المسلمون والعالم
[الحرب بوسائل السلام]
شذرات من ملف السلام بين مصر والعدو الصهيوني
كمال السعيد حبيب
هناك حقيقة يجب أن نعيَها تماماً هي أن الحرب لا تقتصر فقط على صِدَامِ
الجيوش في ساحات المعارك؛ ولكنها تمتد إلى مجالات السياسة والاقتصاد
والاجتماع والثقافة، وإذا كان (كلاو زفتر) العسكري الألماني الشهير قال: (الحرب
هي السياسة بوسائل أخرى) فإنه يمكننا القول أيضاً: (إن السياسة هي الحرب أيضاً
بوسائل السلم) لذا فإن العلاقات بين الدول حتى تلك التي تنتمي إلى معسكر واحد لا
تعرف انتفاء الصراع بينها ويطلق عليه في هذه الحالة: (الصراع التعاوني) .
وفي العالم المعاصر تبدو وسائل السلم في الصراع أشد فتكاً وخطراً؛ وتكفي
الإشارة فقط إلى ما حدث من انهيار في بورصات آسيا وأسواقها؛ حيث يبدو هذا
الانهيار من ناحية نتائجه أشد خطراً من الحرب.
وفي العلاقة بين مصر و (إسرائيل) عقب توقيع اتفاقية السلام بين البلدين لم
تنته حالة الحرب والصراع؛ لكنها اتخذت أشكالاً أخرى في مجالات الاقتصاد
والثقافة والأخلاق والاجتماع.
وفي الواقع فإن أوهام السلام في بداياته قد أحاطت بعقول صُنّاع القرار في
مصر، فجعلتهم يراهنون على أن تكون لدى الساسة اليهود مثل ما لديهم من رغبة
في السلام متناسين (الطبيعة الخاصة لليهود) التي أبانها القرآن الكريم في غير
موضعٍ، لكن الواقع الحي والخبرة اليومية العملية المستمرة على مدى ثمانية عشر
عاماً في التعامل مع اليهود ردّت هؤلاء الساسة إلى جادة الحق فاستيقظوا من
غفوتهم ويمّموا وجوههم شطر إخوانهم في العالم العربي والإسلامي لبناء علاقات
اقتصادية وسياسية حقيقية معهم.
زيف السلام مع اليهود:
ذكرت إحصائية رسمية أنه بعد مرور ما يقرب من عشرين عاماً على توقيع
معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية بلغت الاحتجاجات الرسمية لـ (إسرائيل) ضد
مصر ما يقرب من (٣٧٥٠) احتجاجاً مقابل (١٩٤٠) احتجاجاً مصرياً وهو رقم
غير مسبوق في تاريخ الديبلوماسية العالمية. وتؤكد أرقام الاحتجاجات المتبادلة بين
البلدين أن السلام بينهما هو (سلام للحرب والصراع) فإذا عدنا إلى تفاصيل ملف
هذه العلاقة تأكد لدينا زيف السلام مع الصهاينة؛ ففي المجال الاقتصادي تشير
التقديرات إلى أن حجم الاستثمار اليهودي في مصر بلغ ٧١٣ مليون دولار تنحصر
بشكل أساس في مجال الزراعة والبترول والنسيج.
ففي مجال الزراعة يدفع الكيان الصهيوني (عشرة ملايين دولار) لتمويل
نفقات عمل خبرائه الزراعيين بمنطقة النوبارية ووادي النطرون وسيناء
والإسكندرية؛ وذلك تحت مسمى: (استغلال الأراضي المصرية حقولَ تجارب
لأصناف البذور (الإسرائيلية) الجديدة) ويدفع هذا الكيان أيضاً (عشرين مليون
دولار) بداية من عام ١٩٨٥ بدعوى تدريب الخبراء المصريين في (إسرائيل) .
وتشير التقديرات أن عدد الخريجين المصريين الذين درسوا في (إسرائيل) بدءاً من
عام ١٩٩٤م بلغوا (١٧٠٠ متدرباً) ، ويستثمر الكيان الصهيوني في مجال توريد
الفاكهة لمصر ما يقدّر (بعشرين مليون دولار) ضمن الـ ٧٥ مليون دولار وهي
حجم التبادل التجاري بين البلدين عام ١٩٩٦م.
أخطار جلبها الصهاينة:
وبالعودة إلى الممارسة العملية في هذا المجال تبين أن (إسرائيل) تقوم بإغراق
الأسواق المصرية بسلع منتهية الصلاحية وملوثة بالإشعاعات؛ ولذا فإن وزير
التجارة والتموين المصري أصدر قراراً بضرورة الفحص الدقيق والشامل لكل السلع
(الإسرائيلية) الموجودة بالأسواق، وأثبت الفحص المبدئي أن ٥٠% من السلع
(الإسرائيلية) بالسوق المصرية مهرّبة وأغلبها موجودة بالمناطق الشعبية، وحدثت
حالات تسمم نتيجة لتناول هذه السلع، وتمزج (إسرائيل) مواد مشعة بالأدوية التي
تصدِّرها إلى مصر بحيث تقضي على الذين يستخدمونها بعد سنوات قليلة؛ لأنها
ليست سريعة المفعول؛ وتؤكد آراء الخبراء أن التعاون مع اليهود في مجال الإنتاج
الزراعي والفني والهندسة الوراثية له آثار سلبية واضحة فيما يتعلق بنوعية
المنتجات وقيمتها الغذائية وكذلك على النواحي الصحية؛ بالإضافة إلى انخفاض
إنتاجية الفدان ونقل الفيروسات والطفيليات إلى النباتات الأخرى. وتعد السلع
اليهودية سلعاً منافسة للمنتجات الوطنية وهو ما يؤثر على قدرتها التنافسية لصالح
المنتجات الصهيونية، وما ذكر عن وجود ٥٠ مليون دولار فائض في الميزان
التجاري بين البلدين لصالح مصر لا يعود إلى أن مصر تصدِّر لإسرائيل أكثر من
استيرادها منها؛ وإنما يرجع ذلك إلى أن البترول المصري يمثل ٩٠% من قيمة
الصادرات المصرية إلى الكيان الصهيوني.
وفي مجال البترول رصدت شركة (مرحاف) ٥٠٠ مليون دولار للاستثمار في
مصر، وتبني إسرائيل آمالاً كباراً على مشروع الغاز المصري وتوصيله إليها؛
لأنه سيوفر لها ٢٠٠ مليون دولار سنوياً، وفي مجال الكمبيوتر تستثمر (١٠ مليون
دولار) حيث توجد عمالة مصرية رخيصة (يصل أجر العامل الإسرائيلي عشرة
أضعاف أجر العامل المصري) .
وفي تصريح لوزير الطاقة المصري (حمدي البنبي) قال بأن الغاز الطبيعي
لن يمد إلى (إسرائيل) وأنه سمع عن المشروع من الصحف؛ لأن التصدير إلى
(إسرائيل) لا يمثل سوى نسبة ضئيلة غير اقتصادية.
وفي مجال برامج الأطفال نجد برنامج (الباور رينجرز) الذي كان يعرض في
التلفزيون المصري في شهر رمضان عقب الإفطار العام الماضي، وهو برنامج
تملكه شركة (حاييم صابان) اليهودي المصري الأصل وهو يستثمر في هذا المجال
(٧٠ مليون دولار) .
وقد توقف هذا العام ولم نعد نرى الانتشار الوبائي لإعلانات (الباور رينجرز)
التي طالت كل شيء بدءاً من الأحذية والحقائب حتى الملابس.
وفي مجال النسيج ترصد (إسرائيل) مئات الملايين من الدولارات لضرب
الصناعة المصرية العتيقة في أسواق الداخل والخارج، وشركة (كفرون) هي أشهر
الشركات التي كانت تعمل من الباطن في مجال صناعة المنسوجات وكان يعمل بها
الجاسوس الدرزي الإسرائيلي (عزام متعب عزام) والجاسوس المصري (عماد الدين
إسماعيل) . وفي مجال المعلومات تستثمر شركة (ماج) الصهيونية في مصر مبلغ
مليون دولار حيث كانت تعمل في جمع المعلومات الاقتصادية عن الشركات
المصرية، وتقوم ببيعها؛ وهذا النشاط يمثل الدرجة الأولى من درجات سلم
التجسس الصناعي المعلن.
وفي مجال الأدوية تم اكتشاف شركة يهودية تعمل تحت غطاء هولندي تمتلك
شركة للخامات الدوائية بمنطقة (إنشاص) الحسّاسة بمبلغ ١٠ مليون دولار، أما
التجارة اليهودية المهرّبة وغير الشرعية إلى مصر فتبلغ ٤٠ مليون دولار.
خطر تهافت الشباب المصري عليهم:
وفي ظل عملية السلام سافر كثير من الشباب المصري إلى (إسرائيل) ،
وتشير التقديرات إلى أنهم بلغوا (١٥ ألفاً) في العام، وكان يتم تجنيد كثير من
هؤلاء من قِبَلِ الموساد وهو ما أدى إلى مطالبة لجنة القوى العاملة في البرلمان
المصري بوضع ضوابط على سفر المصريين للعمل في (إسرائيل) وهي التوصية
الأولى من نوعها في هذا المجال، وأعيد شرط الإذن الأمني لمن يريد السفر إلى
هناك. وتشير التقديرات إلى أن الذين سافروا إلى (إسرائيل) من المصريين عام
١٩٩٧م لم يزيدوا على (١٣) ثلاثة عشر شخصاً.
وبعد الحكم على (الجاسوس الإسرائيلي) (عزام عزام) بالسجن (١٥ عاماً)
بدأت الشرطة الصهيونية في القبض العشوائي على المصريين هناك لكي تبادل بهم
الجاسوس؛ وكانت هذه فكرة (إرييل شارون) وزير البنية التحتية الصهيوني.
وبلغت وقاحة السفير الصهيوني في مصر (زيفي ميزائيل) إلى نقد الصحافة
المصرية ومهاجمتها في لقائه بجمعية المراسلين الأجانب؛ لأنها على حد زعمه
تسيء للعلاقة بين البلدين، رغم أنه لا يجوز لأحد أن يتدخل في عمل الصحافة
باعتبارها سلطة حرة، كما اعترض على هيئة المساحة المصرية؛ لأنها رفعت
عنوان السفارة الصهيونية والمركز الأكاديمي الصهيوني من خريطة السياحة
المصرية.
ماذا فعلوا بالأسرى المصريين؟ !
ويمثل ملف (الأسرى المصريين) أحد الملفات التي تكشف عن الوجه
الصهيوني القبيح، وقد كشف عن هذا الملف الصهيوني (أرييه بيرو) نائب (رافائيل
إيتان) رئيس الأركان الصهيوني السابق الذي كان يقود الكتيبة ٩٠؛ حيث اعترف
بقتل (٤٩) مصرياً من العسكريين و (٣٠٠) من عمال إحدى الشركات البترولية،
وتشير المعلومات إلى أن المقابر الجماعية للأسرى المصريين تبلغ (١١) مقبرة،
منها مقبرة (وادي ميدان الجماعية) و (وادي العريش الجوية) ، وكان اليهود يبيعون
أعضاء الأسرى المصريين قطع غيار، كما كان الطلبة في كليات الطب الإسرائيلية
يستخدمون أجسادهم في مختبرات التجارب!
وأخيراً وليس آخراً:
وآخر النقاط المتوترة في العلاقات بين البلدين هي محاولة ابتزاز السفير
المصري (محمد بسيوني) عن طريق فضيحة أخلاقية، وقد عاد فعلاً إلى مصر ولم
يرجع بعدُ إلى هناك، وقبل ذلك تعرضت سيارته للتفتيش خلافاً للتقاليد الديبلوماسية، كما هاجم السفارة المصرية في (تل أبيب) متطرفون يهود حيث فتشوا طروداً بها، وبلغت وقاحة (نتنياهو) اعتبار ما حدث مجرد (مداعبات) للسفير؛ وهنا رد عليه
الرئيس المصري وقال: إن ذلك استفزاز لكبرياء مصر، وقد يؤدي إلى عواقب
وخيمة!
هذه بعض الشذرات من ملف السلام مع العدو الصهيوني، وهو ملف متخم
بالعداء والكراهية والتخريب إنه سلام الحرب والردع كما يشير (نتنياهو) وكان لا
بد لمصر أن تستيقظ على أن (اليهود) لا عهد لهم ولا ذمة، وتراجع سياستها داخلياً
وخارجياً.
يقظة مصر:
رفضت مصر عدم الذهاب إلى (مؤتمر الدوحة الاقتصادي) رغم التهديدات
الأمريكية، وكانت حجتها أنه لا يمكن التقدم في مجال (التعاون الاقتصادي الإقليمي)
بينما عملية السلام تنتكس ويتلاعب بها اليهود؛ ومعنى ذلك هو مكافأة المجرمين
المعتدين. ويعد عدم ذهاب مصر إلى مؤتمر (الدوحة) إعلاناً لنهاية أطروحة
(الشرق أوسطية) التي طرحها (شيمون بيريز) كإطار اقتصادي تكون (إسرائيل) فيه
مركز التفاعلات الاقتصادية في العالم العربي.
وعلى المستوى العربي سياسياً بدأت مصر تراجع سياستها تجاه (السودان)
واستقبل الرئيس المصري (الزبير صالح) نائب الرئيس السوداني قبل مقتله في
حادثة سقوط طائرة مروحية، وبدأ تنشيط العلاقات ثانية بين البلدين في مجالات
الملاحة النهرية وإعادة ممتلكات المصريين في السودان، واستقبلت مصر المتمرد
(جون جارانج) لتفهمه أن مصر لا يمكنها أن تقبل تهديد وحدة السودان، ورفضت
مصر قرار العقوبات الأمريكي على السودان، كما أعلنت رفضها (لجولة أولبرايت)
الأخيرة في إفريقيا، هذه الجولة التي استقبلت فيها المعارضة السودانية وأعلنت
العزم على إسقاط نظام الخرطوم، وقالت مصر: (إن السودان ليست قاعدة
للإرهاب، وإنه لا يشكل خطراً على جيرانه) وهناك إعداد لزيارة البشير لمصر،
وتسعى مصر لتحقيق مصالحة داخلية بين المعارضة السودانية والنظام. وأصبح
للسودان الآن في مصر سفير، وسيذهب سفير مصري إلى السودان بعد قطيعة
دامت عامين.
ورفضت مصر توجيه ضربة عسكرية للعراق، كما تسعى لرفع المعاناة عن
شعبه، وهي حريصة على وحدته باعتباره في التحليل النهائي جزءاً من تحقيق
التوازن شرق العالم العربي.
وعلى مستوى التعاون الاقتصادي العربي تدعو مصر إلى اعتبار السوق
العربية المشتركة خياراً استراتيجياً لا يمكن التفريط فيه، وسيبدأ العمل في مناطق
التجارة الحرة هذا العام، وهو ما يعني رفض مصر للمشاريع البديلة للنظام العربي. كما تتجه مصر شرقاً (مجموعة الـ ١٥) لمحاولة تخفيف قيود علاقاتها بأمريكا.
مبادرة مطلوبة:
المشاريع الصهيونية تجاه المنطقة لا تستبعد الحرب حتى مع العرب الذين
دخلوا معها في اتفاقية شراكة استراتيجية مثل (الأردن) ، ولا تزال إسرائيل ترى
مصر عدوها الرئيس، كما لا يزال الجيش المصري يرى (إسرائيل) عدواً له.
وفي الواقع فإن (اليهود) هم (الابتلاء) الذي تختبر به الأمة الإسلامية؛ لذا فإن
التدافع معها لا محيص عنه وفقاً لما نطلق عليه: (الأمم المتدافعة) في مقابل (الأمم
المتحدة) .
وصراعنا - نحن المسلمين - مع اليهود هو صراع وجود لا صراع حدود،
وهو صراع عَقَدي ديني؛ وفي السّنّة: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر
والشجر: يا مسلم، يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من
شجر اليهود) ، والصهاينة كلما بنوا مستوطنة أحاطوها بالغرقد التين الشوكي.
وحيث إن المعركة مع اليهود هي معركة عقدية دينية فعلى مصر أن تستكمل
حلقة الاستعداد للمواجهة القادمة وتصلح ما بينها وبين الحركة الإسلامية فتخفف
القيود عن حركتهم، ولا تسمع لوساوس اليهود.
فاليهود يرون أن عدوهم الأساسي هو الحركة الإسلامية؛ لذا فإنهم يغرون
النظام ضدهم حتى يستفيدوا هم؛ وبعد كشف خفاء الوجه الصهيوني القبيح فإن
الخطوة القادمة تفرض المصالحة مع الحركة الإسلامية حتى يمكن الاستعداد
للمواجهة الحتمية مع اليهود التي لا نملك لها دفعاً.