للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[بين حضارة عاد وحضارة الغرب]

إبراهيم بن محمد الحقيل

في أخبار من مضوا قبلنا عبرةٌ لمن يتذكر منا، عبرةٌ تحثنا على سلوك طريق

الصالحين الناجين، ومجانبة سبل المكذبين الهالكين.

لقد قص القرآن علينا أنباء أقوام كانوا قبلنا، سكنوا الأرض وعمروها،

وحرثوها وزرعوها، كانوا أولي بأس وقوة وشدة، فكذبوا المرسلين غروراً بما

لديهم من قوة، وما عندهم من علم، فأخذهم الجبار أخذ عزيز مقتدر، فأصبحوا

أثراً بعد عين وعبرة للعالمين، قال الله تعالى: [أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ

فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي

الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ

رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العِقَابِ] (غافر: ٢١-٢٢) .

كان منهم عاد قوم هود عليه الصلاة والسلام سكنوا الأحقاف بين عمان

وحضرموت [١] ، زمنهم بعد نوح عليه الصلاة والسلام؛ فهم أولُ أمة اضطلعت

بالحضارة والعمران بعد الطوفان [٢] الذي أغرق المكذبين من قوم نوح عليه الصلاة

والسلام.

قوة عاد وبأسهم:

أنعم الله على عاد بكل مقومات القوة والعمران، كما هو ظاهر في قول هود

لهم: [وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا

آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الأعراف: ٦٩) ، والبسطة: الوفرة والسعة في أمر

من الأمور [٣] ؛ فالله تعالى زادهم قوة في عقولهم وأجسادهم، وسلمهم من الآفات

والعاهات. والعمرانُ في الأرض إنما يشيد بقوة أجساد البنائين، والصناعات لا

تزدهر إلا بذلك، وقد نُسبت الدروع والسيوف إلى قوم عاد فقيل: الدروعُ العاديّة،

والسيوفُ العادية [٤] ، وقوة عاد وجبروتهم مشهورة حتى إنهم لما جاءهم هود عليه

الصلاة والسلام بالنذارة استكبروا [وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً] (فصلت: ١٥) ،

ووصفهم نبيهم بقوله: [وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ] (الشعراء: ١٣٠) .

لقد بلغ من قوتهم وشدة بأسهم أنهم بنوا في طرق أسفارهم أعلاماً ومنارات

تدل على الطريق كيلا يضل السائرون في تلك الرمال المتنقلة التي تمحو الآثار،

واحتفروا وشيدوا مصانع للمياه تجمع ماء المطر في الشتاء ليشرب منها المسافرون

وينتفع بها الحاضرون في زمن قلة الأمطار، وبنوا حصوناً وقصوراً على أشرافٍ

من الأرض [٥] ، وفي شأن هذا العمران العظيم قال لهم نبيهم: [أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ

آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا

اللَّهَ وَأَطِيعُونِ] (الشعراء: ١٢٨-١٣١) .

إغراقهم بالنعم:

مع ما وصلوا إليه من حضارة وعمران وتقدم مادي بما أعطاهم الله من بسطة

في العقول والأجسام؛ فإنه تعالى أفاض عليهم الخيرات، وفتح لهم أبواب النعم،

من وفرة المياه إلى خصوبة الأرض، والبركة في الزرع وفي الحيوان وتكاثر

الذرية؛ وبهذه النعم العظيمة ذكَّرهم هود عليه السلام فقال لهم: [فَاتَّقُوا اللَّهَ

وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُم بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُم بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ]

(الشعراء: ١٣١-١٣٤) ، وبيَّن لهم أنهم إن أطاعوه وأخلصوا عبادتهم لله تعالى

واستغفروه زادهم قوة وثراء، ونعمة ورخاء. قال لهم: [َيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ

ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ]

(هود: ٥٢) .

تكذيبهم لهود عليه السلام:

إن عاداً غرتهم قوتُهم، وبطروا نعمتهم، فرانت على قلوبهم الغفلة،

واستحكمت فيهم الشهوة، فعميت أبصارهم عن رؤية الآيات، وصُمَّت آذانهم عن

سماع المواعظ، كما هي حال كثير ممن يوعظون فلا يستمعون ولا يتعظون، بل

يستكبرون ويستهزئون ويجاهرون بعصيانهم، ولا يخافون نقمة الله وعذابه، ولذا

قالوا لهود عليه السلام: [قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الوَاعِظِينَ * إِنْ

هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ] (الشعراء: ١٣٦-١٣٨) . لقد بلغت

جرأتهم على الله تعالى مبلغاً شنيعاً حتى قالوا: [مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ

الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ] (فصلت: ١٥) ، وكان

عذرهم في عدم استجابتهم للحق أقبح من ذنبهم؛ إذ تذرعوا باقتفاء آثار السالفين

الضالين منهم، وعدم الحيدة عن سبيلهم الذي اختطوه، ودينهم الذي ارتضوه ولو

كان ضلالاً وشركاً [قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا

تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ] (الأعراف: ٧٠) ، واتهموا هوداً بالجنون كما هي

سيرة المكذبين مع أنبيائهم، والمفسدين مع المصلحين، رميهم بكل نقيصة وباطل

لصرف الناس عن الحق.

وزعمت عاد أن الجنون أصابه بسبب العزوف عن عبادة أصنامهم [قَالُوا يَا

هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن

نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا

تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ] (هود: ٥٣-٥٥) ، فما كان

عاقبة تكذيبهم إلا العذاب المهلك؛ حيث نجى الله هوداً والمؤمنين معه واستأصل

المكذبين المعاندين [فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا

وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ] (الأعراف: ٧٢) .

النهاية الأليمة:

لقد كانت نهاية عاد أليمة، وعاقبة كفرهم وخيمة، جمع الله لهم فيها عذاب

القلب مع عذاب البدن؛ فبينا هم ينتظرون الغيث بعد طول انقطاع وشدة ترقب،

فما كادوا يفرحون بسحائبه وبوادره وبداياته حتى كان مطر عذاب وليس غيث

رحمة [فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا

اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لاَ يُرَى إِلاَّ

مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ] (الأحقاف: ٢٤-٢٥) . انتهت حضارتهم،

وذهب عمرانهم، وما أغنت عنهم قوتهم من عذاب الله شيئاً، وحقت عليهم لعنة

الله في الدنيا وفي الآخرة [وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ أَلاَ إِنَّ عَاداً

كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ] (هود: ٦٠) ، إنها لآية للمعتبرين وعظة

للمتعظين، ينتفع بها من ألقى لها سمعه، ووعاها قلبه فهل من مدَّكر؟ !

الحضارة المعاصرة:

لقد كانت قصة عاد من أعجب القصص التي تتكرر في بني البشر، وقليل

منهم من يعتبر، دلت على أن الإنسان إذا أنعم الله عليه، ولم يتترس بالإيمان ضد

الشياطين والشهوات كان الهلاك مصيره، والخسران عاقبته مهما بلغ ماله وجاهه،

ومهما كانت قوته وغلبته [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ

يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلادِ] (الفجر: ٦-٨) .

إن الإنسان المعاصر الذي ينتظم في منظومة هذه الحضارة الزاهية، وينعم

بترفها قد أنعم الله تعالى عليه بنعم لا تحصى، ذلل له الأرض حتى مهدها وعبّدها،

والجبال فألانها وهدها، وأقام عليها بروجاً عظيمة، وشيد عمراناً كثيراً، ألان الله

له الحديد فابتنى به مصانع كثيرة، واستخدمه في منافع عديدة؛ حتى اتخذ المراكب

التي تنقله في البر والبحر والجو، فصار في مقدوره أن يقطع الأرض من شمالها

إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها في ساعات معدودة.

حفر الإنسان الأرض فاستخرج كنوزها، وشغّل الحديد بطاقتها، فدارت

الآلات في المزارع والمصانع تنتج للناس ما يأكلون وما يشربون وما يلبسون، وما

به يتنعمون ويترفون.

حضارة عتيدة، وعمران ضخم، وتقدم سريع، ولكن هل اعتبر الإنسان بمن

مضوا في القرون السالفة، والحضارات البائدة؟ فسخر ما أنعم الله به عليه فيما

يرضيه [كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى] (العلق: ٦-٧) .

طغى على ربه فجحد نعمته، وأعلن إلحاده وكفره حينما ظن أنه مركز الكون،

والمتصرف فيه كيف يشاء، وأن عصر تدفق المعلومات سيلغي ما يسمونه

بالأيديولوجيات بما فيها دين الإسلام والعياذ بالله!

وطغى الإنسان على الإنسان فحاربه وجوَّعه، حتى قُتلت أمم من بني الإنسان

لا تعلم لِمَ قُتِلَتْ، ولا فِيمَ قُتِلَتْ، وترمي الدول العظمى فائض الطعام في البحار في

الوقت الذي يموت فيه في كل لحظة بشر من الجوع، وتشيَّد في بلاد الغرب البيوت

والملاجئ والمستشفيات للقطط والكلاب في وقت يموت فيه بشر في العراء.

بل تجاوز طغيان الإنسان غيره حتى طغى على نفسه فارتكب ما يوبقها،

وصنع ما يهلكها من آلات لهو وفساد، وأسلحة دمار شامل وغير شامل.

كيف ستكون حضارة بني الإنسان إذا كان من يسيرها قد أعرض عن ذكر الله

وركب هواه؟ ! إنها إلى دمار ماحق، وهلاك عاجل أو آجل! !

أما كان لهم اعتبار في حضارة من سبقوا من عاد وثمود، وقوم إبراهيم وقوم

لوط، وفرعون وهامان وقارون، وحضارة اليونان وحضارة الرومان؟ أما كان

لهم في هؤلاء وغيرهم اعتبار، إنه لن ينجي البشرية من شقائها، ولن يحافظ على

حضارتها وعمرانها إلا التزام دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده والاستمساك به ولا

شيء غير ذلك، وهذا ما أفصح عنه العالم الأسباني (فيلا سبازا) بقوله: «إن

جميع اكتشافات الغرب العجيبة ليست جديرة بكفكفة دمعة واحدة، ولا خلق ابتسامة

واحدة، وليس أجدر من أمم الشرق المحتفظة بالثقافة العربية الإسلامية، والقائمة

على إذاعتها بوضع حد نهائي لتدهور الغرب المشؤوم الذي يجر الإنسانية إلى هوة

التوحش والتسلط المادي» [٦] .


(١) البداية والنهاية (١/١٣٨) .
(٢) التحرير والتنوير، لابن عاشور (٨/٢٠٥) .
(٣) المصدر السابق (٨/٢٠٦) .
(٤) المصدر السابق (٨/٢٠٦) .
(٥) المصدر السابق (١٨/١٦٧) ، وانظر تفسير الرازي (٨/٥٥٠) .
(٦) انظر: الإسلام وأزمة الحضارة الإنسانية المعاصرة في ضوء الفقه الحضاري، لعمر بهاء الدين الأميري (٢٢) عن النظام الدولي الجديد، لياسر أبو شبانة (٣٨٤) .