الافتتاحية
دروس في الصراع مع يهود
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى
بهداه إلى يوم الدين، أما بعد:
فلم يَجْنِ الفلسطينيون من مسار السلام بعد خمس سنوات من اتفاق (أوسلو)
غير قبض الريح؛ وهذا نتيجة طبيعية لاتفاقيات السلام؛ إذ يصر العدو على
الحصول على الأمن والسلام معاً ويرفض قيام الدولة الفلسطينية. وهذا ليس رأي
الإسلاميين وحدهم، بل هو ما توصل إليه كل مراقب محايد لعملية السلام منذ
بدايتها؛ فهذا الصحفي الشهير (روبرت فسك) في تحليل له بعنوان: (السلام يقتل
حقوق الإنسان) [١] يقول: (لم يعد هناك إدانة للسلام بين (إسرائيل) و (منظمة
التحرير) أكثر من التقرير الذي نشرته منظمة العدل الدولية قبل أيام والذي تضمن
العديد من الأمثلة والشواهد على ما يرتكبه (الإسرائيليون) والفلسطينيون من أعمال
التعذيب والموت والحجز والاعتقال العشوائي واحتجاز بدون محاكمة وإجراء
محاكمات غير عادلة ... ) .
كم نحن بحاجة ماسة للوقوف بموضوعية لنعرف حقيقة الصراع مع العدو
وكيف نتعامل معه بعيداً عن فلسفات أدعياء السلام وتنظيرات كثير من المنهزمين
من مثقفي أمتنا الذين ما زالوا يحلمون بسلام قادم مع العدو وأنه أمر لا مفر منه
وبخاصة أنه قد مرت خمسة عقود على دخول اليهود إلى فلسطين، ودخل العرب
في حروب عدة مع اليهود، ثم رضوا بعد ذلك بـ (السلام) ، والجلوس على موائد
المفاوضات، ونعتقد بأن هذه الحقبة التاريخية المديدة في عمر الأمة جديرة بالدراسة
والبحث والتقويم، ومعرفة المكاسب والخسائر التي حصلت عليها الأمة مما يعين
في رؤية الواقع، واستشراف المستقبل.
وها نحن نحاول الوقوف على بعض الدروس والعبر:
أولاً: إنّ الأمة التي تنطلق من خلفيات وقواعد عقدية أياً كانت هذه العقائد
أقدر على الثبات والمواجهة، وهذا هو الذي تميزت به الدولة اليهودية؛ إذ إنها
انطلقت في بنائها من التعاليم التوراتية، التي أصبحت هي الأصل في كل مواقفها
السياسية والعسكرية، بينما مع الأسف الشديد تنكّر العرب لعقيدتهم الإسلامية
وخلفيتهم الحضارية، ورفعوا شعار القومية تارة، والوطنية تارة ثانية، والبعثية
تارة ثالثة ... ونخرت هذه الشعارات النفعية في جسد الأمة نخراً شديداً، حتى
أصابها التشتت والتمزق، ولم تعد قادرة على انتزاع أيسر حقوقها وأوضحها؛
فالإحباطات المتراكمة تسيطر عليها من كل جهة.
ولمّا رجع بعض الناس إلى هويتهم الأصيلة، وتعالت في صفوفهم آيات
الأنفال وآل عمران، وارتفعت ألوية التوحيد، جُنّ جنون اليهود، واضطربت
عقولهم، وأخذوا يبطشون بكل قسوة وجبروت، لعلهم يئدون هذا الوليد في مهده،
ويخنقون صوته، لكنهم لم يجدوا إليه سبيلاً.. عندها جاؤوا بمهزلة السلام التي
يراد منها قطع الطريق على هذه الوجوه الكريمة المتوضئة، وإعادة تلميع تلك
القيادات المهترئة التي أفلست وانكشفت وجوهها المظلمة..!
إنّ الأحداث المتتالية علمتنا أن اليهود لا يمكن مواجهتهم إلا بسلاح العقيدة،
وأن الرجال الصادقين المخلصين هم وحدهم القادرون على الثبات وإن أصابهم ما
أصابهم من شدة وقتل، ولا يمكن ترويضهم أو تذليلهم؛ فهم حريصون على الشهادة
أكثر من حرص غيرهم على الدنيا.
ثانياً: نتج من تلك الخلفية العقدية عند اليهود جديتهم في تحقيق مطالبهم،
التي أرخصوا في سبيلها كل نفيس، وشحذوا كل طاقاتهم السياسية والعسكرية
والبشرية لتحقيق ذلك. وها هو ذا قائلهم يقول: (أدركت أنه لا يكفي لشعب ضعيف
أن يثور كي ينال عدلاً لمطالبه، أما مبدأ (نكون أو لا نكون) فعلى كل أمة أن تعمل
به، وتقرر مصيرها بطرقها الخاصة، وعلى اليهود ألا يعتمدوا على أحد من أجل
تقرير مصيرهم) . لقد عرف اليهود أن دولتهم: (لن تدوم بالتصفيق ولا بالدموع ولا
بالخطابات أو بالتصريحات!) ، ولهذا صَدَقوا في بنائها وحمايتها.
بينما كشفت لنا الأيام تلك المسرحية العبثية التي أدار فصولها بكل صفاقة
وخيانة أدعياء العروبة والوطنية، ودهاقنة الديموقراطية والحرية، الذين إذا أعيتهم
الحيلة لم يجدوا بداً من الشجب والاستنكار بصوت يمتلئ شجاعة وبسالة (!) ،
ولكنه بلا صدق أو إرادة (! !) .
إن ما دُعي بالنخب السياسية العربية أضحت عاجزة عن الخروج بهذه الأمة
من المأزق الذي تعيشه، وأصبحت الأمة تائهة تتردى في مستنقعات الهزيمة،
وتتجرع كؤوس المهانة والذل والخزي؛ ولن تخرج من هذا النفق المظلم إلا بالعودة
الصادقة الجادة إلى دين الله تعالى، وأما ما يسمى بالشرعية الدولية فلن تصنع شيئاً، وكذا الجري اللاهث وراء ما يسمى بـ (راعي السلام) لن يجر إلا مزيداً من
الخزي والعار، ومزيداً من الذلة والصغار.
ثالثاً: إن الأمة العربية في الوقت الراهن غير مهيأة على الإطلاق للمواجهة
العسكرية مع اليهود؛ فقد استهلكت قدراتها وإمكاناتها في التغريب والعلمنة،
وأصبحت أكثر الجموع أقرب إلى اللهو والعبث منها إلى الجد والعمل. وهذا
يستدعي بلا شك أن تستنفر كافة الإمكانات الإسلامية لانتزاع جذور التغريب
والإفساد في العالم الإسلامي، والعمل على بناء الرجال المخلصين القادرين على
تحمل المسؤولية؛ وهذا عمل في غاية الصعوبة والمشقة، وهو كذلك عمل طويل
جداً، ولكنه هو السبيل الوحيد لاستعادة الهوية الإسلامية، ولعله من أولى الأشياء
دخولاً في إعداد العدة الواجبة شرعاً في قوله تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن
قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] [الأنفال: ٦٠] .
إن إعادة بناء الأمة وتجديد طاقاتها وإحياء رجالها وصناعتهم من جديد هو
التحدي الأكبر الذي يواجه العمل الإسلامي المعاصر، وهو العدة الحقيقية لمواجهة
الطغيان اليهودي والغربي.
رابعاً: إن قضية القدس قضية عقدية لا تقبل المساومة أو المداهنة السياسية.
وإن كان بعض النفعيين أرادوا أن يجعلوا الصراع مع اليهود صراعاً قومياً، فإن
قضية القدس تنسف ذلك كله وتعيد إلى الأذهان تلك الخلفية الدينية لذلك البيت
المبارك.
إن الغباء كل الغباء أن تُهَمّشَ قضية القدس، أو توضع في القائمة الشكلية
للمفاوضات، وإذا رضي بذلك فئة وضيعة ممّن لا يعيرون البعد الديني أدنى اهتمام، فإن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لن يرضوا بذلك، وإن عجزوا في
الوقت الراهن لأي سبب كان عن التصرف الإيجابي الفاعل لإنقاذ القدس، فإن هذه
القضية سوف تبقى القضية الكبرى في حاضرهم ومستقبلهم. وقضية فلسطين ليست
خاصة بالفلسطينيين فقط وإن كانوا هم أوْلى الناس بها ولكنها القضية الكبرى للأمة
الإسلامية بعامة، ولهذا فإن أي مؤامرة على مقدسات المسلمين لن تنتهي بسلام، بل
سوف تستحث الشعوب الإسلامية إلى الرجوع إلى دينها، وستحيي فيهم روح
الجهاد والغيرة على المقدسات المنتهكة.
خامساً: مع تزايد الإخفاقات المتتالية للسلطة الفلسطينية ازدادت شعبية
الاتجاهات الإسلامية وعلى رأسها منظمة حماس، وهذه نعمة من الله تعالى حقها
الشكر والرعاية، والإخوة في حماس يدركون حجم المؤامرة، وهذا يتطلب رؤية
أكثر عمقاً للمستقبل ترسم فيها الخطط والبرامج بشمولية ودقة.
إنّ ردود الأفعال العاطفية مهمة جداً، ولكنها تبقى محدودة الأثر، قليلة التأثير، بينما يكون التخطيط العملي بعيد المدى، عميق الأثر، قوي التأثير. والمطلوب
من رجالات الحركة الإسلامية في فلسطين أن يكونوا على مستوى الحدث والطموح
والتحدي، وأن يعيدوا بناء البيت من الداخل بناء متماسكاً يتلاءم مع المهمة العظيمة
التي يواجهونها. ولن يقف العالم متفرجاً على نجاحات الحركة الإسلامية، بل
سوف تُسَخّر كافة الإمكانات والاستخبارات السياسية والعسكرية لتفتيتها وتمزيق
أركانها.. فهل ينجح الإسلاميون في هذا مواجهة التحدي الصعب؟
والذي نجزم به أنهم سينجحون بالتأكيد ما داموا معتصمين بحبل الله المتين،
موفين بقواعد النصر الشرعية، مدركين لضرورة التراص والتآلف، فقد قال الله
تعالى: [وَالَّذِِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..] [العنكبوت: ٦٩] .
ومن واجب المسلمين عموماً أن يقفوا بجانب إخوانهم، ولا ينظروا إلى
حماس على أنها خاصة بالمنتمين لها فحسب، بل على أنها منظمة لكل المسلمين
الصادقين، ومن حقها علينا أن نقف بجوارها قلباً وقالباً، معنوياً ومادياً، ومن حقنا
عليها أن تسمع إلى نصح الناصحين وآرائهم، وأن تقدر ذلك، وصحيح أنهم أعرف
بأحوالهم وأقدر على معرفة واقعهم، ولكن ربما يرى غيرهم رأياً أبعد عن التأثر
بالضغوط اليومية والشخصية.
وبالجملة فإن الحوار الصادق المخلص من أعظم وسائل النصر بإذن الله تعالى.
(١) نشرته الإندبندنت ونقلته الأنباء الكويتية، العدد: (٨٠٢٢) في ٢٤/٥/ ١٤١٩هـ.