للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[حرب «تحرير» العراق]

قراءة جديدة في أقوال قديمة

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه

ومن والاه، وبعد: فإن طبائع الأمور تقضي في الغالب بأن تُطلق الأقوال لتشرح

الأحداث والأفعال، أما أن تتولى الأحداث والأفعال شرح الأقوال التي مرت عليها

أجيال وأجيال؛ فإن ذلك إن دل على شيء فإنما يدل على أن تلك الأقوال لم تكن

عابرة، بل هي معبِّرة عن إصرار وعناد لدى قائليها كي يحولوها إلى واقع وحقيقة.

يصدق هذا بشكل كبير على ما جرى في العراق، فالعراق كان يشغل حيزاً

كبيراً في اهتمامات أعداء الأمة ومخططاتهم ومؤامراتهم؛ انطلاقاً من تحريفات

أُلبست ثوب الثوابت المحكمة، وتحريفات أُعطيت شَبَه الحقائق المسلَّمة، مع أن

تلك الدعاوى لا يكاد يصدقها عقل صحيح، أو يؤيدها وحي صادق.

ولكن الإشكال هنا أن تلك التحريفات والتخريفات وجدت أعيناً ساهرة على

إحيائها وإخراجها إلى حيز الوجود، ونقلها من أطر الأساطير إلى دنيا الحقائق

والشهود.

قالوا إن العراق لا بد أن ينضم يوماً إلى إرث الأمة الغضبية، لتبدأ من فراته

شرقاًَ حدود الدولة التوراتية المزعومة وعداً لإبراهيم - عليه السلام -، ولتصل

تلك الدولة غرباً إلى حدود نهر النيل في الديار المصرية! ونسبوا إلى الرب جل

وعلا قوله لإبراهيم عليه السلام: (لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى

النهر الكبير نهر الفرات) [سفر التكوين الإصحاح: ١٥/١٨] .

وفي تزكية أبدية لهذا (النسل) حَجَرَ هؤلاء على التاريخ أن يحفظ في

دواوينه نقيصة لهؤلاء الذين قالوا: [نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ] (المائدة: ١٨) ،

حتى لو لعنهم الله على ألسنة أنبيائهم كما في قوله عز وجل: [لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا

مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ]

(المائدة: ٧٨) ، هذا اللعن الذي تكرر عليهم في كتبهم (المقدسة) أكثر من

تكرار الكلام عن كثير من الأحكام.

إنهم على الرغم من اللعن والطرد من رحمة الله يقولون نحن جديرون بوعد

الله بإرث هذه الأرض التي وعدها الله نسل إبراهيم، ونسوا أن إسماعيل - عليه

السلام - وذريته من نسل إبراهيم - عليه السلام - أيضاً بنصّ توراتهم نفسها، لقد

ظلوا مع هذا يرددون: (لنسلك أعطي هذه الأرض ... ) ؛ منذ عصر التشريد

والتيه إلى عصرنا هذا الذي نعيشه، فبعد عشرات القرون من العجز والذلة

والمسكنة المضروبة على كفار بني إسرائيل؛ جاء هذا العصر الذي تمكنوا فيه

بحبل من النصارى لكي يعيدوا القول ويعودوا للعمل لتحقيق ذلك الوعد المزعوم

للخليل - عليه السلام -، وانطلاقاً من هذه العبارة انطلق مشروع تسلطي رهيب،

ظل ينتقل في محطات التنفيذ بدءاً من فلسطين، حتى وصل الأمر إلى الحال

الراهنة التي استبيحت فيها أرض العراق ضمن مشروع (إسرائيل الكبرى) ؛ لكي

تُسلَّم مفاتيح ثرواته ومقدراته نفطاً وماءً وأرضاً وسماءً إلى العصابة الصهيونية

العالمية والإقليمية.

ما يحدث في هذه الآونة هو شرح عملي لأقوال وتصريحات صدرت طوال

قرن مضى، كان العرب والمسلمون خلالها نائمين أو متناومين؛ في حال انشغال

دائم بأزماتهم الداخلية، وصراعاتهم الحدودية، وشعاراتهم الثورية، مصروفين عن

مواجهة مشروعات الأعداء وخططهم التي لم تكن خفية يوماً.

نريد هنا أن نستعرض ما استعلن به الأعداء قديماً وحديثاً، لا لنتذكر فقط أن

ما حدث للعراق كان أمراً مخططاً سلفاً، ولكن لندرك أن هذا الذي يحدث الآن هو

ضمن خطة أبعد من بغداد والفرات، بل من سيناء والنيل، إنها عندهم تمتد

لتصل إلى جنوب تركيا وشمالي سورية، وحتى مشارف المدينة المنورة.

وإليك أيها القارئ بعضاً من الأقوال القديمة لتقرأها قراءة جديدة في ضوء ما

يحدث، وما يمكن أن يحدث؛ علماً بأن النصارى وبخاصة البروتستانت يعدُّون

أنفسهم من أصحاب ذلك الوعد؛ لأن الأنجلوساكسون كما يدَّعون هم من بقايا

سلالات بني إسرائيل.

- في تفسيره لنص الوعد المزعوم في التوراة؛ قال المؤرخ د. جورج

بوست في كتاب (قاموس الكتاب المقدس) : «الأرض الموعود بها إبراهيم

الموصوفة في كتاب موسى؛ تمتد من جبل هور إلى مدخل حماة، ومن نهر مصر

إلى النهر الكبير نهر الفرات، وأكثر هذه الأراضي كانت تحت سلطة سليمان،

فكان التخم الشمالي حينئذ سورية، والشرقي في الفرات، والجنوبي برية التيه في

سيناء، والغربي البحر المتوسط» .

- في يومياته التي كتبها مؤسس الصهيونية الحديثة؛ قال تيودور هرتزل،

ص ١٤٧٣: (إن القاعدة يجب أن تكون فلسطين أو بالقرب منها، إن علينا تشييد

البنيان على أساس قوميتنا اليهودية) .. (إن الشعار الذي يجب أن نرفعه: هو

فلسطين داود وسليمان) .. (المساحة.. من نهر مصر إلى نهر الفرات، نريد

فترة انتقالية في ظل مؤسساتنا الخاصة، وحاكماً يهودياً خلال تلك الفترة، بعد

ذلك تنشأ علاقة كالتي تقوم الآن بين مصر والسلطان) .

- وفي رده على لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة؛ وعندما تحدثت

تلك اللجنة عن حدود تختلف عن الحدود التوراتية في زعم اليهود؛ قال الحاخام

اليهودي فيشمان عضو الوكالة اليهودية في الأربعينيات من القرن الماضي:

«الحدود: من مدينة الإسكندرية، محيطة بمنطقة الدلتا غرباً في مصر، ثم

تمتد جنوباً مع مجرى النيل، لتتجه شرقاً في خط مستقيم، قاطعة الجزيرة

العربية، حتى محاذاة مصب نهر الفرات، ثم تصعد الحدود مع مجرى الفرات

حتى حدود تركيا لتصل إلى سوريا، لتقفل الدائرة بعد ذلك بالحدود الشرقية للبحر

المتوسط) .

- في العديد من خطبه وتصريحاته؛ أصر (داود بن جوريون) أول رئيس

وزراء لدولة اليهود على أن يبين أن فلسطين هي المحطة الأولى، أو قاعدة

الانطلاق كما قال سلفه هرتزل، وفي تصريح له عام ١٩٤٨م بعد إعلان الدولة قال:

» على الشعب اليهودي أن يجمع قواه لتحقيق هذه الخطط، للوصول إلى الهدف

النهائي في بناء الدولة اليهودية التي تضم يهود العالم جميعاً، وتحقق النصوص

الواردة في التوراة «، وقال بن جوريون في تصريح له عام ١٩٥٣م بعد خمس

سنوات من إعلان الدولة:» إننا لم نحقق بعد هدفنا وهو النصر النهائي، فنحن

حتى الآن لم نحرر من بلادنا سوى قسم واحد فقط، وسنجعل الحرب وظيفة يهودية

حتى يتم تحرير بلادنا كلها بلاد الآباء والأجداد، وسنحقق رؤيا أنبياء إسرائيل «،

وقال في تصريح آخر: (أرضنا من البحر المتوسط حتى الفرات، ومن لبنان إلى

نهر النيل) .

- وبعد استقرار الدولة اليهودية واعتراف العالم بها، واتخاذها علماً رسمياً

يضم خطَّيْن أزرقَيْن تتوسطهما نجمة داود، قال جوزيف رستوا أحد خبراء

الاستراتيجية الإسرائيلية مفسراً ذلك الرمز على العلم: (العلم الإسرائيلي مساحة

بيضاء، يحدهما شريطان عموديان باللون الأزرق؛ هما نهرا الفرات والنيل) .

- وقبل توليه منصب رئيس الوزراء في (إسرائيل) ومشاركته في عقد

اتفاق سلام مع مصر بنحو ربع قرن؛ أكد» مناحيم بيجن «أن (أرض إسرائيل

الكاملة) هدف لا يقبل المساومة، وقال:» إن إسرائيل بوضعها الحالي لا تمثل

إلا خُمس ما يجب أن تكون عليه أرض الآباء والأجداد، ومن ثم يجب العمل على

تحرير الأخماس الأربعة الباقية «وبعد أن تولى منصب الرئاسة، كتب في مذكراته:

» لن يكون سلام لشعب إسرائيل ولا لأرض إسرائيل حتى ولا للعرب؛ ما دمنا

لم نحرر وطننا بأجمعه بعد، حتى لو وقَّعنا معاهدات صلح « [١] .

هذه التصريحات، لم تكن مجرد كلمات من الزعماء والساسة، ولكن كان

وراءها دائماً أجهزة فعالة، وعلى رأسها المؤتمر الصهيوني العالمي الذي أعلن في

توصيات المؤتمر الصهيوني الثالث والعشرين المنعقد في القدس في أغسطس سنة

١٩٥١م: (لا ينبغي أن نجبن عن الجهر بعزم الصهيونية على جمع يهود العالم في

أرض إسرائيل الكاملة) .

وهذه المساعي اليهودية التوراتية المحمومة كانت دائماً مدعومة بمساندة

إنجيلية نصرانية تستند أيضاً إلى نصوص في الإنجيل خاصة في سفر الرؤية عن

شأن نهر الفرات في آخر الزمان، وأنه سيجف لتمر عليه جيوش جرارة ستلتقي

للقتال في فلسطين، وقد ذكر اسم نهر الفرات في العهدين القديم والجديد أكثر من

٢٠ مرة.

وقد جعل النصارى المتهودون من النصوص الإنجيلية مادة تدعو للسيطرة

على الأرض الممتدة من النيل إلى الفرات للتعجيل بمجيء المسيح، ففي تصريح

لصحيفة كوريوتايمس تلجراف الصادرة في فبراير ١٩٨٣م؛ قال القس الصهيوني

الأمريكي الشهير (جيري فالويل) :» أفضِّل أن يستولي الإسرائيليون على أجزاء

من العراق وسوريا وتركيا والسعودية ومصر والسودان، وكل لبنان والكويت «،

وكان كلامه في معرض الاستعداد التاريخي لملحمة المسيح!

وتجيء حرب العراق التي أسماها الأمريكيون والبريطانيون الأنجلوساكسون

المتهودون:» حرب التحرير «تماماً كما سميت حرب النكبة في فلسطين عام

١٩٤٨م؛ لتؤكد بشكل عملي ما ظل يتردد بشكل نظري لأكثر من مئة عام؛ عن

الوعد المدعى منذ أربعة آلاف عام، وتبرهن أمام الناس أن التحالف اليهودي

النصراني لا يلعب ولا يضيع وقتاً، ولا يدع شيئاً للصدف.

وتجيء الجيوش البروتستانتية لتقود الجولة الثانية ضد العراق نيابة عن الدولة

اليهودية، قاصدة الفرات وعينها على النيل في مرحلة لاحقة، وكيف لا؛ وسيناء

المنزوعة السلاح لا تقل قداسة عند اليهود والمتهودين من القدس نفسها؟!

لم يعد سراً أن خطة (تحرير العراق) هي خطة يهودية صرفة، وضعها

فريق المتنفذين اليهود في الإدارة الأمريكية وعلى رأسهم (ريتشارد بيرل) . أما

» الرئيس «الأمريكي المرشح لرئاسة العراق المحتل، والذي سيخلف صدام حسين،

كما يرتب الآن؛ فهو الجنرال المتقاعد (جاي جارنر) رئيس مكتب إعادة التعمير

والمساعدات» الإنسانية «في وزارة الدفاع الأمريكية، وقد قدم بالفعل إلى الكويت

منذ بداية الحرب، وانتقل بعد الحرب إلى بغداد لمباشرة مهامه في العراق.

إن ذلك الجنرال الأمريكي القادم لحكم العراق فوق دبابة صليبية عَبَرت من

أرض عربية؛ هو صهيوني عريق، وأحد أعضاء المعهد اليهودي لشؤون الأمن

القومي بأمريكا، وقد كان يتردد على (إسرائيل) باسم ذلك المعهد، وهو جزء من

العصابة الليكودية نفسها التي خططت للحرب التي نفذها بوش، وسيطرة هذا

الصهيوني ستكون سيطرة في الوقت نفسه لشارون، وحُكمه لبغداد سيكون كما لو

حكمها شارون.

لقد دعا حاكم العراق الصهيوني الأمريكي الجديد مع فريقه المخطط للحرب

مثل وولفوفيتز، وريتشارد بيرل، ودوجلاس فايث؛ منذ أكثر من عشر سنوات

إلى إلغاء عملية السلام، وفرض سيطرة إسرائيلية بالقوة على الدول العربية كلها

بمساعدة أمريكية؛ بدءاً من العراق بالتحديد، وذلك قبل أن تنطلق الانتفاضة، أو

تحدث تفجيرات ١١ سبتمبر، أو يؤسس أسامة بن لادن الجبهة العالمية لمحاربة

الصهيونية، أو ينشئ الملا عمر حركة طالبان!! بل إنهم، وقبل عشر سنوات

أيضاً، دعوا إلى ضرب سورية بعد إيران؛ تمهيداً لفرض أوضاع جديدة في بقية

البلدان العربية، ثم الإسلامية الواقعة في إطار» الشرق الأوسط الجديد «الذي

يمتد من المغرب إلى أفغانستان.

إن حدثاً تاريخياً خطراً جرى هذه الأيام، ولكننا ما زلنا في سكرة السِّكين لم

نشعر بفداحة حجمه، وهو وصول اليهود إلى الفرات بعد عهد دولة داود وسليمان -

عليهما السلام - بثلاث آلاف عام.

هل وعى سياسيونا الحكماء المحنكون أبعاد مسلسل السيطرة المتحقق بانتظام

على أرض الواقع العربي والإسلامي منذ أكثر من مائة عام؟! أم يريدون الانتظار

حتى تكمل بقية المراحل الأخرى بذرائع أخرى غير ذرائع (تحرير العراق) ؟! إن

بقية نهر الفرات تمتد على أرض سوريا، وسوريا الآن في مهب المواجهة.

وإذا كان سياسيونا الحكماء المحنكون لا يعون؛ فهل نعي نحن؟! وهل ندرك

نحن الإسلاميين خطورة الوضع الذي وصلت أمتنا إليه، والذي يمكن أن تصل إليه

في ظل هواننا حكاماً ومحكومين؟!

اللهم لطفاً ... اللهم لطفاً!


(١) كتاب الثورة، لمناحيم بيجين، ص ٢٣٥.