الافتتاحية
محنة كوسوفا مع الغرب..
أنه الخصم والحكم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
لو كانت كفاءة الصرب في القتال الجاري مثل كفاءتهم في ارتكاب المجازر
ضد العزل من المدنيين سواءاً كانوا رجالاً أو نساءاً، صغاراً أو كباراً لما احتاج
الغرب للتدخل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من المصالح الصربية في البوسنة، حتى ولو
كان لديهم القليل من الحنكة السياسية ولما وصلت الأمور لما وصلت إليه في كوسوفا.
لقد كانت أحداث البوسنة درساً وعاه الغرب جيداً؛ فقد هيأت الظروف
للصرب ابتلاع مناطق المسلمين في البوسنة، فمنع عن المسلمين السلاح، ولم
يسمح للدول الإسلامية في البداية أن تقوم بأي دور ولكن استمرار الحرب بالمجازر
الرهيبة التي ارتكبت في حقهم وتدمير مدنهم أوجد حالة شديدة من التعاطف الشعبي
معهم جاوز المسلمين إلى غيرهم، ونجحت مجموعات كبيرة من المسلمين في
التسلل إلى البوسنة والمشاركة الفعالة في مواجهة الصرب، بل وأسهمت حكومات
إسلامية بتسليح المسلمين؛ وهنا بدأ الميزان العسكري يتغير، وباتت هزيمة
الصرب قاب قوسين أو أدنى، وأصيبوا بحالة من الانهيار جعل أمريكا تسارع إلى
فرض ما يسمى بـ (اتفاقية دايتون) التي أقرت الصرب على المناطق التي احتلوها
في بداية الحرب، وفرضت على المسلمين كياناً مشتركاً مع الكروات، وبدأت في
محو الآثار السلبية للموقف الأوروبي فكان الهم الأول لأمريكا إخراج المجاهدين
العرب من البوسنة، بل الطلب الصريح من حكومة البوسنة بإبعاد الضباط
المسلمين الذين نجحوا في إقامة جسور تعاون مع بعض الدول الإسلامية. وتُطبخ
الآن على نار هادئة عملية تخفيف الوجود الإسلامي في البوسنة عن طريق تشجيع
هجرة المسلمين من جهة، وعدم السماح للاجئين بالعودة إلى مناطقهم السابقة.
إن الإخفاق الصربي في التعاطي مع أحداث البوسنة جعل أمريكا تتدخل منذ
البداية في كوسوفا لتفرض على الصرب العمل بصورة منطقية مع الوضع حتى لا
يخرج عن السيطرة.
إن التدخل الغربي الحاصل رغماً عن الصرب وحلفائهم الروس هو في النهاية
في صالح الصرب؛ حيث إن الغرب لم يعد قادراً على تكرار المخطط نفسه الذي
جرى تنفيذه في البوسنة؛ لأن الوضع أكثر تعقيداً في كوسوفا؛ ولأن الوجود
الصربي في الإقليم أقل من عشرة في المئة بينما الألبان المسلمون يمثلون ٩٠% من
السكان بالإضافة إلى أن الألبان موجودون في المنطقة المحيطة بالإقليم ولهم دولة.
لقد كانت كوسوفا هي الباب الذي ولج منه (سلوبودان ميلوسيفتش) إلى
الزعامة المطلقة للصرب؛ فبصفته رئيساً لجمهورية صربيا الداخلة ضمن جمهورية
يوغسلافيا الاتحادية السابقة فقد قام بزيارة جمهورية كوسوفا التي تتمتع بالحكم
الذاتي ضمن صربيا، وأعلن بمناسبة مرور ٦٠٠ سنة على هزيمة الصرب في
كوسوفا ضم كوسوفا إلى صربيا وطرح نفسه منقذاً لقومه ومحققاً لآمالهم في إقامة
صربيا الكبرى.
إن إلغاء ميلوسيفتش لقرار اتحادي والخوف من تسلط الصرب دفع رؤساء
الجمهوريات الأخرى إلى التعجيل بالانفصال عن الاتحاد مما أدى إلى دخول
المنطقة في دوامة من الحروب كان أشدها وآخرها حرب البوسنة منذ عام ١٩٨٩م.
وحتى انفجار الأوضاع في كوسوفا فإن السياسة الصربية في هذا الإقليم كانت تقوم
على محاولات عقيمة لإلغاء وجود ٩٠% من السكان المسلمين.
إن مأساة ألبان كوسوفا الأولى هي عدم اعترافهم بضم صربيا لهم، ومن ثمّ
إعلانهم عن تشكيل حكومة لهم لم تعترف بها بلغراد، بل ولم يكلف الصرب أنفسهم
حتى عناء إجراء حوار مع الألبان؛ حتى تحول خيار كثير من الألبان إلى الخيار
العسكري عوضاً عن الخيار السياسي وكذلك التوجه إلى خيار الاستقلال عوضاً عن
الحكم الذاتي، حتى إن السياسي المعتدل إبراهيم روجوفا يتحرج من الرضى في
الظروف الحالية بالحكم الذاتي.
إن قيام جيش تحرير كوسوفا بإعلان خيار العمل العسكري من أجل الاستقلال، وقلة نسبة الصرب في الإقليم دفع الصرب لإرسال أعداد كبيرة من الشرطة
والجيش الصربيين الذين قاموا بما يتقنونه من قتل المدنيين وإحراق البلدان والقرى
لإرغام الألبان على الهجرة، وكانت المفاجأة أن ٨٠% من المهجرين انتقلوا إلى
أماكن أخرى داخل الإقليم بالإضافة إلى أن الاستمرار بهذه السياسة سيؤدي إلى
انفجار الأوضاع في كل المنطقة.
إن التغاضي الغربي حيال كوسوفا بعد الاستفادة من دروس البوسنة يقوم على
المحاور الآتية:
١- إن كوسوفا الألبانية المسلمة التي أهداها الغرب لصربيا في بداية هذا
القرن يجب أن تبقى جزءاً من صربيا الكبرى.
٢- إن الظروف الحالية تقتضي تمتع الإقليم بالحكم الذاتي؛ ولهذا فقد تم
إطلاق يد الصرب مؤقتاً من أجل إضعاف جيش تحرير كوسوفا، ولهذا أيضاً قام
الجيش بتركيز العمليات على الحدود الألبانية مع الإشارة إلى احتمال انتشار قوات
أطلسية على الحدود.
٣- قيام الغرب بمنع تدخل أي دولة من العالم الإسلامي؛ ولهذا فقد سمعنا
عنتريات الأتراك العلمانيين في بداية الأزمة وتهديدهم بالتدخل ثم تحولت العنتريات
إلى سورية فيما بعد.
٤- الحرص على عدم بروز أي وجهة إسلامية للصراع في كوسوفا وحصره
في الجانب القومي؛ وهذا ما يردده قطاع كبير من الإعلام العربي بكل خبث أو
بلاهة.
٥- التضييق على النشاطات الإغاثية الإسلامية في المنطقة، ومطاردة بعض
الإسلاميين في ألبانيا خوفاً من بروز تيار جهادي يقلب الموازين.
٦- إن فرض الرؤية الغربية على الصرب يحتاج إلى حوار سياسي معهم
بالإضافة إلى التلويح باستعمال القوة بصورة استعراضية مع الحذر من إمكانية
استفادة الألبان منها؛ وكما يقول مسؤول أمريكي كبير: نحن لا نريد أن نصبح
سلاح جو للكوسوفيين!
٧- إن الغرب حريص على تهدئة الوضع مع عدم حصول الألبان على
الاستقلال، ولهذا فإن موافقة الألبان ليست ضرورية لحصول اتفاق مع الصرب؛
ومن الأمثلة الاتفاق على إرسال بعثة للتحقق من الانسحاب الصربي والعمل على
تثبيت الأوضاع مما يعني أن يحل حلف الأطلسي محل الصرب في مهمة حفظ
تبعية كوسوفا لصربيا.
٨- اللعب على التناقضات بين الألبان من السياسيين وجيش تحرير كوسوفا
فمن ناحية يتم الضغط على (روجوفا) للتفاوض مع الصرب مع إعطاء الضوء
الأخضر لحملة عسكرية عنيفة على جيش تحرير كوسوفا لإضعافه وإخراجه من
اللعبة.
وفي الختام فإن تهمة دعم الإرهاب جاهزة لأي دولة أو منظمة إغاثية أو
دعوية تقوم بأي حركة لم يأذن بها الغرب؛ حتى إن بعض الدول تتصنع عدم
المبالاة بما يجري خوفاً من هذه التهمة الجاهزة.
هذه عينة من مواقف الغرب مع المسلمين لمسناها، في فلسطين والبوسنة
وقبرص وغيرها وغيرها؛ فمتى نعي ذلك الواقع؟
ومتى نعد للأمر عدته؟
وكيف لا نكون كالجسد الواحد يشد بعضه بعضاً؟
والله سبحانه يقول: [إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ
وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ] [الممتحنة: ٢] .
نسأل الله أن يرينا في أعدائنا يوماً أسود، وأن يجمع قلوبنا على الحق، وأن
يوفقنا للتعاون على البر والتقوى.
والله المستعان،،،