الورقة الأخيرة
لا تحقرن من المعروف شيئاً
بقلم:أيمن بن سعيد
دخلت عليه، فهش في وجهي وهششت، عانقني بحرارة، وقال لي: الحمد
لله ... مَنّ الله عليّ بالهداية، وصرت برحمته سبحانه مسلماً بعد أن كنت نصرانياً، وأصبحت أعمل في حقل الدعوة إلى الله في أوساط أقاربي وزملائي بعد أن
تعلمت شيئاً من أمر ديني، وما زلت أسعى إلى المزيد.
قلت له: لله الفضل والمنة، ولكن حدثني كيف أسلمت؟
قال: قصتي عجيبة: كنت طالباً في المدرسة الثانوية الكاثولكية، فوجدت في
مكتبتها كتاب ترجمة معاني القرآن الكريم باللغة السواحلية؛ ولست أدري من
وضعه دون أن يعلم القس عن ذلك شيئاً؛ فتعجبت من وجوده، ودعاني فضولي
إلى تصفحه مبتدئاً بقراءة المقدمة ومعاني سورة الفاتحة، ومطلع سورة البقرة،
فأدهشني وضوح الفكرة وعمقها، فأغلقت الكتاب، والتفت يميناً ويساراً، وعلى
حينَ غفلة من الحضور أخذت الكتاب وخرجت إلى غرفتي في سكن الثانوية
الداخلي.
حدثت زملائي الستة بما قرأت، وأريتهم الكتاب، فعجبوا، ومكثنا مدة
شهرين نقرأ فيه، ونتناقش إلى أن أتممنا قراءة معاني سورة البقرة.
عند ذلك قررنا جميعاً الدخول في الإسلام، فدخلنا وواجهتنا محن وإحن؛ إذ
طُرِدْتُ من المدرسة والمنزل، وأصبحت أواجه العقبات والشدائد الواحدة تلو
الأخرى، ولكنني كنت مقتنعاً بالإسلام ديناً؛ فعاهدت ربي على اشتراء الآخرة
بالدنيا، وأسأله سبحانه أن يثبتني على ذلك.
انتهى حديث صاحبي فتذكرت عندها قوله في الحديث: عن أبي ذر رضي
الله عنه: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) [١]
وجلست أتأمل واقع فئتين من الدعاة:
فئة تبذر الخير، وفئة تحجم عن ولوج طرق كثيرة من أبواب الخير وهي
قادرة على ذلك؛ بحجة أنه لا فائدة تشاهدها من طَرْق تلك الأبواب وولوجها، أو
أن فائدتها يسيرة وأثرها محدود لا يستحق البذل والعطاء.
وأدركت عندها من قصة هذا الأخ خطأ الفئة الأخيرة في حق نفسها وأمتها؛
لأنها تستوعب أن مهمة الرسل عليهم السلام والدعاة تبع لهم استفراغ الوسع في
البلاغ، والبلاغ وحده، كما قال عز وجل: [مَا عَلَى الرَّسُولِ إلاَّ البَلاغُ]
[المائدة: ٩٩] ، أما النتائج وتحقيق المكاسب فأمره إلى الله عز وجل كما قال مخاطباً نبيه: [إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ] [القصص: ٥٦] .
ولا يعني ذلك دعوة إلى ترك التخطيط للدعوة وعدم أهمية ترتيب الأولويات؛
فذاك أمر متحتم على الدعاة والمصلحين.
كما لا يعني ذلك دعوة إلى عدم التخصص في بعض الأعمال الدعوية التي
تشعبت واتسعت وصار واجباً على الدعاة فعلُ ذلك لإسقاط الواجب الكفائي على
الأمة في القيام بها.
لكن المراد هنا هو التنبيه على أنه لا يسوغ أن نتخذ هذه الوسائل ذرائع لعدم
المسابقة في الخيرات؛ فما أكثر ما يجد الداعية المنظم لوقته وجهده، المرتب
لأولوياته، المحدد لمسؤولياته الوقت والجهد لبذر خيرٍ هنا أو هناك، والسعي في
حاجة هذا أو ذاك، دون أن يؤثر ذلك على ما هو عليه من أبواب الخير. ... ...
فيا ترى: كم خسرت الدعوة والأمة وما زالت تخسر بسبب هذا الإحجام من
المكاسب والمواقع التي يمكن أن تتحقق لو أن كل داعية مخلص غيور امتثل قوله:
(لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) ؟
(١) أخرجه مسلم في صحيحه (١/٢٠٢٦، ح٢٦٢٦) .