[بعد اتهامه بالضلوع في المقاومة ضد العدو المحتل]
الأسير المحرر مهدي جعرور يروي تجربته الفظيعة داخل السجن
معتصم الميناوي
عكّر السجان صفو حياتهم.. جردهم من فكرهم وقدرتهم على الوقوف من جديد، سرق منهم إحساسهم الجميل بالوجود، علمهم فنون التعذيب بلا حدود، تفنن في تفجير آبار أحزانهم، ورغم هذا وذاك يخرج الأسرى من سجون الاحتلال الصهيوني رافعين رؤوسهم حاملين بين ثناياها قصصاً بطولية لأجيال وأجيال.
واليوم نقف مع قصة المحرَّر (مهدي زكي محمود جعرور) الذي استنشق عبير الحرية بعد أن حرم منها خمسة أعوام خلف قضبان أعنف احتلال عرفته البشرية.
وفي حوار خاص بمجلتنا مع هذا المحرر استطعنا التعرف على بعض من محطات حياته التي رواها لنا بفيض من الذكريات ودموع اغرورقت بها عيناه، وكادت تسيل على وجنتيه.
` وكانت البداية:
بدأ ضيفنا بسرد حكاية مشواره الجهادي حيث قال: «تربيت في كنف والديْن حنونين زرعا في قلبي حب الله ورسوله، وربياني فأحسنا تربيتي لأكون الشاب الصالح الذي ينفع دينه ووطنه، وكان ميلادي يوم ٦/١/١٩٧٣م في بيت متواضع يقع في إحدى الأراضي الزراعية، لكنه كان بفضل الله ـ تعالى ـ بمثابة المحضن الأول الذي انطلقت منه في صرح الدعوة إلى الله» .
ومضى يقول: «كانت مرحلة الثانوية قاسية بالنسبة لي؛ حيث بدأت الانتفاضة الأولى، وكنت قد شاركت فيها بنشاط ملحوظ، وخلال ذلك كنت ملتزماً مسجد اليرموك الذي كان له أكبر الأثر في صقل حياتي وشخصيتي؛ حيث تربيت على يد الشيخ سعيد صيام، والشيخ فايز المحلاوي ومجموعة من الإخوة العلماء، ومن هنا بدأ انتظامي بشكل رسمي في حركة حماس، وكان هذا عام ١٩٨٩م؛ لكني كنت مشاركاً في جميع فعاليات الانتفاضة من قذف الحجارة والكتابة على الجدران، ولكن مَنْ صقل شخصيتي القيادية والمنهج الدعوى الذي تسير عليه الحركة؟» .
` في صفوف حماس:
يقول المحرر مهدي جعرور: «انتميت إلى صفوف حركة المقاومة الإسلامية حماس، وكان عمري في ذلك الوقت ١٩عاماً؛ حيث أحببت حركة حماس حباً كبيراً ملأ عليَّ قلبي وعقلي وروحي» .
وتابع يقول: «وجدت فيها صفوة الرجال وأخيارهم، وشعرت أنهم أناس من أولياء الله الصالحين، فعملت معهم في مجال الدعوة الى الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كل الميادين، وبفضل الله استطعت بقوة الإيمان الانتماء إلى وحدة الصاعقة الإسلامية» .
وأكمل: «بعد أن أثبتُّ نفسي، وأصبحت عضواً نشيطاً بها كلفتني القيادة بأن أكون مسؤولاً عن مجموعتين في وحدة الصاعقة، بالإضافة إلى تولي مهام في جهاز الأحداث والأمن وجهاز القوة الضاربة للعملاء والمشبوهين وتجار المخدرات، وكانت مجموعتنا تسمى في ذلك الوقت: مجموعة الصاعقة الإسلامية» .
وأضاف: «بقيت أعمل في هذا المستوى حتى تاريخ ٨/٧/١٩٩٢م بعدها تم اعتقالي على يد قوات الاحتلال عن طريق وصول معلومات لهم بطبيعة عملي، وعلى إثرها تم اعتقالي، وكنت مسؤولاً عن مجموعتين للصاعقة الإسلامية» .
فترة التحقيق:
عندما وصل مهدي إلى سجن السرايا المركزي الساعة الثانية عشرة مساءً بوشر التحقيق معه فوراً في ما يسمى بالمسلخ، وبعدها تعرض للضرب القاسي وتم نقله في صباح اليوم التالي إلى المجدل، وهناك بدأت رحلة عذاب جديدة.
ويروي لنا تفاصيلها قائلاً: «هز الرقبة هو أسوأ أساليب التحقيق، والذي من شأنه أن يضر بالصدر وعظام الرقبة، وهناك أسلوب (الشبح) ـ وضع الأسير في أوضاع مرهقة ـ لساعات متواصلة، والموسيقى الصاخبة لأربع وعشرون ساعة والمنع من الذهاب إلى المرحاض مع الشتائم والتهديد» .
وأكمل: «هناك أسلوب في التعذيب اسمه الثلاجة وهي عبارة عن زنزانة، وقد وضعوني بها الساعة ١٢ ليلاً، وتحت تعذيب جسدي متواصل، وكانت يداي مقيدتين من الخلف؛ لكن الله أعطاني القوة والصبر وقد وضعت يدي تحت رأسي ونمت» .
وتابع يقول: «فجأة أيقظني الضابط الصهيوني، وسألني: كيف وضعت يدك بهذا الشكل؟ فقلت له: قدرة الله. فأمرني أن أرجعهما كما كانتا خلف ظهري، فلم أستطع فأرسل إليَّ سجاناً غليظ القلب، وكان قوي البنية فأمسك بي ورفعني إلى الأعلى وضربني بالأرض فتكسرت ضلوعي.
ويروي المحرَّر أنه أثناء التعذيب لم يستطع الوقوف على قدميه، فأمره ضابط التحقيق بالوقوف رغماً عنه دون أدنى شفقة، لكنه لم يستطع، وقال له: أنا الآن أفضل الموت على أن أعذب بهذه الطريقة؛ فكان رد المحقق: إذا أردت أن تموت فاختر لك ميتة! فقلت له: اشنقني، لكنه أجاب وبسخرية: لا نريد أن يقال عنا إننا من قتلناك؛ نريد أن تقتل نفسك بنفسك، وعاد لشبحي مرة أخرى بعد أن تماسكت يداي.
أكمل مهدي أنه بعد أيام من العذاب في المجدل رجع ليقضي أكثر من أربعين يوماً في مسلخ السرايا للتحقيق معه، وبعدها أعادوه إلى سجن عسقلان للتحقيق من أجل قضية قتل أحد العملاء على يد مجموعة أخرى لم يكن على علاقة بها، وقضى في التحقيق فترة ٦٨ يوماً.
` إلى المعتقلات:
وأكمل المحرر: «بعد مضي هذه الفترة من العذاب خرجت من التحقيق إلى المعتقلات في سجن عسقلان المركزي، وقد حكم عليَّ بخمس سنوات أمضيتها في طاعة الله والصبر والاحتساب؛ حيث حفظت ١٨ جزءاً من القرآن الكريم، وقراءة الحديث والمطالعة العامة» .
وأوضح المحرر: «هذه الفترة لا يعلم قيمتها الثمينة رغم ألمها إلا من خاضها وعاشها، وردد مقولة: «ليس الخبر كالعيان» .
واوضح المحرَّر: «هناك برنامج للمعتقلين، وكنت جزءاً من هذا البرنامج على مدار الخمس سنوات التي قضيتها في سجون الاحتلال، وبفضل الله لم اشعر يوماً واحداً بأن الضعف واليأس عرفا طريقهما إلى قلبي؛ لأني أدرك تماماً أن ما أقوم به خاص لوجه الله تعالى» .
وتنقل المحرَّر مهدي بين المعتقلات من غزة المركزي «السرايا» وأنصار (٢) وسجن النقب لمدة عامين، وبعدها تم ترحيله إلى سجن عسقلان المركزي ومنها إلى سجن نفحة الصحراوي وسجن السبع ثم سجن (كفاريونا) ثم عادوا إلى نقله إلى نفحة، ويُرجع المحرر مهدي سبب هذا التنقل إلى أربعة أسباب:
١ - التشويش على حياة واستقرار المعتقلين.
٢ - العقاب والعزل.
٣ - التأثير على برامج التنظيم داخل السجن.
٤ - الخوف من هروب السجين.
وأوضح المحرر قائلاً: «مَنَّ الله عليَّ داخل المعتقلات بلقاء قادة حركة حماس وجناحها العسكري الذين تعلمت على أيديهم الكثير، ونهلت من علمهم وتجاربهم، وكان من بينهم: حسن سلامة، وزاهر جبارين، ومحمد أبو عطايا، ومحمد أبو عايش، وروحي مشتهى، ويحيى السنوار» .
ومضى يقول: «أفضل أيام عمري تلك التي أمضيتها مع الشيخ صلاح شحادة، والمهندس إسماعيل أبو شنب، والمطارد أحمد الجعبري الذين كان لهم عليَّ فضل عظيم بعد الله تعالى؛ وهذا ما أفتخر به أمام كل شخص» .
وبعد خروجه من السجن يقول المحرر مهدي: «التحقت بجامعة القدس المفتوحة كلية إدارة وريادة ـ وتخرجت منها بمعدل جيد جداً، ومن ثم عملت في مجال خدمة الأسرى الشهداء» .
وتابع يقول: «خلال تلك الفترة اعتقلتني أجهزة الأمن الفلسطينية لتذيقني اشد مما لقيته في سجون الاحتلال من عذاب ومهانة» .
` لحظة الإفراج:
ومضى مهدي جعرور يقول: «بعد أن أخذ نفساً عميقاً لحظة الإفراج كانت إحدى اللحظات التي يتوق إليها كل معتقل ذاق مرارة العذاب في سجون الاحتلال الصهيوني، ولا أخفيكم انها كانت لحظات الم وفرحة في الوقت نفسه؛ فكانت ألماً لأنني سأفارق أحباء لي، عرفتهم في السجن فكانوا خير إخوة لي في محنتي، وفرحة لأنني سأخرج لأرى أحباء آخرين، أهلي وإخواني» .
وتابع بعينين قد اغرورقتا بالدمع: «لم يمر على حياتي لحظات أحلى من لحظات الإفراج من السجن؛ حيث أمي الغالية بدموعها المشتاقة ويديها الحنونتين والأهل والأصدقاء، تلك لحظات عشتها، ولا يمكن أن أنساها على مدار السنين، وتاريخ الإفراج عني ١٥/١٠/١٩٩٧م سيبقى محفوراً في ذاكرتي» .