للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[لا صوت يعلو فوق الحوار]

أ. د. محمد يحيى [*]

فُرِضَت على ساحة الفكر والفعل الإسلامي في بعض البلدان الغربية في

السنوات الأخيرة قضية أسماها أصحابها: «الحوار» من حيث إنه وصف عامٌّ،

وتراوحت التسميات الفرعية من حوار الحضارات إلى حوار الثقافات، ومن الحوار

مع الآخر إلى حوار الأديان. وتحولت هذه القضية إلى أولوية مطلقة عند بعض

الشخصيات والمؤسسات تختفي إلى جانبها سائر أولويات الفكر والفعل الإسلامي

الأصلية والراسخة في الدعوة، وتعميق الهداية والمعرفة الإسلامية وتوسيعهما،

والتمكين للدين في دنيا الثقافة وحياة المجتمعات.

وشهدنا المؤتمرات والندوات والاجتماعات تتوالى وتتكاثر بسرعة غريبة على

كل المستويات وفي شتى البلدان تحت راية تلك القضية التي رفعت إلى مصاف

أوجب الواجبات على الأمة، وتابعنا بدهشة تحولت إلى ريبة وشكوكٍ النشاطَ

الدائب في إنشاء إدارات ودوائر ومنتديات الحوار هذا بأشكاله هنا وهناك وتولية

أمورها لشخصيات منهم من أفنى العمر في خدمة شتى المذاهب العلمانية، ومنهم

من لم يشتهر بشيء سوى بالعمالة لجهاز استخبارات أو آخر من دول الغرب، أو

بالتبعية لمؤسسة أو أخرى من مؤسسات الكنائس والدول الغربية.

ومع تواصل طرح أو فرض القضية وتأسيسها في هيئات وتجمعات تغيرت

لغة الخطاب بالتدريج لنصحو على لهجة أقل ما يقال فيها إنها غريبة حيث ينغمس

مشايخ للإسلام في الحديث عن تعاليم «الأديان» ولا يقولون الإسلام، وحيث

تتغير المفاهيم الشرعية وحتى العقدية بحجة كبرى هي عدم جرح حساسية الآخر،

أو عدم إغضاب أو إثارة الأطراف المشاركة في الحوار من الملل والنحل المتنوعة

وأبرزها إن لم يكن أوحدها مسيحية الغرب ويهودية إسرائيل.

ومع تراكم مظاهر تلك القضية صحا الناس على وضع غريب؛ فالدعوة إلى

الحوار بين الأديان والعقائد والثقافات والحضارات يفترض فيها (حسب مفهوم

«الحوار» ذاته) أن تدور في جو من الديمقراطية والحرية والشفافية والوضوح لا

أن تفرض فرضاً وبقوة سلطات الدول على طرف دون آخر. ولقد وصل الأمر إلى

حد أن من يريد أن يراجع المسألة وينقدها أو يبين خلفياتها يوصف ابتداءاً بأنه من

رافضي التعقل ومن أسرى الجمود، ومن دعاة الانغلاق والحروب والتوترات.

وأصبحت الصورة أن «الحوار» هو عقيدة أيديولوجية جديدة تفرضها بعض

الدول على مؤسساتها الدينية بالذات كما كانت تفرض عليهم في الماضي أن يتحدثوا

عن اشتراكية الإسلام أو تحبيذ الإسلام للقومية العربية، أو مباركة الإسلام لنهج

الحرية الاقتصادية الرأسمالية.

وهناك فارق جوهري بين «الحوار» بوصفه عملية تجرى لها ظروف

وشروط وسياقات معينة (أياً كانت، وأياً كانت الخلافات حولها) ، وبين «الحوار»

بوصفه مذهباً ومفهوماً جامداً يطرح على الناس من باب الفرض والتلقين، ويطلب

منهم الإذعان لمقتضياته وأوامره كما تحددها لهم وبشكل صارم ونهائي سلطات

سياسية (بل حتى أمنية) قاهرة. إن الحديث عن «الحوار» في هذه الحالة

(وهي مع الأسف الحالة الغالبة والسارية في العديد من الدول العربية) يصبح

ضرباً من السخرية الفاضحة، ولا نقول العبث الفكري اللا معقول.

والأدهى أن هذه القضية تدور كما يعرف ويعترف الجميع في سياقٍ عامٍّ شامل

أصبح يعرف في السنوات الأخيرة بأسماء متعددة من النظام العالمي الجديد إلى

العولمة، وما بينهما من مصطلحات أخرى كالعالم الواحد، والثورة المعلوماتية،

والتعددية الشاملة وما أشبه ذلك. وهذا السياق الشامل كما يعرف الجميع لا يعني إلا

فرض النمط الحضاري الغربي (بكل أبعاده الدينية والثقافية والقيمية والفكرية

والاجتماعية) على سائر أرجاء العالم والحضارات والثقافات الأخرى بعد إلباسه

بالباطل ثوب العمومية والعالمية، والشمول والصلاحية المطلقة لكل العصور

والأزمان. بل إن حديث هذا النظام الجديد عن التعددية يعني فقط التعددية المحكومة

والمضبوطة داخل إطار من الحضارة الغربية تذوب فيه التعددات بعد فترة

وتصطبغ بصبغته.

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف تتسق دعوة الحوار مع ما يعترف به

دعاتها في أنها تدور في ذلك السياق الخانق والحاكم؟ قد يقال إن الحوار ربما

يخفف من وطأة العولمة وضغوطها الجارفة ويوازنها ويعادلها ولا سيما في وجود

طرف آخر يواجه الطرف الغربي؛ لكن الممارسة الفعلية لمسألة الحوار تكذب هذا

القول؛ لأن هذه المسألة تحولت عند الطرف العربي الإسلامي (ولنقصر الحديث

هنا على الجانب الديني) إلى خليط عجيب يضم شتى النواحي إلا ما يمكن أن

يوصف بالحوار على الأقل حسب المفهوم الفلسفي أو حتى الدارج للكلمة. فالحوار

عند الغالبية من ممارسيه ودعاته أصبح يعني جلسات المجاملة والتودد للأطراف

الكنسية المشاركة معهم فيه، وبعض منهم يقول إن هدف الحوار هو تحسين صورة

الإسلام التي أصبحت سوداء في أوروبا (على حسب زعمهم) من جراء أفعال

المتطرفين المسلمين، وآخرون لا يرون في الحوار سوى أنه أداة ووسيلة لتجديد

الإسلام (مرة أخرى على حسب زعمهم) بالاحتكاك بالثقافات الغربية المتقدمة،

وبالفكر الديني الغربي (المسيحي أساساً) المستنير كما يرونه.

ومن الواضح أن كل هذه التصورات للحوار عند ممارسيه من الجانب

الإسلامي لا تفيد أكثر من التبعية والانهزامية أمام الجانب الحضاري الغربي (أي

نفس التوجه السائد في بعض الدوائر منذ ما يقارب القرن والنصف الآن) ، وهو ما

يعني أن الحوار وفق هذا التصور والممارسة والذي يدور في سياق العولمة الطاغي

يكرس تلك العولمة، ويوافقها، وييسر ويذلل تحقيق أغراضها، ولا يوازنها أو

يعادلها أو يخفف من وطأتها. وأن الحوار هنا يتحول إلى عملية تمكين وتغلغل

وتكريس لسيطرة الفكر؛ والحضارة الغربية تتستر وراء كلمة «الحوار»

بمضامينها البراقة، ووراء الإيجابية، وتتوسل بذلك إلى تسكين وتخدير الوعي

والحذر أو اليقظة الإسلامية التقليدية. والحوار هنا حسب مفهوم أصحابه أنفسهم

عن «تحسين الصورة» والتعلم من الغير والاندماج في «مسار الحضارة العالمية»

والانفتاح عليها والمشاركة فيها لا يعني أكثر من تطويع الإسلام لتصورات

ورؤى الحضارة الغربية التي يراها بعض من «الحواريين» غالبة وعالمية مما لا

يقدم بديلاً عن التوافق والتمشي معها، والتكيف والتغير مجاراة لها؛ حتى لو كان

هذا التغير والتعديل يمسُّ ثوابت الدين نفسه وتراثه وتاريخه بل هدفه وأولوياته.

قد يكون هذا هو المفهومَ الجديدَ للحوار؛ لكنه ليس ما تعارف الناس عليه

تحت مسمَّى: (الحوار) مما يعني أنَّا نواجَه بعملية خداعية من التمويه الفكري لا

تختلف في قليل أو كثير عما تعودنا عليه منذ عقود طويلة عندما درج سماسرة

التغريب والعلمنة على تسريب مذاهبهم وأفكارهم إلى داخل الجسد الإسلامي تحت

مسميات التحديث والعصرية، بل الاجتهاد الإسلامي نفسه، والتقدم والاستنارة

والعقلانية والإصلاح وما شابه ذلك، ولعل أهم ما يكشف حقيقة هذه الخدعة هو أن

الحوار عند الطرف الغربي وبالذات الكنسي الديني لا يلغي أولويات هذا الطرف في

طرح عقيدته والترويج لها (عملية التنصير مثلاً) وفي التمكين لمذاهبه وترسيخها

والعمل لها كما هي بلا تعديل ولا تكيف أو مجاراة مع الإسلام ولا غيره (باستثناء

عبارات للمجاملة تنتزع انتزاعاً وتقال بحساب دقيق) .

أما الطرف الإسلامي الممثل ببعض الرسميين في العادة فقد وصل الحد به في

بعض الدوائر إلى تحويل مسألة الحوار كما قلنا إلى الأولوية الطاغية على ما

عداها، والمهيمنة على الخطاب، والمعدلة للطرح الإسلامي نفسه على حساب

نشاطات الدعوة ذاتها، وهي أساس وجود تلك الدوائر ومسوِّغه. فالعملية قد

تحوَّلت عند هؤلاء إلى انجراف في تيار معين بل إلى جريان واسترسال مع الآخر

ينتفي معه كل حديث عن التوازن والمعادلة بل عن «ذات» تواجه آخر. ويصل

بنا هذا المفهوم أو تلك الممارسة «للحوار» إلى إلغاء مفهوم الحوار ذاته كما قلنا

وتحويله إلى الضد!


(*) أستاذ الأدب الإنجليزي، جامعة القاهرة.