للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[التكلف قيود وأغلال]

من صفات الرسول -صلى الله عليه وسلم- التواضع والبعد عن التكلف، وقد

انطبعت رسالة الإسلام بهذا الخلق الذي هو انعكاس للفطرة السليمة. وليس أضر

على الدعوة الإسلامية من التقيد بالرسوم والأشكال التي تعتبر حاجزاً بين كلمة الحق

ووصولها إلى الناس.

والذي يدرس حركة انتشار الإسلام في العالم سيظفر بهذه السمة تميز سلوك

المسلمين الأوائل بوضوح وجلاء، فقد حملوا هذه الدعوة بحرارة وقوة، هي صفة

الإيمان العميق، وببساطة وعفوية هي ميزة الخلق البعيد عن التعقيد، وصفة

النفوس الجادة التي لا تنشغل بالترف - بكل أشكاله - عن الحقائق.

إن الجنس العربي الذي حمل عبء الدعوة إلى الله قد اختاره الله لأسباب

كثيرة يعلم الناس منها ويجهلون، ومن هذه الأسباب أنه جنس فطري لم يتلوث

بأمراض المدنيات التي أفسدها الإنسان بغروره وجهله بنفسه، ولم تقتل حيويته

الفلسفات الجامدة والرسوم المتكلفة التي قيدت كثيراً من البشر وتحكمت فيهم. ولذلك

لم يكن يعبأ المسلمون الأوائل بكثير مما تواطأ الناس عليه من عادات ومراسم حين

كانوا يجدونها تخالف ما أمرهم الله ورسوله به، ولم يكترثوا بتحليل الناس

وتحريمهم إذا لم يكن لذلك برهان ودليل مما أنزله الله أو قرره رسوله. وليست هذه

الكلمة مخصصة لإبراز خصائص الجنس العربي؛ ولكن الغرض منها هو التنويه

بهذا الخلق الأصيل وهو البعد عن التكلف في الأمور كلها. لقد ابتعد المسلمون شيئاً

فشيئاً عن فهم الإسلام، ودبت فيهم أمراض اجتماعية وثقافية كثيرة، ومنها تأثرهم

بما وفد عليهم من أفكار غيرهم من الأمم. وهذا هو الواقع الذي كان ومازال،

والذي ينبغي أن لا ينكر أو يجادل فيه، لقد تراكمت مؤثرات أجنبية وأساليب غريبة

لا علاقة لها بالإسلام، وليست من روحه أو من أصوله، فحالت بين المسلمين

وبين التفاعل مع الحياة بما يمليه عليهم الصحيح من أصول دينهم، وأصبح

المسلمون يحاربون في جبهات ثلاث:

جبهة أعداء الإسلام الخارجيين.

وجبهة أعدائه الداخليين.

وجبهة الأفكار الدخيلة التي اعتنقها المسلمون بحسن نية.

وقد تكون هذه الأخيرة أشد الجبهات.

إذا رجعنا إلى هدي النبي فإننا نجد أن سيرته -صلى الله عليه وسلم- كانت

حرباً على التكلف حيثما كان وفى أي صورة وجد، التكلف في الأقوال والأفعال،

والتكلف في المعيشة، فقد ذم الرسول الكريم-صلى الله عليه وسلم- الثرثارين،

والمتفيهقين وذم التنطع، وكان يجلس حيث انتهى به المجلس، وينهى أن يسلك

معه في توقيره وإطرائه مبالغات الأعاجم، ولم يكن يتميز عن أصحابه بلباس أو

شارة، وكان طبعه أن يشارك أهل بيته أعمالهم، ويشارك أصحابه نشاطاتهم، ولم

يكن الدين عنده مظهراً وهنداماً لا يصح الإخلال به؛ بل حقيقة قلبية، وسلوكية

نابعة من ذلك تفيض خيراً لمصلحة الجماعة.

ما الذي نحتاجه اليوم في حياتنا الحاضرة من ذلك؟ .

إننا نحتاج إلى عزمة صادقة نصارح بها أنفسنا لنرى حيثما التفتنا حولنا

أكداساً من الأعراف الثقيلة التي تراكمت على الصورة الصحيحة للإسلام، هذه

الأعراف التي اختلطت بالعقائد والأخلاق الإسلامية حتى أصبح من الصعب على

كثير من المسلمين التمييز بين ال٠أصيل والدخيل، والضروري وغيره.

إن كثيراً من هذه الرسوم والأشكال جاء عن طريق المدنيات الوثنية، وتبناه

المسلمون في فترات متعاقبة، فأعاقهم عن النهوض وعمل على شل حركتهم،

وأوضح مثال على ذلك الدولة العثمانية، فقد ورثت هذه الدولة من الأعراف الجامدة

والشكليات المكبلة - سواء من الإمبراطورية البيزنطية المغلوبة، أو من الشعوب

الكثيرة التي انضوت تحت حكم العثمانيين - ما أثر في بقائها، وساعد على ضعفها

فيما بعد، ثم على انتهائها.

ونحن إذ نذكر ذلك نذكره لاستنباط الدرس الذي يفيد في الدعوة الإسلامية،

فلن تنجح هذه الدعوة إلا بمنهج يشكل نبذ التكلف أحد أعمدته الرئيسية، اقتداء

بسيرة محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، التكلف الذي يقيد العمل، ويهمل

الجوهر، ويلتفت إلى ما لا ينفع، إما لسهولته، وإما لسهولة خداع الناس

واسترضائهم بواسطته، هذا التكلف المقيت الذي يهدر طاقات الأمة فيما لا يجدي

ولا يثمر غير الخيبة والغفلة، التكلف الذي يجعل أمة تنفق الألوف المؤلفة على

الجوانب التافهة، وتقتر إلى أبعد حدود التقتير على الجوانب المهمة.

إن الأمم التي تبنى المسارح والمسابح ومدن الملاهي، وتستورد الفرق الفنية

من كل جهات الأرض من جهة، وتهمل التفكير الجدي في حل معضلة إطعام

شعوبها حتى لا تلجأ إلى استجداء البنك الدولي والدول الغنية من جهة ثانية؟ لهي

أمم غارقة في بحار التكلف مكبلة بأغلاله، وهى حين تخسر الملايين على مثل هذه

الترهات التي تشغل شعوبها بها لا تخسر مالها ومدخراتها فقط؛ بل تخسر شعوبها

وكرامتها، ولا يبقى لها من شيء تفتخر به إلا الأكاذيب التي لن يصدقها أحد.

لا مخرج لنا، ولا أمل في تحسن الحال ما لم ننفض عنا أردية التكلف،

وأثواب الزور، وأن نصدق مع الله ثم نكون صادقين مع أنفسنا فنبحث عن عللنا

ونعترف بها، وإلا فالبديل عن ذلك هو الفضيحة.

ألم يشر النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بقوله: «المتشبع بما

لم يعط كلابس ثوبي زور» ؟ ! .

ونختم ما نحن فيه بما علقه الشيخ محمد حامد الفقي في كتاب (اقتضاء

الصراط المستقيم) ص ١٥٠، من كلمة حق مشرقة، حيث قال:

(.. والحق الذي لاشك فيه: أن الشيطان ما ركب إلى الأمة الإسلامية

لإفسادها إلا مطايا منافقي العجم، من فرٍس، وهند، وروم، حتى أكبهم على

وجوههم فيما هم فيه اليوم، من انحلال ووهن، في العقول والقلوب، والاختلاف

في العقائد، والتفكير، والأعمال. ولا صلاح لهم؛ ولا علاج مما هم فيه إلا بأن

يعودوا عربا في لسانهم، وتفكيرهم، وأخلاقهم، ليفقهوا القرآن، ويعرفوا هداية

الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ فيكونوا بها مسلمين يستحقون أن يحقق الله لهم

ما وعد المسلمين الصادقين) .