بأقلام القراء
[أمانة الله الغالية]
محمد أبو زيد
لقد كانت الخلافة من الأمور العظيمة الجليلة، حيث خلق الله الأرض مكاناً لها
وأمر الإنسان وأهبطه إليها ليقوم بهذا الشأن الجليل ويحمل هذه الأمانة الغالية على
أسس من المنهج الإلهي المعصوم. قال تعالى: [وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إنِّي جَاعِلٌ
فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً] [البقرة: ٣٠] ، وكانت تعتور الأرض جولات الإيمان والكفر،
وكان الله سبحانه كلما انحرف الناس بهذه الخلافة عن نهجه النزيه القويم يرسل
الأنبياء ليعيدوا إلهيته على أرضه كما هي في سمائه، [وهُوَ الَذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ
وفِي الأَرْضِ إلَهٌ] [الزخرف: ٨٤] ، وهذه سنة الله في خلقه، كلما حادوا عن دينه
ومنهج خلافته المراد من خلقهم وأمسى الحق غريباً معذباً على الأرض هبّت غارة
الله مسرعة تلقف الكفر من جذوره لتنصر الحق المستضعف وأهله المستذلين بما
صبروا وتبرَّؤوا من الشرك وأهله.
وهاهو الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- بعثه الله بهذه المهمة بعد أن
محيت معالم خلافة التوحيد والعبودية لله وعاد الناس يستعبد بعضهم بعضاً.. يسنون
قوانين، ويضعون شرائع ما أنزل الله بها من سلطان.. وفي هذا الوسط البئيس
بدأت دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تصارع أمواج الكفر العاتي والإلحاد
السافر والساخر من كل فضيلة.
وعانى المؤمنون في ذلك الحين بحراً من الذل والهوان، وذاقوا أمرَّ ألوان
العذاب، ومع هذا ثبت المؤمنون على عقيدتهم وبقيت عزتهم بدينهم وثقتهم بوعد
ربهم.
وتبقى المحن بازديادٍ حتى لا يثبت على هذا المنهج إلا العصبة المؤمنة
المخلصة، التي لم تتخذ بطانة من دونها ولا ولياً غير إلهها.. فتصوغ المحن هذه
العصبة في قالب الرجولة لتزيدها صلابة وصبراً وضبطاً للنفس وزجراً لها عن أي
محاولة لتبرير المداهنة للباطل أو التنازل عن أي صغيرة من الهدف والمنهج، أو
الرضى بجزء من الدين عن كله.. عندئذ تكون الجماعة المؤمنة أهلاً لحمل أمانة
الله الغالية واستلام الخلافة في الأرض، فيأذن الله لها بالتمكين لتمثل الصورة
الحقيقية للخلافة التي يريدها الله سبحانه.
لقد أرادت قريش بعد موجتي التكذيب والعناد ثم التعذيب، أرادت أن تنظر
هل وصلت ضرباتها لداخل العصبة المؤمنة وهزت قلوب أفرادها أم لا؟ أو لعل
قائدها يترك هذا الهدف الصعب والطريق الشاق الشائك المحفوف بالمكاره، ويقبل
بعروض منحطة كزوجة جميلة ومال وفير ومُلك علماني عظيم! وبالتالي تنتهي
المعركة من الجولة الأولى، ولا تكون العصبة المؤمنة أهلاً لاستلام الأمانة
والمحافظة على طهارتها ونزاهتها المرهفة من نجس المشركين، وتثبت أنها دون
مرحلة التمكين في الأرض وعاجزة عن إعطاء الصورة الحقيقية والمرادة للخلافة
بمنهجها الإلهي وحاكميتها الواحدة. لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثبت
ورفض مداهنة الطاغوت أو الركون له، ولم يطأطىء رأسه لتلك الإغراءات
المنحدرة، ولم يقبل منهم الملك أو الوزارة ثم يدعو إلى الله من خلاله.. لأن
الخلاف مع الطاغوت جذري ولا تصلح معه الحلول الترقيعية التي عن طريقها
تشترى الدعوات وتدفن في مهد طفولتها بعيدة عن أهدافها التي قامت من أجلها.
وقد خاض في هذا المعترك العفن كثير من أهل هذا الزمان، فوقعوا بأحابيل
الطواغيت، وخسروا المعركة من الجولة الأولى، وهي فترة الاستضعاف والابتلاء
للتأهيل لاستلام أمانة الله الغالية.
وهكذا عرف النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الكرام قيمة هذه الدولة
وصبروا لها، ولم يهنوا أو يستكينوا أو يضعفوا، ولم يستعجلوا النصر بطلبه من
طاغوت على طاغوت، فلم يستعينوا بغير الله؛ فكانوا أهلاً للتمكين، وأورثهم الله
أرضه في المدينة ليقيموا فيها دولة الخلافة والنبوة، فأبدلهم الله بعد الضعف قوة،
وبعد المهانة عزة.. وبعد الخوف أمناً، بما صبروا على ولائهم لربهم وتبرئهم من
الكافرين. قال تعالى: [وعَدَ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ
فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ولَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَذِي ارْتَضَى لَهُمْ
ولَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً] [النور: ٥٥] .
وبقي المسلمون في هذا التمكين والتأييد من الله مدة بقائهم عادلين في الأرض
ممثلين للصورة الصحيحة للخلافة التي أرادها الله على أرضه، عارفين لقيمة هذه
الدولة، حريصين على حمايتها والذب عنها.
وهكذا تمر الأيام على المسلمين متحلِّين بهذا التمكين، إلى أن بدأت قيمة
الخلافة والدولة تتضائل في أذهانهم لموت الذين عانوا من أجلها وذاقوا مرارة
التعذيب والصبر والقهر والذل حتى ظفروا بها.. مات الذين أشربوا العقيدة
والمفاصلة والتميَّز في قلوبهم.. وبدأ تأييد الله لهذه الدولة يبتعد عنها بقدر ما تبتعد
هي عن تمثيل الصورة الصحيحة للخلافة بمنهجها القويم وشريعتها العُليا، إلى أن
زالت أهليتهم للتمكين في الأرض، فأخذ الله أمانته الغالية -المتمثلة بالخلافة-
ليستدير التاريخ من جديد، وتبدأ الأمة الإسلامية كما بدأ نبيها الكريم -صلى الله
عليه وسلم- وصحبه، تحاول وتنافح لتعود المعركة من جولتها الأولى، جولة
سيطرة الطاغوت الحاقد على رقاب المسلمين بكل ما تحويه من استضعاف وإذلال
وتعذيب وتنكيل؛ ليجتازوا مرحلة التأهيل الصعبة كما اجتازها سلفهم.
وهذا حال الأمة الآن، تلطمها أمواج الكفر في كل مكان، فتقتل من شبابها،
وتستحيي من نسائها، وتضع الآلاف في السجون، وتُخرج المتقين من أرضهم
وديارهم لتضيق عليهم الواسع وتضطرهم للكفر أو المداهنة، وليضعوا المسلمين
على مفرق طريق مع عقيدتهم وأهدافهم.. وليغروهم بعد هذه اللطمات كما حاولوا
أن يغروا نبيهم من قبل.. لكن هذا كله سيقوي عود الجماعة المسلمة ويجعلها بعد
هذا الصبر والثبات مع كمال المفاصلة أهلاً لأن يمكِّنها الله في الأرض كما مكَّن
نبيها بعد أن تثبت جدارتها على رعاية أمانة الله الغالية ...