للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[العرافة والوساطة الروحية رحلة ما بين أثينا وباريس]

معمر فوزي الخليل

مهنة عمرها آلاف السنين:

العِرافة: - بالفرنسية - OARACLE مشتقة من اللفظ اللاتيني

ORACULUM بمعنى النبوءة، والمقصود بها هنا إجابة الآلهة عن طريق

عراف أو كاهن على أسئلة السائلين فيما يتعلق بمستقبلهم كالزواج والتجارة والسفر

والحروب ... إلخ.

أما الظهور الأول الذي تشير إليه كتب التاريخ لهذه الطقوس فيعود إلى القرن

السادس قبل الميلاد من خلال الحضارة الإغريقية في أثينا التي شكلت التحول

الكيفي لمجموعة التحولات الكمية البسيطة التي سبقت نشوء هذه الحضارة في العديد

من مناطق العالم.

ولو أننا قارنا بين الظهور الأول لطقوس العرافة وطبيعة الدين المستمد من

أساطير ألفها البشر - الذي كان سائداً في تلك المرحلة - لوجدنا أكثر من خيط

متصل بينهما؛ ذلك أن الخرافات من طبيعتها التوالد المستمر، والتخيلات

(الأساطير) الساذجة للآلهة في ذلك الزمن لم تجد صعوبة في إظهار العديد من

الخرافات المرتبطة بشكل مباشر بالدين الإغريقي؛ فالإغريق كانت لهم - دينياً -

العديد من الآلهة الوظيفية المتخصصة في مجال من مجالات الحياة الاجتماعية

والدينية والمالية وحتى السياسية؛ حيث كان لديهم اعتقاد بأن هناك إلهاً للحرب

وإلهاً للسلام وآخر للزراعة، وآخر للولادة، وكذلك للموت والزواج والعذاب

والحكمة والحب والرعد ... إلخ وفي مرحلة متقدمة من هذه الأساطير كان هنالك

إيمان بأن بعض البشر كانوا آلهة مثل هرقل المولود من أب إله وأم بشرية بعد

العديد من النزاعات بين الآلهة المزعومة والتي كانت في غالبية الوقت تتحارب فيما

بينها، وعلى هذا الأساس احتاج الناس لطرق اتصالية مع هؤلاء الآلهة المزعومة

المتعددة، وطقوس خاصة لعبادة كل إله على حدة، فكان أن ظهر في المجتمع

الإغريقي وظائف هامة وأساسية، كالكهنة والعرافين.

كان دور الكهنة القيام على خدمة الآلهة في معابدهم المنتشرة بكل أرجاء البلاد،

فكانوا يقيمون طقوس العبادة والتقديس، ويقدمومن القرابين والأضحيات،

ويعلِّمون الناس كيف يعبدون هذا الإله ويتقون شر ذلك ويستفيدون من آخر، أما

دور العرافين فقد كان يقوم على الوساطة المزعومة بين بني البشر والآلهة المتعددة!

ولما كان العرَّاف بحاجة لخاصيّة مميزة له عن بقية البشر فقد ظهرت الروحانية

التمثيلية التي من المفترض أنها حالة انتقالية من التعايش مع البشر إلى التعايش مع

الإله لسؤاله والحصول على الأجوبة منه، وكان الناس يصدقون ذلك!

فقد جرت العادة بين الناس أن تكون الاستشارة الدنيوية والدينية من خلال

العرّافين والعرّافات الوسطاء الروحيين والمتمتعين بقدرة مميزة من الإله على

التعامل معهم واستشارتهم.

كان من أشهر المتنبئات عندهم عرّافة (دلفي) وهي (بثيا Pythia) التي

تروح في غيبوبة بسبب التركيز العقلي والروحي الكامل - حسب اعتقاداتهم - ثم

تنطق بأصوات مبهمة غير مفهومة، فيقوم عرّاف آخر (لديه قدرة على فك شيفرة

الرسالة السحرية) بتحويل هذه الأصوات إلى أنباء مناسبة بلغة الشعر أو النثر

يفهمها الناس، ولما كان الناس يجدون الكثير من الاختلاف بين النبوءة والحدث،

أي بين كلام العرّاف والواقع؛ فقد كانت الإجابة: بأن معنى الإجابة التنبئية غامض

ويحتمل تأويلين أو أكثر؛ ذلك لأن الآلهة لا تخطئ، فإذا حدث ولم تنطبق النبوءة

على الواقع؛ فإن ذلك يرجع إلى أن السائل لم يفهم الإجابة التنبئية على وجهها

الصحيح، وأنه تأولها بشكل خاطئ.

ولعل من الإجابات التنبئية الغامضة المشهورة - حسب اعتقاداتهم - هي

الإجابة التنبئية عن سؤال للملك (كرويسيس) ملك (ليديا) حيث كانت الإجابة:

«إذا ما عَبَرَ (كرويسيس) (نهر هلليس) فسوف يدمّر امبراطورية هائلة» ! !

وحين دمّر امبراطوريته نفسها قالوا بأن النبوءة صحيحة وأن (كرويسيس) فهم أنه

سيدمّر امبراطورية أخرى بينما المقصود هنا هي امبراطوريته هو.

ثم مع الأيام تنوعت طرق العرافة وتعددت لتساير ذوق العامة ومطالبهم

السريعة والكثيرة فظهرت طريقة الحبوب الملوّنة؛ حيث كان السائل يسحب

مجموعة حبوب ملوّنة بألوان مختلفة تعني نعم، أو لا. وهناك أساليب أخرى

للعرافة كالأصوات والأشكال والأنواع ... إلخ.

ومن عرّافي هذه الأنواع عرّافة في (بلدة دودونا) التي كانت تفسّر أصوات

حفيف أوراق شجرة البلّوط، وعرافة (مدينة إيف) بين (شعب يوربا) التي كانت

تستخدم ٢٥٦ تمثالاً صغيراً مرقمة على لوحة الرمل يقوم خبراء التنجيم بتأويلها؛

فإذا حدث خطأ فهو بسببهم لا بسبب النبوءة، وهنالك عرّافة (ديدما) ، وعرافة

معبد (كلاروس) التي طغت على الأخيرة وكان لها جوقة من المنشدين، وقد

وصلت شهرتها إلى مناطق بعيدة مثل ألمانيا ونوميدا وبريطانيا.

كما كان ينظر إلى حذاقة الغريزة الحيوانية ودقتها على أنها دليل قوة أو سر

كالذئب والدب والنسر والبوم والخفاش ... إلخ، ولم تكن الكهانة بواسطة الينابيع

والأشجار والأشياء كالماء والمرآة وغيرها أقل شيوعاً من غيرها.

ولعل من دلائل اهتمام الإغريق بالعرافة وتنوع أشكالها وأساليبها أنهم كانوا

يتفننون بتأويل الكلام، خاصة أسماء العلم، وأية كلمة تلفظ سهواً أو تسمع مصادفة

كان يمكن أخذها على محمل الإشارة الإلهية الغيبية، حتى إن سقراط نفسه كان

ينصح تلاميذه باستشارة الكهنة والعرافين حين لا يجدون جواباً عن تساؤلاتهم! !

البارابسكيولوجيا.. الوجه الآخر العصري:

على الرغم من أن العالم اليوم يتجه إلى العلوم التطبيقية والاختراعات المذهلة

التي تقفز بالإنسان العصري مسافات واسعة نحو التطور والرفاهية، فما يزال وفي

كل مكان من العالم أناس يعتقدون بقدرة السحرة والمشعوذين والعرافين على استقراء

الغيب واستحضار الأرواح وتحقيق المعجزات، شأنهم في ذلك شأن القدماء الأولين

ذوي القدرات العقلية البسيطة والساذجة، بل حتى في الدول التي تعتبر علمانية

وملحدة نجد هذا الامتداد الأعمى للعرافة والشعوذة.

ففي أمريكا مثلاً صدر كتاب منذ سنوات بعنوان: (عرّافة البيت الأبيض)

يتحدث عن العرافة التي رافقت الرئيس الأمريكي السابق (ريغان) طوال فترة

رئاسته، وقامت بدور (المستشار) الخاص بالرئيس، ويقال إن ريغان كان يثق

بها ثقة كبيرة، ويأخذ برأيها في كل أموره الخاصة والعامة، كما لم تكن الحال لدى

رؤساء الاتحاد السوفييتي السابق أفضل منها في أمريكا؛ إذ إن حياتهم لم تخل يوماً

من العرافات، من بريجينيف وصولاً إلى غورباتشوف الرئيس السوفييتي الأخير.

وفي باريس عاصمة فرنسا أكدت دراسة نشرت مرافقة لمعرض وندوة

(الطب الطبيعي وفنون التعرف على المستقبل) أن عشرة ملايين فرنسي يترددون

على العرَّافات بحثاً عن حلول لمشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، وبينت

الدراسة أن (٤٨٠٠) عرافة تتلقى طلبات الفرنسيين إما مباشرة أو عن طريق

الهاتف بينما «يتعدى عدد العرافات في فرنسا عدد الأطباء النفسيين البالغ

(٤٣٠٠) طبيب! !

وفرنسا اليوم تعتبر موطناً لما يعرف بعلم (البارابسيكيولوجيا) وعلم الفلك

(التنجيم) ! وسواها، وقد أحصي فيها حسب آخر دراسة (٥٠) ألفاً ممن يمتهنون

السحر والشعوذة بالإضافة إلى العرافين، منهم (٤٠) ألفاً مسجلون في دوائر

الضرائب.

وقد تعدّت مجالات عمل هؤلاء الوسطاء الروحيين لتشمل التكهنات بالأرقام

السرية لحسابات طغاة مثل رئيس زائير السابق (موبوتو سيسي سيكو) أو نظيره

الفلبيني (فرديناند ماركوس) . ففي المؤتمر الدولي للوسطاء الروحيين وأصحاب

البصيرة الذي عقد في جنيف قبل سنتين تقريباً وحضره (٥٠٠) منهم، قالوا إن

خزائن البنوك تنفتح أمامهم ليلقوا نظرة على ما بداخلها؛ وذلك عن طريق أوراق

اللعب والبندولات، وأحياناً عبر الحملقة في عيون الزبائن، وقد هتفت الوسيطة

الفرنسية إرلين:» أرى خزانة باتجاه لوزان، أرى بنكاً يواجه بحيرة جنيف،

يوجد في الداخل سجاد أحمر ومصرفيون قلقون «حملقت في الأفق أكثر بعينيها

الزرقاوين وأكملت:» أرى طائرة، وعلى المهبط أرى أناساً كثيرين يأتون إلى هنا

ليخرجوا نقود (موبوتو) ، أي امرأة زائيرية «، أما الوسيط الفرنسي جوليان فقد

حملق في ورق الجدران وكأنه يبحث عن الإلهام ثم هتف:» الأموال لن تجلب

السعادة للبنوك السويسرية «.

ربما استطعنا إيجاد العذر - الذي ذنبه أقبح منه - لتلك الدول بسبب الفراغ

الديني والروحي الذي يعيشه الغالبية منهم، ولكن ماذا سنقول في العالم العربي

والإسلامي الذي يتمثل هذه الصورة ويؤمن بهذه السذاجات؛ فالأمور الغيبية

الخارجة عما أخبر به الله ورسوله منها ما زالت موجودة بيننا، بل وتتطور في

العديد من الأمكنة، العرافات والدجالون هنا وهناك يجوبون القرى والمدن،

مكشوفين أحياناً، وأحياناً متسترين، يبصرون بالكف والفنجان، ويضربون بالمندل

وينجمون، ومنهم من يقنع زبائنه بلباقة وحنكة بقدرته على استحضار الأرواح

ومعالجة الأمراض المستعصية، ورغم المحاولات الهادفة التي تقوم بها بعض

وسائل الإعلام في محاربة هذه الظواهر المتخلفة، إلا أنها ما تزال تمارس في كل

مكان.

ففي مصر أحصي أكثر من (١٠٠٠) كتاب لتعليم الدجل والشعوذة، يتم

ضبطها في القاهرة وضواحيها، كتب حمراء وصفراء ... سطورها وطباعتها

الركيكة صارت أداة مشتركة لمحترفي النصب؛ لأنها - كما يبدو - أُعِدت وألِّفت

خصيصاً لمن يرغب في امتهان الجهل.

من هذه الكتب (بحر بارنوخ) ، و (السحر الأحمر) ، و (الكباريت في

إخراج العفاريت) ، و (دليل الحيران في إخراج الجان) ، والكثير من الكتب

الأخرى التي حملت عناوين بعيدة كل البعد عما يدل على السحر والشعوذة خوفاً من

الرقابة مثل كتاب (شمس المعارف الكبرى) ، و (منبع الحقائق الكونية) وهي

في حقيقتها قواميس لحرفيات وطرق التعامل مع العفاريت والسحر وتسخير البشر

والسيطرة على إرادتهم.

وتحمل لنا بعض وسائل الإعلام - وللأسف - الأنباء والأخبار عن المنجمين،

وكأنهم أبطال قوميون وشخصيات مرموقة في الدولة، وليس غريباً أن تعرض

لكتبهم الجديدة في السحر، وقدرتهم المتزايدة على المعرفة وقراءة المستقبل، ناسين

أن هؤلاء المدعين ما هم إلا أناس مثلنا، يصيبهم ما يصيبنا، ويمتهنون هذه المهنة

من أجل لقمة عيشهم كما يمتهن الممثل التمثيل والمذيع المقابلات، وأنهم لو كانوا

يتمتعون بالفعل بما يدعون لاختلفت أوضاعهم ولكانوا في حرز مما يصيب الناس

بسبب معرفتهم المسبقة للأحداث، ولاكتفوا بقوتهم وجانِّهم وعفاريتهم عن العمل

والتأليف والمقابلات.

ليس غريباً أن نسمع الآن بأن كتاب (الأبراج) لماغي فرح، والذي يصدر

كل عام في لبنان يحطم الأرقام القياسية في مبيعات الكتب لمعارض الكتب العربية،

ومثله كتاب جديد صدر منذ عام تقريباً يحمل عنوان: (فراسة السماء) ، وهذا

ربما يكون مؤشراً على أن علم البارابسيكيولوجيا سوف يدخل عالمنا العربي السعيد،

ليصبح لدينا في يوم من الأيام مؤتمر عربي للدجل والشعوذة..! !