ تام، في قوله - عز وجل -: [ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا

بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك

بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا

يعتدون] [آل عمران: ١١٢] .

والمتأمل في تاريخ بني (إسرائيل) كله بعد عصور الاصطفاء يجد أن تلك

الأمة اليهودية لم تخرج عن هذا القضاء الإلهي قيد شعرة؛ فطوال عهود تمكين

الإسلام لم يحظ يهودي بعزة وأمان إلا بدخوله بصدق في الإسلام وانضمامه إلى

ركب المؤمنين، أو بخضوعه لحكم المسلمين والنزول تحت حمايتهم، وهذا ما كان

طيلة التاريخ الإسلامي، وخاصة خلال فترة وجود اليهود في الأندلس، ثم في

تركيا؛ حيث لم يجدوا الأمان إلا في كنف المسلمين. أما في عصور ضعف

المسلمين، وخاصة في العصر الحديث فقد انتقل اليهود إلى الاحتماء بقوى الطغيان

الكبرى التي كانت تسمى بقوى الاستعمار.

وقبل إبراز هذه الحقيقة من خلال استعراض دور القوى الكبرى في إيجاد

كيان اليهود ودعمه وتثبيته، تجدر بنا الإشارة إلى حقيقة أخرى مهمة، وهي أن

هناك قضاءاً إلهياً آخر يخص المسلمين في هذا الشأن، وهو أن الأصل فيهم أن

يكونوا أعزة، فكما ضربت الذلة على اليهود فقد كتبت العزة للمؤمنين، ونص

القرآن واضح في هذا. قال تعالى: [ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين]

[المنافقون: ٨] وقال: [كتب الله لأغلبن أنا ورسلي] [المجادلة: ٢١] والمقصود هنا الرسل وأتباعهم الناصرون لدينهم، كما قال - سبحانه -:

[ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز] [الحج: ٤٠] . فعزة المؤمنين ... والمسلمين هي الأصل، ولكن قد يعرض استثناء من الذلة إذا تخلفت موجبات العزة، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعِينة، ورضيتم بالزرع، وتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم) [١] .

وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله

بالإسلام؛ فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله أذلنا الله) [٢] ، وصدق الفاروق،

فقد جرب العرب الاعتزاز بالقوميات والوطنيات وغيرها من الرايات، فما زادتهم

إلا ذلة وخبالاً.

ونعود إلى الكلام عن ذلة اليهود؛ فقد شاء الله - سبحانه - أن يشهد عصرنا

علواً آخر كبيراً لهم، والعلو بالباطل ليس عزة في الحقيقة بل هو بغي وطغيان

وتجبر، ومع ذلك فإن هذا العلو، لم يرتفع اليهود إليه إلا فوق رافعات من قويً

أخرى غير يهودية كان لها الأثر الأكبر في ظهورهم وفجورهم.

إن الوقائع المعاصرة تصدِّق هذه السُّنَّة الإلهية التي نطق بها القرآن بشأن

اليهود، كما تصدق في أحوال المسلمين. ولكن الذي يعنينا في هذا المقال هو حال

اليهود من حيث خروجهم من دائرة الذلة: كيف خرجوا؟ وبم خرجوا؟ وعلى يد

مَنْ خرجوا؟ إن الجواب على ذلك كفيل بأن يكشف لنا ملامح المصير الذي سيؤول

إليه صراعنا معهم، وقمين بأن يبين مزيداً من معالم سبيل المجرمين في الكيد لهذا

الدين.

فرنسا الاستعمارية، والتجربة الأولى:

سبقت فرنسا إنجلترا في الاهتمام بشأن اليهود، ولفتت أنظارهم إلى إمكانية

العودة إلى الأرض المقدسة في فلسطين قبل مئتي عام، في ظل بوادر ضعف

إسلامي متزايد؛ فقد أطلق نابليون بونابرت دعوته لليهود بالهجرة إلى فلسطين في

إبريل من عام ١٧٩٩م للميلاد، وعرض تعاون الحركة الاستعمارية الفرنسية معهم، لتمكينهم من السيطرة على أرض بيت المقدس؛ ولهذا فإنه بعد أن غزا مصر عمد

إلى غزو الشام، وخاض معارك كبيرة هناك، إلا أنها انتهت بهزيمته في عكا في

معركة أبي قير، مما أجهض مشروعه الإجرامي لتمكين اليهود في فلسطين في ذلك

الوقت المبكر الذي سبق ميلاد الحركة الصهيونية المعاصرة بنحو مئة عام؛ ولكن

فرنسا ظلت محتفظة بالتزامها بالتعاون مع اليهود بصور تظهر تارة وتختفي تارة،

وكان من أبرز صور التعاون معهم بعد إقامة دولتهم المشاركة في العدوان الثلاثي

على مصر عام ١٩٥٦م، والأظهر من ذلك تمكين دولة اليهود من تصنيع القنبلة

النووية بتعاون فرنسي إسرائيلي وثيق منذ نهاية الخمسينات.

بريطانيا تشد الحبال الأولى:

جدلت بريطانيا لليهود حبل الخروج، فكانت أول (حبل من الناس) لنصرتهم

وانتشالهم من ذلتهم في القرون الأخيرة، وقد استفادت من إخفاقات نابليون في

تحقيق هذا الغرض، وسارت في خطوات حثيثة وخبيثة لإنجاح المشروع الذي لم

تفلح فيه فرنسا. وقد تكلل هذا المسعى المشؤوم بالنجاح - بكل أسف - في نهاية

المطاف، ووُلدت دولة اليهود على يد القابلة البريطانية بعد نحو مئة عام أخرى من

موعد بدئه؛ فالمشروع الإنجليزي لتمكين اليهود في فلسطين بدأ عام ١٨٤٠م،

وأثمر قيام الدولة عام ١٩٤٨م؛ فكيف كان ذلك؟

لقد بدأت بريطانيا مشروعها بتصدير رجال دين نصارى لهذه المهمة؛ حيث

رأت أن رجال السياسة لن يصلحوا لمرحلة البداية التي تحتاج إلى تحفيز روحيٍّ

وعقديٍّ، ولهذا فإن أول من أذنت له بريطانيا ببذل مساعيه لإحياء المشاعر الدينية

عند اليهود بخصوص العودة لفلسطين هو القس (وليام هشلر) الذي تحرك في دول

أوروبا من أجل الإقناع بهذا الهدف.

وبينما كان القس يهيئ الأجواء لقبول المشروع البريطاني، كان الساسة

يرتبون للتحرك على محاور أخرى لاستثمار نتائج مساعيه أولاً بأول، وأصبحت

بريطانيا تنادي علناً بحماية حقوق الأقليات الدينية في العالم، ولم يكن يهمها في

الحقيقة من هذه الأقليات سوى الأقليات اليهودية لجمع شتاتها المبعثر في العالم،

وحشْره في بيت المقدس.

وعندما آتت هذه المساعي شيئاً من أكلها بانتعاش الأقلية اليهودية في فلسطين

انتقلت بريطانيا في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر إلى جلب يهود آخرين إلى

أرض فلسطين من خارجها، واستغلت خبرتها العريقة في اغتصاب الشعوب باسم

(الاستعمار) لتضعها تحت تصرف اليهود باسم (الاستيطان) ، أي تحويل أرض

الغير إلى وطن.

وقد أرادت بريطانيا بذلك المسعى أن تضرب عصفورين بحجر واحد؛ فهي

من ناحية تحقق ذلك الهدف المشبوه من مشروع تمكين اليهود في بيت المقدس بعد

تيه قارب الألفي عام، ومن ناحية أخرى، تضع خنجراً في خاصرة العالم الإسلامي، لتكرس حالة الوهن التي وصل إليها بعد ضعف الدولة العثمانية، وذلك حتى لا

يقوم لهذا العالم كيان عالمي يحاول النهوض من جديد. وقد جعل وزير خارجية

بريطانيا (اللورد بالمرستون) مهمته الأولى هي السير قدماً في وضع السياسات

الكفيلة بتحقيق هذين الهدفين.

ولكن برامج (بالمرستون) ظلت مجمَّدة حتى انتهت الحرب العالمية الأولى

التي نتج عنها هزيمة الدولة العثمانية؛ حيث استغل الإنجليز نتائجها وسارعوا إلى

اغتنام فرصة الفراغ والبلبلة الناشئة عنها، ونادوا بضرورة فرض الحماية

البريطانية على فلسطين، ولم تكن هذه الخطوة إلا تطبيقاً لأفكار بالمرستون للإمعان

في تهيئة الأوضاع في فلسطين للتمكين لليهود فيها بالتنسيق مع فعاليات الحركة

الصهيونية العالمية التي كانت قد بلغت في ذلك الوقت مرحلة من النضج التنظيمي

الذي يؤهلها للقيام بدور فاعل في هذه التطورات المصيرية في المنطقة.

وهنا نقف وقفة مع (خيمة الذل) المضروبة على اليهود، فنتساءل: هل كان

بإمكان تنظيمات الحركة الصهيونية وحدها أن تقفز هذه القفزة، لولا (الحبل)

الإنجليزي، الذي أُلقي إليها لتتسلق عليه إلى الأرض المقدسة؟ !

لقد شهدت البدايات الأولى للقرن التاسع عشر تلاقياً ظاهراً بين أهداف الحركة

اليهودية العالمية وأهداف بريطانيا زعيمة العالم النصراني في ذلك الوقت؛ وكأن

أحقاد التاريخ كله قد اجتمعت على موعد لتصفية حسابات قرون مضت لليهود

والنصارى مع الإسلام في عقر داره.

لقد توَّجت بريطانيا هذا التلاقي بإصدار حكومتها وعداً رسمياً لليهود بإقامة

(وطن) - لا مستوطنات - ولم يكن هذا الوعد الصادر في نوفمبر عام ١٩١٧م

مجرد وعود تشجيعية، وإنما كان بمثابة حكم قضائي، سخرت لتطبيقه القوى

المتنفذة في ذلك الوقت، فوعد (بلفور) كان يعني بتعبير آخر، تعهد بريطانيا

بتحويل فلسطين إلى وطن لليهود، ولم يكن هذا التعهد قابلاً للتنفيذ عن بُعد، ولهذا

أقدمت بريطانيا على احتلال القدس بعد صدور الوعد بشهر واحد.

وهكذا، وبعد عشرين عاماً من اجتماع قادة الصهيونية في (بال) بسويسرا

فتحت لهم بريطانيا مصاريع أبواب فلسطين لكي يلج منها مشروعهم التآمري ضد

المسلمين، بل ضد البشرية جمعاء.

لقد سعى اليهود بعد ذلك من خلال منظماتهم النشطة سياسياً إلى تحويل وعد

بلفور إلى النطاق الدولي الواسع بدلاً من النطاق البريطاني الضيق، وذلك بعد أن

عرضت الحركة الصهيونية مشكلتها على مؤتمر السلام الدولي المنعقد في باريس -

١٩١٩م حيث أوجد هذا المؤتمر الأرضية المناسبة لقرار الحلفاء بوضع فلسطين

تحت الانتداب البريطاني، ومع تحول القضية إلى الصفة الدولية حرصت بريطانيا

على الاحتفاظ بدورها الخاص في إكمال مسعاها المشؤوم إلى نهايته؛ فإثر تسلمها

مهمة الانتداب عينت صهيونياً هو (هربرت صموئيل) مندوباً سامياً أول لبريطانيا

في فلسطين، وبوصفه يهودياً وبريطانياً فقد قام بما أُسند إليه بدقة وإخلاص، ولم

يضيِّع فرصة يمكن أن يستفيد منها اليهود.

كانت فترة الانتداب (١٩١٧- ١٩٤٧م) كافية لتوفير المعطيات اللازمة وإعطاء

المسوغات الكافية للإعلان عن بلوغ الحركة اليهودية مرحلة التأهل الكامل لإعلان

الدولة، فعبر سياسات اغتصاب الأراضي وطرد أهلها أو التحايل لشراء الأراضي

منهم أو سن القوانين لنزع ملكيتها، تم تدبير العنصر الأول من عناصر الدولة وهو

(الأرض) .

وعن طريق تدبير الهجرة لليهود والتهجير للعرب، تم طبخ العنصر الثاني

من عناصر الدولة وهو (الشعب) ، وأصبحت أرض فلسطين مهيأة لتطبيق العنصر

الثالث من مقومات الدولة وهو (السيادة) وهو ما تم بإعلان الدولة فعلياً عام ١٩٤٨م، بعد ثلاثين عاماً من العمل المتواصل والمتكامل بين يهود العالم ونصارى بريطانيا

تحت مظلة الانتداب الدولية.

وبميلاد دولة اليهود بدأت الإمبراطورية البريطانية في العالم تنحسر، وكأن

عمرها قد مُد فيه لتكون محلاًّ لسخط الله والناس بإنجاز هذا المشروع المعادي

للإنسانية (إسرائيل) . فقد أنهت وجودها في القارة الهندية في العام نفسه، ثم سحبت

جيوشها بعد ذلك من البلاد العربية التي كانت تحتلها.

لقد سلَّمت بريطانيا الشجرة الصغيرة التي زرعتها إلى من يرعاها وينميها

حتى تستوي على عودها، وتزاول مهمة إنتاج الثمرات الخبيثة.

وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الحاضنة الجديدة، حيث رعت دولة

اليهود وثبتتها في مراحلها المختلفة حتى بلغت الرشد، وشبت عن الطوق، بل

وخرجت عن السيطرة، ولهذا فقد كانت (الحبل) الثاني من حبال الناس التي خرج

بها اليهود من الذلة إلى حين.

ولكن الحبل الأمريكي كان أشد وثاقاً، وأحكم صنعة، حتى إنه جرَّ اليهود

جراً إلى مقدمة قوى الطغيان الدولي؛ ولكن قبل أن نبدأ في تفصيل ذلك لا بد من

وقفة مع (الأداة) التي استعان بها البريطان ومن بعدهم الأمريكان في بناء الحصون

التي احتمى بها اليهود طيلة سنوات الصراع الماضية، إنها (الأمم المتحدة) فإلى

جانب وضع الولايات المتحدة كل إمكاناتها تحت خدمة العلو اليهودي، فقد استغلت

الأممَ المتحدةَ المنظمة الدولية في القيام بدور آخر، لم تستطع الولايات المتحدة

نفسها، ولا بريطانيا القيام به، وهو دور إسباغ (الشرعية الدولية) على الوجود

والسيطرة اليهودية في بلاد المسلمين، ولهذا فلا بد لنا من وقفات مع هذا الدور

الذي قامت به وتقوم به تلك المنظمة في تمكين اليهود في منطقتنا الإسلامية؛ بحيث

أصبحت هي الأخرى حبلاً آخر مساعداً للخروج اليهودي الاستثنائي من خيمة الذل

الأبدي، وإن بدا للناس خلاف ذلك.

الأمم المتحدة.. وإرادة الكبار:

لا توجد إرادة مستقلة باسم (الأمم المتحدة) ولكن هذه المنظمة الدولية منذ

نشأت لا تعكس إلا إرادة القوى العالمية المتنفذة في تحديد العلاقات الدولية، وإن

كان لها سلطة فإنها موجهة من تلك القوى وليست نابعة من نظمها أو ميثاقها، ولذلك

فإنه فيما يتعلق بقضية فلسطين جرى فرض إرادة الدول الكبرى على معالجة الأمم

المتحدة لها، ولم تكن هذه المعالجة سوى تثبيت للخطط المسبقة والمتفق عليها من

تلك الدول؛ فقبل أن يتم إعلان قيام دولة اليهود مهدت الأمم المتحدة لقيامها بصدور

قرار الجمعية العامة التابعة لها في ٢٩ نوفمبر ١٩٤٧م برقم ١٨١، وهو القرار

الذي أوصى بتقسيم فلسطين بين اليهود وعرب فلسطين بنسبة ٥١% إلى ٤٩%.

ولم يضيِّع اليهود الفرصة، فراحوا يتسابقون لاستكمال اللمسات الأخيرة للدولة التي

قررتها لهم (الشرعية الدولية) في الأرض التي اغتصبوها بالاحتيال والإرهاب.

وقرار التقسيم هذا هو الذي رفضته الدول العربية وقت صدوره، وهو نفسه

الذي يمثل الآن أقصى ما يحلمون بتحقيقه لإعلان الدولة الفلسطينية بعد أن اجتاح

اليهود في حروب تالية بقية فلسطين التي تسمى حتى الآن (الأراضي المحتلة) !

وقد أعلنت الأمم المتحدة قبول دولة (إسرائيل) عضواً فيها بعد عام من

إعلان ميثاقها، ولم يكن هناك بالطبع وجود لدولة أخرى على الشطر الثاني من

فلسطين، فتعاملت الأمم المتحدة مع قضية الشعب الفلسطيني على أنها مجرد قضية

(لاجئين) واكتفت بتشكيل وكالة إغاثة دولية لهم، وظلت القضية تعامل داخل أروقة

الأمم المتحدة على هذا الأساس مدة عشرين عاماً في ظل إصرار إسرائيلي على عدم

عودة أي لاجئ إلى أرضه، وظل الأمر على ذلك حتى حدثت حرب (النكسة)

١٩٦٧م، فأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة [٣] عدة قرارات تؤكد فيها حق

الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ومن ذلك ما صدر في ١٠-١٢-١٩٦٩م،

حيث وصف القرار حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بأنه غير قابل

للتصرف.

وعندما أعلن المجلس الوطني الفلسطيني قيام دولة فلسطين في نوفمبر ١٩٨٨ م ... مستثمراً نتائج انتفاضة الحجارة، اعترفت الجمعية العامة بهذا القرار، ولكن

مجلس الأمن الذي يفترض أنه جهة تنفيذية ظل متعاجزاً عن اتخاذ أي موقف عملي

لتنفيذ قراراته فضلاً عن قرارات الجمعية العامة بما في ذلك القرار ٢٤٢ الداعي

إلى انسحاب (إسرائيل) من الأراضي التي احتلتها في عام ١٩٦٧م، واكتفى هذا

المجلس بإصدار قرارات الإدانة والشجب لممارسات الدولة اليهودية المتصادمة مع

القرارات والمواثيق الدولية، تلك القرارات التي اتخذ الكيان اليهودي منها موقفاً

واحداً لا يتغير ولا يتبدل وهو: التعالي والازدراء، أو على الأقل التجاهل وعدم

المبالاة؛ ففي تحدٍّ ظاهر تجاهلت (إسرائيل) نحو خمسة وأربعين قراراً دولياً

بالإدانة أو الشجب أو الاستنكار، بين أعوام ١٩٥٣م إلى ١٩٩٥م، واستخفت

وسخرت من نحو خمسة وثلاثين مطلباً دولياً ومناشدة في تلك المدة.

وسأضرب مثالاً بقضية واحدة ضمن قضايا عديدة صدرت بشأنها القرارات

الدولية وهي قضية القدس؛ فقد صدرت بشأنها قرارات متعددة لم تنفذ (إسرائيل)

واحداً منها؛ ففي عام ١٩٥٨م صدر القرار (١٢٧) يطالب (إسرائيل) بأن توقف

فوراً اعتبار القدس منطقة نفوذ إسرائيلية، ولكنها لم تذعن، وفي عام ١٩٦٨م

صدر القرار ٢٥٠ يدعوها إلى عدم إقامة عروض عسكرية فيها، فلم ترعوِ،

وصدر بعد ذلك مباشرة قرار بالإدانة لرفضها الإذعان فلم تأبه به، وفي القرار

٢٥٢- ١٩٦٨م، طالبت المنظمة الدولية (إسرائيل) بالعدول عن قرار اتخاذ

القدس عاصمة موحدة لها، فرفضت القرار، ثم صدر القرار ٢٦٧ لعام ١٩٦٩م

يطالبها بإيقاف عمليات تغيير معالم القدس، فلم تُلق دولة اليهود له بالاً، ثم أتبعته

المنظمة الدولية بقرار آخر برقم (٢٧١- ١٩٦٩م) يدين عدم الإذعان، ويكرر

المطالبة بإيقاف تهويد القدس، ولكنها لم تلتفت إليه أيضاً، وبعد ذلك بعامين صدر

القرار (٢٩٨- ١٩٧١م) يكرر الإدانة والمطالبة بشأن قضية القدس، ولكنه لحق بما

سبق من التجاهل الذي استمر طيلة عقد السبعينيات وجاء عقد الثمانينيات، فصدر

القرار (٤٧٦-١٩٨٠م) مطالباً حكومة اليهود بإلغاء خطواتها المتخذة بشأن تهويد

القدس بعد أن اعتبرتها الأمم المتحدة لاغية، ولكن أحداً من المسؤولين الإسرائيليين

لم يُصْغِ لهذا القرار، بل ردت عليه (إسرائيل) بأن أعلنت في قانونها الأساس أن

القدس عاصمة موحدة وأبدية لدولة (إسرائيل) مما جعل الأمم المتحدة تصدر قراراً

آخر هو القرار (٤٧٨) لعام ١٩٨٠م، تستنكر فيه بشدة عناد (إسرائيل) في تنفيذ

القرارات الدولية السابقة كلها!

وتتكرر القضية طيلة عقد الثمانينيات والتسعينيات، بشكل يصور المنظمة

العالمية بصورة هزلية وهزيلة؛ إذ إنها تطالب العالم كله باحترام (الشرعية الدولية)

والخضوع لقراراتها، وتسارع لفرض ذلك.

العقوبات وضرب الحصار، وحشد القوى الدولية ضد كل من يخرج عن

شرعيتها، باستثناء دولة واحدة، لم يصدر بشأنها إجراء عملي واحد لردعها هي

دولة (إسرائيل) ، ويحدث هذا كله تحت سمع وبصر الدول الكبرى التي ما كان

لدولة اليهود أن تتصرف على هذا النحو إلا بإغماض منها في الظاهر وتشجيع في

الباطن.

ولهذا كله؛ فإن من البلاهة والبلادة، بل من الحمق والغباء أن يُظن أن الذين

صنعوا لليهود دولة في عقر ديارنا، ومكنوهم من التفوق على مجموع قوتنا

وجيوشنا يمكن لهم في يوم من الأيام أن يقفوا معنا ضدهم أو يمكنونا من صدهم أو

إضعافهم، هيهات هيهات؛ فالله - تعالى - يقول: [والذين كفروا بعضهم أولياء

بعض] [الأنفال: ٧٣] ، والعجيب أن كثيراً من العرب يتصورون أنه لا حل

للأزمة مع اليهود إلا بكسب صداقة (أصدقاء اليهود) والمراهنة على (الضغوط)

التي تمارسها ضدهم الدول الكبرى والمنظمات الدولية، وهذا وهم آخر، فالله -

تعالى - يقول: [يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم

أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين

في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي

بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين]

[المائدة: ٥١، ٥٢] .

فاللهم ائت بالفتح أو أمرٍ من عندك ... حتى تمكن للمؤمنين وتوهن كيد

الكافرين.. آمين.


(١) رواه أبو داود، ح/ ٣٠٠٣، وأحمد، ح/ ٤٧٦٥.
(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك، ك الإيمان، ١/٦٢، وقال صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(٣) الجمعية العامة للأمم المتحدة تمثل مجموع أعضاء المنظمة الدولية، أما مجلس الأمن، فتتحكم فيه فقط الدول التي تتمتع بنقض الفيتو، ولا تملك الجمعية العامة إلزام مجلس الأمن بشئ من قرارتها.