كتاب في مقال
الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن
عرض وتقديم: محمد عبد الرحمن آل الشيخ
الاهتمام بالقرآن وتفسيره مظهر من أهم مظاهر الاهتمام بالإسلام، ومنذ
عصر الإسلام الأول ومكتبة التفسير تزداد غنى وتضخماً، حتى أصبح القارئ اليوم
يجد نفسه في حيرة أمام هذه الكتب ومناهجهاً، فلا يكاد يسلم له اختيار، ولا تستقيم
له قراءة، إذا لم يبذل جهداً كبيراً في اختيار الكتاب والكاتب، من هذا المنطلق
عنى جماعة من علماء المسلمين بأصول التفسير ومنهجه، فكتبوا -عن التفسير
وتاريخه ومراحل تطوره، وكتبوا عن المفسرين واتجاهاتهم وغاياتهم، ليخلصوا
بعد ذلك إلى منهج واضح في التعامل مع المفسرين في كتبهم، تعين القارئ المسلم
في تناوله لكتب التفسير، وتجعل أمامه معايير واضحة في القبول والرد لأي فكرة
أو عبارة.
ويعد الشيخ الدكتور محمد حسين الذهبي - رحمه الله - واحداً من علماء
المسلمين الذين تخصصوا في التفسير وعلمه، فعاش مع الأولين والآخرين من
خلال قراءته لكتبهم المطبوعة والمخطوطة، ويكفي شاهداً على مكانته في هذا
المجال كتابه القيم (التفسير والمفسرون) ، غير أن للشيخ كتيباً آخر - وإن كان
جزء كبير منه مأخوذاً من الكتاب الأول - يقع في حوالى مائة صفحة تحت عنوان: (الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن دوافعها ودفعها) ، ومع صغر حجم الكتاب
إلا أنه وفي الموضوع توفية جيدة، وأبان فيه كثيراً من أحوال الذين دخلوا عالم
التفسير ولكن لم تسلم مؤلفاتهم من انحرافات وأخطاء، ولا نعني بها الأخطاء
الفردية الجانبية، بل المنهجي منها، حيث يلتزم المؤلف في تفسيره منهجاً غير
سليم في تناول النصوص القرآنية يخالف أهل السنة.
والكتاب يقع في مقدمة وتسع مقالات، تكلم في المقدمة عن تدرج التفسير،
وعن مبدأ ظهور الانحراف، ثم في المقالات التسع: ذكر أحوال تسعة اتجاهات
تناولت القرآن تناولاً فيه انحراف في جانب من جوانب منهجها.
المقدمة:
تكلمت المقدمة أولاً عن: تدرج التفسير، فتكلم المؤلف في البداية عن تفسير
النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن للصحابة، وذكر خلاف العلماء حول: هل
فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن جميعه للصحابة أم بعضه؟ واختار: أن
النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما فسر معظم القرآن، وأن هناك أشياء لم يفسرها
للصحابة مثل ما استأثر الله بعلمه، أو ما تعرفه العرب بلغتها، أو ما يعرفه المرء
من القرآن بداهة، أما الأمور التي هي من اختصاص العلماء فهي التي كانت مجال
التفسير كبيان المجمل، وتخصيص العام وتقييد المطلق ... وغير ذلك مما خفي
معناه والتبس المراد به.
ثم جاء بعد ذلك عصر التابعين الذين أخذوا التفسير مشافهة من الصحابة،
وزادوا على ذلك باجتهاداتهم بمقدار ما زاد من الغموض الذي كان يتزايد كلما بعُد
الناس عن عصر النبي -صلى الله عليه وسلم. وهكذا استمر تنقل التفسير بين
الطبقات، يزداد الناس بعداً عن عصر النبي -صلى الله عليه وسلم- وتزداد
اجتهادات العلماء لسد تلك الفجوة، حتى ظهر عصر التدوين.
ويقسم المؤلف مراحل التفسير منذ عصر التدوين إلى يومنا هذا إلى أربع
مراحل؛ فيجعل:
الأولى: يوم كان التفسير جزءاً من كتب الحديث، وكان التفسير بالمأثور
يروى بأسانيده، وأحياناً يفرد له باب داخل كتب الحديث.
والمرحلة الثانية: يوم انفصل التفسير في كتبه المستقلة، ومن أعلام هذه
المرحلة - عند المؤلف -: ابن ماجه (ت:٢٣٧هـ) وابن جرير الطبري (ت:
٣١٠هـ) وغيرهما، وقد عدّ الكاتب هاتين المرحلتين من المراحل الخيِّرة في ... تاريخ تدوين التفسير بالمأثور.
ولكن المرحلة الثالثة: لم تكن كسابقتيها، حيث شهدت ظهور تفاسير لم تعتن
كثيراً بالأسانيد وإثباتها، بل عمدت إلى اختصارها وذكر أقوال السلف من غير سند، ومأخذ الكاتب على هذه المرحلة ننقله بعبارته؛ حيث يقول: (فدخل الوضع في
التفسير، والتبس الصحيح بالعليل، وكان هذا مبدأ ظهور الوضع في التفسير.
ثم تأتي المرحلة الرابعة: وهي أوسع المراحل حيث امتدت من العصر
العباسي إلى هذا اليوم، يقول- رحمه الله-: فبعد أن كان التفسير مقصوراً على
رواية ما نقل عن سلف هذه الأمة، وجدناه يتجاوز هذه الخطوة إلى تدوين تفاسير
اختلط فيها الفهم العقلي بالتفسير النقلي، وكان ذلك على تدرج ملحوظ، فبدأ أولاً
على هيئة محاولات فهم شخصي وترجيح بعض الأقوال على بعض، وكان هذا
أمراً مقبولاً مادام يرجع الجانب العقلي منه إلى حدود اللغة ودلالة كلمات القرآن.
ولكن جانب الفهم العقلي أخذ يخرج عن إطاره المقبول مع مرور الزمن، إلى أن
وصل إلى مرحلة قال عنها: حتى وُجد من كتب التفسير ما يجمع أشياء كثيرة لا
تكاد تتصل بالتفسير إلا عن بُعد عظيم.
واشتملت المقدمة كذلك على مبحث في: مبدأ ظهور تلك الاتجاهات المنحرفة، مع دراسة تحليلية موجزة لأسباب ذلك.
ليس من الصعب على من يقرأ كلام المؤلف أن يخلص إلى أنه يرجع أسباب
تلك الانحرافات إلى عاملين: أولهما: حذف الأسانيد، والعامل الآخر: اتجاه أهل
الرأي في تفسير القرآن، حيث يقول: ولاشك في أن انتهاء التفسير بالرأي إلى
إخضاعه لميولٍ شخصية ومذاهب عقدية وغير عقدية فتح على المسلمين باب شر
عظيم. ولهذا العامل عنده سببان:
أولهما: أن يعتقد المفسر معنى من المعاني، ثم يريد أن يحمل ألفاظ القرآن
على ذلك المعنى قسراً، وإن كان ما قصد إليه معنى حساً، ولكن لا علاقة له بالآية، كمن فسر قوله تعالى: [ولَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن
دِيَارِكُم] [النساء / ٦٦] ، بأن قتل النفس هنا: مخالفتها، والخروج من الديار هو: إخراج حب الدنيا من القلوب. وقد يكون المعنى الذي قصد إليه خطأ أصلاً، ومع
هذا يريد أن يحمل كلام الله عليه، ومثل على ذلك بمن فسر قوله تعالى: [واذْكُرِ
اسْمَ رَبِّكَ وتَبَتَّلْ إلَيْهِ تَبْتِيلاً] [المزمل /٨] اذكر اسم ربك الذي هو أنت، أي:
اعرف نفسك ولا تنسها فينسك الله.
والسبب الثاني: أن يقف المفسر مع ظاهر اللفظ، دون نظر في حال القوم
الذين نزل فيهم القرآن، أو سبب نزول الآية.
وبعد هذه المقدمة، بدأ في تناول الاتجاهات المنحرفة وهي:
١ - اتجاه الإخباريين والقصاص.
٢ - اتجاه أصحاب المذاهب النحوية.
٣ - اتجاه من يجهل قواعد النحو.
٤ - اتجاه المعتزلة.
٥ - اتجاه الشيعة.
٦ -- اتجاه الخوارج.
٧ - اتجاه الصوفية.
٨ - اتجاه أصحاب التفسير العلمي.
٩ - اتجاه مدعي التجديد.
وقد استغرق الكلام على هذه الاتجاهات بقية الكتاب، وسنقتصر في هذا
المقال على ذكر اتجاهين اثنين، أحدهما قديم والآخر حديث، هما: الشيعة ومدعي
التجديد.
وقد نهج المؤلف في دراسته لهذه الاتجاهات نهجاً تحليلاً موفقاً، فبدأ وقدم لكل
اتجاه بمقدمة موجزة تكلم فيها عن مذهب القوم وبعض عقائدهم التي تخالف عقائد
أهل السنة، ثم أخذ أمثلة من تفاسيرهم، وذكر انحرافاتهم فيها، وكيف أوّلوا آيات
القرآن لتوافق آراءهم ومذاهبهم، ويتبع ذلك غالباً بالرد على ادعاءاتهم، وإبطال
تأويلاتهم.
الاتجاهات المنحرفة في تفسير الشيعة:
بدأ الحديث عن الشيعة بذكر أقسامهم من جهة غلوهم في أمير المؤمنين علي
بن أبى طالب- رضي الله عنه-، ولخص بعد ذلك عقائد الإمامية الإثني عشرية
القائلين بإمامة اثني عشر إماماً، فقال: وللإمامية الإثني عشرية تعاليم، أشهرها:
العصمة والمهدية والرجعة والتقية. وأتبع ذلك بشرح موجز لكل عقيدة من هذه
العقائد.
وتكلم بعد ذلك عن تفاسير القوم، وضرب أمثلة لكيفية اعتسافهم لآيات القرآن
الكريم لتوافق عقائدهم، وحسبنا أن نورد هنا مثالاً واحداً مما ورد في الكتاب، فقد
نقل عن البحراني في تفسير للآيتين ٨، ٩ من سورة الذاريات: [إنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ] أنه قال: يروى عن أبي جعفر أنه قال في تفسيرها: اختلف في ولاية هذه الأمة، فمن استقام على ولاية عليِّ دخل الجنة، ومن خالف
ولاية عليِّ دخل النار، وأما قوله: [يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ] قال: يعني علياً، ومن
أفك عن ولايته أفك عن الجنة. ثم يرد المؤلف على هذا الانحراف رداً منهجياً جيداً
حيث يقول: ولسنا بحاجة إلى الإطالة في إبطال هذا الاتجاه، بعدما أثبت لنا علماء
الحديث ونقاده أن كل الروايات في ولاية علي ليس لها أساس من الصحة، وأنها
من وضع الشيعة أنفسهم ليروجوا بها مذهبهم في الإمامة والأئمة.
القارئ لهذا الفصل من الكتاب يصل في نهايته إلى حيث أراد الكاتب: من أن
تفاسير القوم لم توضع بتجرد وإخلاص، ولا يمكن اعتبارها تفاسير للقرآن بقدر ما
يمكن اعتبارها قنوات لصب أفكار الشيعة وعقائدهم من خلالها.
الاتجاهات المنحرفة في التفسير لبعض مدعي التجديد:
إذا كان الكاتب قد التزم الاتزان في العبارة، والهدوء في المناقشة والرد -
وهو خُلق جيد -، فإنه هنا وإن لم يخرج عن هذا الإطار إلا أنه استخدم عباراتٍ
أشد وأسلوباً أقوى مع أصحاب هذا الاتجاه، ولعل ذلك عائد إلى أنه عدّ بعضهم ممن
يريد الكيد للإسلام وأهله، وبعضهم ممن أقحم نفسه في هذا المجال وليس من
أصحابه، فنجد المؤلف في هذا الفصل بعد أن ذكر أن الإسلام بُلي بقوم كادوا له،
وعملوا على هدمه، نراه يقول بعد ذلك: مني الإسلام بهذا من أيامه الأولى، ومني
بمثل هذا في أحدث عصوره، فظهر في هذا القرن أشخاص يتأولون القرآن على
غير تأويله، ويلوونه إلى ما يوافق شهواتهم، ويقضي حاجات نفوسهم ... فمنهم
من حسب أن التجديد ولو بتحريف كتاب الله تعالى سبب لظهوره وشهرته في
المحيط العلمي، فذهب يفسر كتاب الله تفسيراً لا تقره لغة القرآن، ولا يتفق مع
قواعد الدين العامة، ومنهم من تلقى من العلم حظاً يسيراً لا يرقى به إلى مستوى
العلماء، ولكنه اغتر بما لديه فحسب أنه بلغ مبلغ الراسخين في العلم، ونسي أنه
قل في علم اللغة نصيبه، وخف في علم الشريعة وزنه، ... فأخذ يهذي بأفكار
فاسدة تتنافى مع ما قرره علماء اللغة وأئمة الدين.
بهذا الأسلوب وبهذه الروح تناول الكاتب أصحاب هذا الاتجاه.
ومن أصحاب هذا المنهج: صاحب كتاب (الهداية والعرفان في تفسير القرآن
بالقرآن) ، وقد ثار على هذا الكتاب علماء الأزهر حتى صودر ومنع، فقد تسلط
صاحب هذا التفسير على معجزات الأنبياء وجردها من معانيها الإعجازية، فلا
عيسى عنده ينفخ في الطين فيصير طيراً بإذن الله، ولا هو يبرئ الأكمه والأبرص
ولا يحيي الموتى بإذن الله. ومما نقله عنه المؤلف في تفسيره لقوله تعالى ... [وسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ والطَّيْرَ وكُنَّا فَاعِلِينَ] [الأنبياء: ٧٩] ، يقول: ... [يُسَبِّحْنَ] يعبر عما تظهره الجبال من المعادن التي كان يسخرها داود في صناعته
الحربية، [والطَّيْرَ] يطلق على كل ذي جناح، وكل سريع السير من الخيل
والقطارات البخارية والطيارات الهوائية، وفسر قوله تعالى: [ولِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ
عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا] [الأنبياء: ٨١] يقول: ... [تَجْرِي بِأَمْرِهِ] الآن تجري بأمر الدول الأوربية وإشاراتها في التلغراف والتلفونات
الهوائية.
فليس بعد ذلك من عجب أن يقسو الذهبي -رحمه الله-على هذا المفسر ويقول
عنه: وهذا بلا شك خروج صريح عن مدلولات النصوص القرآنية وإلحاد في آيات
الله سبحانه وتعالى.
وبعد، فهذا هو الكتاب كما قرأته، لا يخلو كل قارئ له من أن يصل في
نهايته إلى معرفة الانحرافات التي قد ترد على كتب التفسير وأسبابها، ولا يخلو
القارئ كذلك أن يستنتج من إجمال الكتاب المنهج الصحيح في التفسير، الذي به
نستطيع قبول قول المفسر أو رده، ولم يتوسع - رحمه الله - في ذلك، ولم
يعرضه عرضاً مستقلاً، لأن عنوان الكتاب مقصور على الاتجاهات المنحرفة،
ولكن يمكن أن نستنتج جانباً من ذلك من خلال كلامه وردوده، فأهم مقومات المنهج
الصحيح فيما ذكر: الاهتمام بالأسانيد وتمحيصها ليعلم الصحيح من الدخيل،
ويضاف إلى ذلك التجرد في تناول الآيات القرآنية دون إخضاعها لمؤثرات
ومقررات سابقة.