للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فتاوى أعلام الموقعين

تعارض المصالح والمفاسد

شيخ الإسلام: أحمد بن تيمية

تعارض المصالح والمفاسد من المسائل المشكلة في هذا العصر، والتي تحتاج

إلى تحرير وتحقيق، وقد عُني شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الباب في مواضع متعددة

من كتبه، وذكر رحمه الله أنه كلما ازداد النقص في اتباع الأدلة الشرعية كلما

ازدادت مسائل التعارض بين المصالح والمفاسد، مما يؤول إلى الفتن بين

المسلمين [١] .

وفي هذا العدد نورد جواباً لابن تيمية رحمه الله عن سؤال مهم في هذا الباب

وما تضمنه من تحرير متين، وتحقيق دقيق:

السؤال:

عن رجل متول ولايات، ومقطع إقطاعات، وعليها من الكُلَف السلطانية ما

جرت به العادة، وهو يختار أن يسقط الظلم كله، ويجتهد في ذلك بحسب ما قدر

عليه، وهو يعلم أنه إن ترك ذلك وأقطعها غيره وولى غيره، فإن الظلم لا يترك

منه شيئاً؛ بل ربما يزداد، وهو يمكنه أن يخفف تلك المكوس التي في إقطاعه

فيسقط النصف، والنصف الآخر جهة مصارف لا يمكنه إسقاطه. فإنه يطلب منه

لتلك المصارف عوضها. وهو عاجز عن ذلك. لايمكنه ردها. فهل يجوز لمثل

هذا بقاؤه على ولايته وإقطاعه؟ وقد عرفت نيته، واجتهاده، وما رفعه من الظلم

بحسب إمكانه، أم عليه أن يرفع يده عن هذه الولاية والإقطاع، وهو إذا رفع يده لا

يزول الظلم، بل يبقى ويزداد، فهل يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع كما ذكر؟ وهل عليه إثم في هذا الفعل؟ أم لا؟ وإذا لم يكن عليه إثم: فهل يطالب على

ذلك؟ أم لا؟ وأي الأمرين خير له: أن يستمر مع اجتهاده في رفع الظلم وتقليله،

أم رفع يده مع بقاء الظلم وزيادة. وإذا كانت الرعية تختار بقاء يده لما لها في ذلك

من المنفعة به، ورفع ما رفعه من الظلم: فهل الأوْلى له أن يوافق الرعية؟ أم

يرفع يده، والرعية تكره ذلك لعلمها أن الظلم يبقى ويزداد برفع يده؟

فأجاب: رحمه الله:

الحمد لله. نعم إذا كان مجتهداً في العدل ورفع الظلم بحسب إمكانه، وولايته

خير وأصلح للمسلمين من ولاية غيره، واستيلاؤه على الإقطاع خير من استيلاء

غيره، كما قد ذكر: فإنه يجوز له البقاء على الولاية والإقطاع، ولا إثم عليه في

ذلك، بل بقاؤه على ذلك أفضل مِنْ تَرْكِهِ إذا لم يشتغل إذا تركه بما هو أفضل منه.

وقد يكون ذلك عليه واجباً إذا لم يقم به غيره قادراً عليه. فنشر العدل بحسب

الإمكان، ورفع الظلم بحسب الإمكان فرض على الكفاية يقوم كل إنسان بما يقدر

عليه من ذلك إذا لم يقم غيره في ذلك مقامه، ولا يطالب والحالة هذه بما يعجز عنه

من رفع الظلم.

وما يقرره الملوك من الوظائف التي لا يمكنه رفعها لا يطلب بها، وإذا كانوا

هم ونوابهم يطلبون أموالاً لا يمكن دفعها إلا بإقرار بعض تلك الوظائف، وإذا لم

يدفع إليهم أعطوا تلك الإقطاعات والولاية لمن يقرر الظلم أو يزيده ولا يخففه كان

أخذ تلك الوظائف ودفعها إليهم خيراً للمسلمين من إقرارها كلها، ومن صرف هذه

إلى العدل والإحسان فهو أقرب من غيره، ومن تناوله من هذا شيء أبعد عن العدل

والإحسان من غيره، والمقطع الذي يفعل هذا الخير يرفع عن المسلمين ما أمكنه

من الظلم، ويدفع شر الشرير بأخذ بعض ما يطلب منهم، فما لا يمكنه رفعه هو

محسن إلى المسلمين غير ظالم لهم، يثاب، ولا إثم عليه فيما يأخذه على ما ذكره،

ولا ضمان عليه فيما أخذه، ولا إثم عليه في الدنيا والآخرة إذا كان مجتهداً في العدل

والإحسان بحسب الإمكان.

وهذا كوصي اليتيم وناظر الوقف والعامل في المضاربة والشريك، وغير

هؤلاء ممن يتصرف لغيره بحكم الولاية أو الوكالة إذا كان لا يمكنه فعل مصلحتهم

إلا بأداء بعضه من أموالهم للقادر الظالم: فإنه محسن في ذلك غير مسيء، وذلك

مثل ما يعطي هؤلاء المكّاسين وغيرهم في الطرقات، والأشوال، والأموال التي

ائتمنوا؛ كما يعطونه من الوظائف المرتبة على العقار، والوظائف المرتبة على ما

يباع ويشترى؛ فإن كل من تصرف لغيره أو لنفسه في هذه الأوقات من هذه البلاد

ونحوها فلا بد أن يؤدي هذه الوظائف، فلو كان ذلك لا يجوز لأحد أن يتصرف

لغيره لزم من ذلك فساد العباد وفوات مصالحهم.

والذي ينهى عن ذلك لئلا يقع ظلم قليل لو قَبِلَ الناس منه تضاعف الظلم

والفساد عليهم، فهو بمنزلة من كانوا في طريق وخرج عليهم قطاع الطرق، فإن لم

يرضوهم ببعض المال أخذوا أموالهم وقتلوهم. فمن قال لتلك القافلة: لا يحل لكم

أن تعطوا لهؤلاء شيئاً من الأموال التي معكم للناس، فإنه يقصد بهذا حفظ ذلك

القليل الذي ينهى عن دفعه، ولكن لو عملوا بما قال لهم ذهب القليل والكثير،

وسلبوا مع ذلك، فهذا مما لا يشير به عاقل، فضلاً أن تأتي به الشرائع، فإن الله

تعالى بعث الرسل لتحصيل المصالح، وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب

الإمكان.

فهذا المتولي المُقطَع الذي يدفع بما يوجد من الوظائف، ويصرف إلى من

نسبه مستقراً على ولايته وإقطاعه ظلماً وشراً كثيراً عن المسلمين أعظم من ذلك،

ولا يمكنه دفعه إلا بذلك، إذا رفع يده تولى من يقره ولا ينقص منه شيئاً، هو مثاب

على ذلك، ولا إثم عليه في ذلك ولا ضمان في الدنيا والآخرة.

وهذا بمنزلة وصي اليتيم، وناظر الوقف الذي لا يمكنه إقامة مصلحتهم إلا

بدفع ما يوصل من المظالم السلطانية، إذا رفع يده تولى من يجور ويريد الظلم،

فولايته جائزة، ولا إثم علهي فيما يدفعه؛ بل قد تجب عليه هذه الولاية.

وكذلك الجندي المُقْطَع الذي يخفف الوظائف عن بلاده، ولا يمكنه دفعها كلها؛ لأنه يُطلب منه خيل وسلاح ونفقة لا يمكنه إقامتها إلا بأن يأخذ بعض تلك

الوظائف، وهذا مع هذا ينفع المسلمين في الجهاد، فإذا قيل له: لا يحل لك أن

تأخذ شيئاً من هذا؛ بل ارفع يدك عن هذا الإقطاع، فتركه وأخذه من يريد الظلم،

ولا ينفع المسلمين: كان هذا القائل مخطئاً جاهلاً بحقائق الدين؛ بل بقاء الجند من

الترك والعرب الذين هم خير من غيرهم، وأنفع للمسلمين، وأقرب للعدل على

إقطاعهم، مع تخفيف الظلم بحسب الإمكان، خير للمسلمين من أن يأخذ تلك

الإقطاعات من هو أقل نفعاً وأكثر ظلماً.

والمجتهد من هؤلاء المقطعين كلهم في العدل والإحسان بحسب الإمكان يجزيه

الله على ما فعل من الخير، ولا يعاقبه على ما عجز عنه، ولا يؤاخذه بما يأخذ

ويصرف إذا لم يكن إلا ذلك: كان ترك ذلك يوجب شراً أعظم منه. والله

أعلم) [٢] .


(١) انظر مثلاً: مجموع الفتاوى ٢٠/٤٨-٦٢.
(٢) مجموع الفتاوى ٣٠/٣٥٦-٣٦٠.