[حقيقة تقسيم العراق ولعبة الدستور]
محمد القيسي
التقارير الرسمية وغير الرسمية التي كانت تصدر عن الأمريكان قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت جميعها تؤكد لمتتبعيها قلقهم الكبير من العبارات التي تتضمنها خطابات الإسلاميين المتشددين الرافضين للهيمنة الأمريكية والداعين للتصدي لها، والتي كان يَرِدُ فيها ذكر إقامة الدولة الإسلامية؛ ولم يكن غائباً عن بال أحد أن دولة الخلافة الإسلامية ازدهرت في العراق وانتهت فيه؛ وبغداد بالنسبة للعرب والمسلمين هي عاصمة الخلافة ومركز إشعاعها. هذه الأفكار كانت تؤرق الأمريكان وكذلك الصهاينة وتجعلهم يستشعرون خطورة الدولة الإسلامية؛ ولذا فإنهم استبقوا الأمر، واتخذوا قرارهم مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر بالقضاء على العراق بكيانه التاريخي المعروف تماماً؛ بحيث يجب تحويله إلى كيان آخر غير الذي كان عليه؛ لأنهم على قناعة بأن هذا البلد يشكل خطراً عليهم باعتباره يمثل الثقل الأساسي للأمة العربية والإسلامية ودولتها التي حكمت نصف الكرة الأرضية، وهو الأمر الذي لم يتسنَّ لكل الإمبراطوريات في التاريخ. وكان لا بد لهذا الهدف من محتوى اقتصادي يحقق لهم أسس الهيمنة على العالم وهو المال الذي يمنح القوة والديمومة للتفرد الأمريكي. فقبل ثلاثة أعوام من الغزو ذكر وزير الدفاع الأمريكي الأسبق (هارولد براون) وهو يدلي بشهادته أمام الكونجرس أن التراجع المتنامي لأمن مصادر الطاقة يمثل أكبر تهديد لأمن الولايات المتحدة على المدى البعيد.
وهذا الأمر ليس جديداً؛ فإن جميع الساسة الأمريكان يركزون على أمر النفط، وقد قالها صراحة الرئيس الأمريكي السابق (جيمي كارتر) في آخر خطاب له حينما كان رئيساً بأن أي محاولة تقوم بها قوى خارجية للسيطرة على منطقة الخليج العربي ستعتبر تحدياً للمصالح الحيوية للولايات المتحدة، وتستلزم مواجهتها بكافة الوسائل بما في ذلك القوة العسكرية. وعليه فإن المسألة هي سياسية واقتصادية في آن واحد؛ حيث إن الإدارة الأمريكية تتوفر على معلومات تفصيلية عن النفط العراقي وأهميته، ولذا فإن مخططي الحرب الأمريكيين ركزوا على أهمية السيطرة على حقول النفط العراقي في الشمال بكركوك والجنوب في الرميلة بأي ثمن؛ لأنهما يضخان ثلاثة أرباع الإنتاج الحالي من النفط العراقي؛ ومثل هذا الهدف قد يتطلب تقسيم العراق بأي شكل من الأشكال. وهكذا فإن أهداف احتلال العراق لا يمكن أن تدانيها أي اهداف أخرى من ناحية الجدوى الاقتصادية والاستراتيجية. فلنتصور مدى خطورة الأمر: تدمير دولة لأهمية دورها التاريخي وخطورته في نهضة الأمتين العربية والإسلامية، وتأثير ذلك على العالم وعلى الإنسانية، وكذلك الاستحواذ على ثرواتها النفطية المهمة للاقتصاد الأمريكي وفي تعزيز الهيمنة الأمريكية على العالم وديمومتها.
إن تحقيق مثل هذه الأهداف الحيوية ليس من السهولة بمكان؛ فلا بد أن تكون صفحاتها عديدة ومتنوعة، ولا بد أن يتم إنجازها حتى لو كان الثمن ذبح نصف الشعب العراقي وتدميره وتمزيقه؛ فهم عاقدون العزم عليها بعد أن أضحت السبيل الوحيد الآن لإنجاز مشروعهم المتهاوي تحت ضربات المقاومة العراقية الباسلة والرفض الشعبي الكبير للاحتلال والفضائح المتوالية التي كشفت حقيقته وأهدافه وممارساته التي أصابت أيضاً المجتمع الدولي بالصدمة والشلل، وجعلته عاجزاً عن إصلاح هذا الخطأ الكبير والجريمة التي ترتكب بحق العراق وشعبه؛ ولذا فإن الإدارة الأمريكية تعتبر مسألة الدستور وإتمام ما يسمى بالعملية السياسية المزعومة مخرجاً مهماً لها ولما تقوم به في العراق الآن أو لاحقاً؛ إذ إن المهم لديها هو أن تنهي صفة الاحتلال عن وجودها على أرض العراق ومسألة التحكم بمصيره ومقدراته وارتهان سيادته، وتُظهر للعالم أن العلاقة القائمة بينها وبين أتباعها العملاء الذين نصبتهم في العراق هي علاقة مع دولة فيها حكومة ذات صفة ذات سيادة لكونها حكومة دستورية. وبهذا تسقط كل المبررات والحجج والاتهامات التي تقيد استفرادها بالعراق؛ لأنها في هذه الحال ستكتسب صفة دولة تتعامل مع دولة دستورية صديقة طبقاً لاتفاقيات ومعاهدات ثنائية ووفقاً لمصالح الدولتين، بما لا يجعل مجالاً للشرعية التي تحكمها القوانين والمعاهدات الدولية المطالبة باتخاذ إجراءات ضدها أو ملاحقتها عن أي جرائم أو أفعال أو الاعتراض عليها أو حتى انتقادها؛ هذا من جهة. ومن جهة أخرى هو لتركيع الشعب العراقي وإخضاعه لإرادتها عبر أعوانها باسم الدستور والشرعية الوهمية القائمة على فكرة الإيغال بتمزيق وحدته وكيانه التاريخي المعروف، بالاشتراك مع عملائها الذين تعاونوا معها على الغزو والاحتلال، وأصبحوا على رأس السلطة في العراق، وكذلك بالتعاون مع أطراف انتهازية أخرى ظهرت مؤخراً داخل العراق؛ بالإضافة إلى عدد من دول الجوار في مقدمتها إيران؛ فالجميع باتوا يعملون على تمزيق هذا البلد باعتباره الحل الأمثل للمضي في السيطرة عليه وإنهائه.
فدعوة عبد العزيز الحكيم الطبطبائي في ١١ آب /أغسطس في خطابه بمدينة النجف للمطالبة بإقامة إقليم فيدرالي لجنوب ووسط العراق لم تكن محض مصادفة أو وليدة رغبة متفردة للتجمع الطائفي الذي يتزعمه (١) ؛ وإنما هي في صلب الموضوع لتحقيق الأهداف المتشابكة للتحالف الأمريكي الصهيوني المتناغم مع أحلام الفرس وأطماعهم.
إن تفكيك العراق وشرذمة الانتماء الوطني فيه، هو بالأساس هدف صهيوني؛ إذ إن الصهاينة كانوا أول من أطلق فكرة أن العراق دولة مصطنعة، وأن تركيبتها الأساسية التي تبلورت عام ١٩٢٠ بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية كانت تركيبة خاطئة، ولا بد من إعادة صياغته وفق تقسيمات طائفية وعرقية، وقد سخروا كل أدوات الإعلام لإشاعة هذه الفكرة. لقد كانت هناك حملة مكثفة عشية دق طبول الحرب على العراق للترويج لهذه الفكرة؛ فقد تحدث بها المؤرح الصهيوني (بيني موريس) في لقاءات للإذاعات الأمريكية قبل الحرب على العراق قائلاً: «إن العراق دولة مصطنعة رسمها الإنكليز وخلطوا فيها عشوائياً شعوباً وطوائف لا تريد في الحقيقة أن تتعايش مع بعضها» كما تحدث عنها المؤرخ اليهودي الأمريكي (برنارد لويس) معتبراً أن العراق هو دولة مصطنعة، وأن احتلاله فرصة لتصحيح هذا الخطأ الذي ارتكبه البريطانيون، أي تفكيكه إلى عدة دويلات، بحسب الطبيعة السكانية، وانتماءاتها الدينية والعرقية. إن هذا أمر طبيعي بالنسبة للصهاينة بأن يخشوا العراق؛ لأنه البلد العربي الذي طالما دعا إلى توحيد الأمة العربية والإسلامية المترامية الاطراف رغم تنوع أطيافه واحتضانه لشتى الملل والنِّحل.
ونعود إلى أمر التقسيم عبر الفيدراليات؛ فلقد بدا خلال الأيام الماضية أن المضي فيه يواجه عقبات أهمها التنازع المحموم على الاستئثار بالمغانم بين الأطراف التي تسعى إلى هذا التقسيم الذي قد يُوجِد إشكالات عديدة، ورافق ذلك حالة الرفض الشعبي لها التي عبرت عنها التظاهرات التي جرت في مدن عديدة شاركت فيها مختلف الأطياف العراقية؛ فقد يجد الأمريكان في ظل الأوضاع الحالية أن إطلاق عملية تقسيم العراق على أساس صنع فيدراليات عرقية وطائفية قد يضاعف المخاطر على قوات التحالف، وربما تمثلت أمامهم تجربة البريطانيين؛ حيث اعتقدوا عند دخولهم بغداد في عام ١٩١٧ أن العراقيين غير موحَّدين، وأوغلوا في الاعتداء عليهم، ولكن البريطانيين فوجئوا بقيام انتفاضة شعبية شاملة في عام ١٩٢٠ غطت كل العراق، وشارك فيها الشعب العراقي بكل أطيافه، وكلفت المحتلين الآلاف من القتلى، وهذا قد يدفعهم لتخفيف حدة الاندفاع للتنفيذ العاجل لموضوع الفيدراليات ويصار إلى تضمينها بصيغ مصطنعة مبهمة في مشروع الدستور، ضمن لعبة خبيثة يراد بها تمرير المخطط الأصلي لإنجاز العملية السياسية الوهمية التي تخدم الأمريكان، ولجر أطراف أخرى للمشاركة فيها والاستفتاء على الدستور. أما عن موضوع رفض السيستاني لهذه الفيدرالية أو تلك أو عدم مباركته لها، فنعتقد أن هذا الشخص لا يتصرف إلا كأداة يمرر لها ما يراد أن تنطق به طبقاً لاغراض المعنيين وإيحاءاتهم ليس إلا.
وللأسف فإن الأمر يبدو قد انطلى على بعضهم، كما راح آخرون يروجون له عبر إطلاق فتاوى واجتهادات متناسين الاحتلال وعدم شرعية كل إجراءاته التي لا تقرها أي شرعية أو قانون او دين، وهذا الأمر بيَّن لكل مؤمن ووطني غيور وهو ليس بحاجة إلى اجتهاد أو فتوى من أي كان مهما وضع أمام اسمه من مسميات وتخصصات؛ خصوصاً الذين راحوا يجتهدون اليوم في أمور الباطل بعد أن سكتوا عن الاجتهاد في أمور الحق والدعوة له.
إن اللعبة لن تنطلي على أحد؛ إذ إن مشروع التقسيم لا زال قائماً وحاضراً بقوة ليس عبر الفيدراليات فحسب، بل عبر موضوع تقاسم الثروات؛ فهو التقسيم الحقيقي للبلاد أيضاً؛ حيث إن توزيع الثروة حسب الأقاليم أو المحافظات يلغي تماماً ملكيتها القومية للعراق الموحد الذي سيكون مجرد كيان هش يتلاعب بمصيره أمراء الطوائف وسُرَّاق الثروات والمتحكمون بها؛ لذا فالكل الآن يريد حصته الأكبر منها لإيجاد الأرضية المادية لحالة التقسيم فيما بعد. فإن بدا ظاهرياً أنهم قد يتنحون مؤقتاً عن موضوع التقسيم العاجل للعراق عبر جغرافيته التي وضعوا لها خصوصيات مصطنعة؛ فإنهم يمضون في تقيسمه عبر قاعدته المادية وثرواته القومية، وهو الأمر الذي سيحوِّل مسألة التقسيم إلى واقع حال عبر التنازع على الثروات والاقتتال من أجلها، ولا يتطلب الأمر عندها أي جهد لعملية التقسيم إذا ما أريد لها أن تقر يوماً والعياذ بالله.
وعلى الشعب العراقي أن يعرف تماماً أن الأمريكان والصهاينة هم أصحاب هذا المشروع الخطير، وهم المتحكمون الحقيقيون بمصير البلاد والماسكون بمقدراتها، وهم من يشرفون على إعداد العملية السياسية الموهومة طبقاً لما يحقق أهدافهم في عراق مرهون مستقبله بمصلحة الأمريكان والصهاينة. أما هذه الدولة التي يريدون تصنيعها فهي دولة وهمية؛ فإن الظاهرين في الصورة هم أتباع ينفذون أهدافاً مشتركة للأميركان والصهاينة والإيرانيين وغيرهم لذا تراهم يتنازعون اقتسام العراق باعتبار أنه قد أصبح غنيمة بأيدي اسيادهم الذين تصرفوا على هذا الأساس منذ أول يوم دخلت فيه دباباتهم إلى بغداد. وفق هذا المنطق يتنافس الجميع ويتمادى في مشاريعه وطلباته لتحقيق أكبر قدر من الكسب في هذه الغنيمة التي يتصورون أنه قد غاب راعيها وغفل أبناؤها عنها.
إن خطورة لعبة الدستور وأهدافها ومن يقف وراءها يستوجب التحرك على كل المستويات لوأدها وحث شعبنا في عدم الانجرار وراء الخديعة التي يروج لها عملاء أمريكا عبر الإغراءات وإطلاق الوعود بالرفاه والغنى تارة، وباللجوء إلى الدين باستصدار فتاوى تحث على المشاركة في التصويت على الدستور، واعتبار ذلك من واجبات المسلم، وما إلى آخره من الكلام الذي يطلقه بعضهم تارة أخرى؛ ما دام بصيغته الطائفية المشبوهة غير مأخوذ في الاعتبار حقوق أهل السنة وهم أكثر من نصف سكان العراق مهما دنس المدنسون؛ إذ إن من يريد الخير لشعبه وأمته عليه أن لا يتعلق بأهداف المشاريع التي لا جذور لها إلا في الهواء، وستنهار حتماً؛ لأن شرع الله هو الحق وهو الباقي، وما دونه زائل طال الزمن أم قصر، وسوف لن تنفع المكاسب السياسية والامتيازات أحداً منهم؛ لأن التاريخ قاسٍ في سرده للأحداث، وفي إطلاقه للصفات والنعوت على من يتخلى عن شعبه ويرتمي في أحضان أعدائه أو يستفيد على حساب آلامه.
إن الخلاص له طريق واحد فقط هو التمسك بالموقف المبدئي لمقاومة الاحتلال ورفض كل مشاريعه وإجراءاته ومؤسساته التي تكرس واقعه وتؤسس لتفريق الشعب العراقي على أساس طائفي أو عرقي أو عن طريق تقاسم الثروات. ومن يتغافل فعليه أن يدرك أن العراق ذا التاريخ العريق لا يمكن تقسيمه أو تغيير كيانه بجرة قلم من قِبَل ذوي الأحلام المريضة وأسيادهم.
نسأل الله أن يحفظ العراق وشعبه وأن يقيه شر المفرضين وأعوانهم.