للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضية للمناقشة

العمل الإسلامي

بين ضرورة المراجعة وخطورة التراجع

عبد العزيز كامل

بينما تستقبل الدعوة الإسلامية عقدها الثالث من القرن الخامس عشر للهجرة

النبوية الشريفة؛ تتزامن بشكل لافت في بلدان مختلفة موجة مشتركة من الدعوات

إلى إجراء مراجعات شاملة لمناهج العمل الإسلامي وإداراته وممارسته بأطيافه

المتنوعة.

والدعوة الإسلامية إذ تعبُر إلى هذا العقد مثخنة بجراح كثيرة؛ لا يخلو

صدرها - مع ذلك - من العديد من أوسمة النور التي حازتها عبر بضعة عقود

ماضية، منذ بدأ الانبعاث المبارك لصحوتها التي انتعشت في بدايات القرن الهجري

الحالي، تصديقاً للسنة الإلهية التي أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في

قوله: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر

دينها» [١] ويجيء هذا الإقبال على (المراجعات) في ظروف تكاد تتشابه

فيما يتعلق بالعمل الإسلامي في العالميْن العربي والإسلامي؛ إذ إن العقديْن

الماضيين - على وجه التحديد - شهدا ممارسات وتجارب كاملةً أو شبه كاملة

لتيارات إسلامية انتقلت خلالها من التنظير الفكري إلى الممارسة الواقعية. فمنها

من صدمتها التجارب، ومنها من عركتها مرارة المحن، ومنها من أنضجتها

حرارة الاحتكاك بالواقع، ومنها كذلك مَنْ أقعدتها الإحباطات والإخفاقات، وذلك

على المستويين: الفردي، والجماعي، وكانت الثمرات المقتطفة من ذلك كله تجمعها

سلةً واحدةً أمام الناظرين، لا يكاد بادي الرأي يفرق بين اليانعة منها والمعطوبة،

ولا نشك في أن مجموع تلك الثمرات إنما جاء نتاجاً لتفاعلات التجديد المختلفة

في اتجاهاتها ومجالاتها، والمتنوعة في سلبياتها وإيجابياتها، فمن شأن التجديد دائماً

أن يستخرج الزُّبْد ويلقي بالزَبَد.

وبرغم أن المرحلة الحالية تكاد (المراجعات) تكون عنوانها الرئيس، إلا أن

لتلك المرحلة سمات أخرى تفصيلية من أهمها: أنها مرحلة توقف متردد عند مفترق

طرق محيِّر، يعود بالدعوة لدى بعض الفصائل إلى الوراء نحو خمسة عقود عندما

كان شعار المرحلة وقتها: (من أين نبدأ؟) والمرحلة أيضاً يميزها حماس فاتر

بعد نشاط متوقد استمر طوال العقد الثاني من القرن الرابع عشر، ويتخلل تلك

المرحلة هبوط ملحوظ في أسهم كثير من الرموز الدعوية التي كان لها رنين وطنين،

بعد سلسلة متصلة من معارك هدم الرموز، ومباريات تصفية الآخرين معنوياً،

كما أن كثيراً من الشعارات البراقة والمفرطة في الطموح، قد خبا ضوؤها إلى حدٍ

ملموس.

ولكن هذا كله لا ينفي أن هناك قفزات نوعية للدعوة الإسلامية قد أُنجزت

بالفعل، وهناك منها ما ينتظر الإنجاز. ومع ذلك، فالشعور الثابت لدى غالبية

المهتمين؛ أن إمكانات المسلمين في نصرة الدين لم يُستغل منها إلا القليل، ولهذا

يصح القول بأن إنجازات الصحوة تبدو كبيرة عملاقة باعتبار، وتبدو صغيرة

متواضعة باعتبار آخر، فهي عملاقة باعتبار التحديات التي تواجهها والعقبات التي

توضع في سبيلها والظروف الاستثنائية التي تعمل فيها، وهي متواضعة باعتبار

إمكانات المسلمين الجبارة التي حباهم الله إياها مادياً ومعنوياً، فلم يوظفوا منها

لخدمة الدين إلا القليل.

إن هناك اضطراباً تتسم به المرحلة، وإذا رحنا نبحث عن الأسباب التي أدت

إلى وصول الدعوة لتلك المرحلة المتشابهة المعالم في أكثر بقاع العالم الإسلامي،

فإننا نعثر على أبرزها بين ثنايا خارطة دعوية شديدة التداخل والتعقيد، فمن تلك

الأسباب:

١ - استطالة بعض فصائل العمل الإسلامي لمرحلة الاستعداد لإقامة الكيان

الإسلامي الممكَّن له في الأرض؛ حيث تواصلت عقود قامت خلالها دول وكتل

عالمية وسقط بعضها، دون أن يقوم للإسلام في المقابل كيان أو كتلة قوية تمهد

لإعادة الخلافة الضائعة.

٢ - تكرار الإحباطات في أمكنة كثيرة على صعيد محاولات الوصول إلى

إقامة كيانات إسلامية خالصة عبر وسائل متنوعة سلمية - كما في التجارب

البرلمانية - أو غير سلمية - كما في التجارب الجهادية - مع تطوير الأنظمة

العلمانية الدائم لطرق مواجهتها لأي نهضة إسلامية متوقعة.

٣ - تضاعف حدة الصراع بين الحركات والدعوات الإسلامية ومناوئيها بعد

أن انضمت إلى هذا الصراع بشكل سافرٍ قوىً دوليةً كانت تتخفى بالأمس وراء

الأنظمة العلمانية، ثم هي اليوم تنبذ إلى المسلمين على سواء، وتسعى إلى

(عولمة الصراع) مع الإسلام في كل البقاع.

٤ - انضمام شريحة من الإسلاميين إلى خندق المواجهة المعادي، بقصد أو

بغير قصد، وتحت تأويلات أو تَعِلاَّت تصب في النهاية في قناة تمد المعسكر

المناوئ بأسباب القوة والبقاء، وتخلط الأوراق الدعوية والتربوية في قضايا الولاء

والبراء، والحكم والتحاكم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها.

٥ - اتساع الخرق على الراقع بشأن الخلافات العلنية والسرية بين زعامات

فكرية وأخرى حركية، مما أوقع كثيراً من الأتباع في حيرة لم يجدوا منها مخرجاً

إلا بالخروج من دائرة الهم الإسلامي العام.

٦ - استمرار غياب الدور القيادي للعلماء العاملين في أكثر بقاع العالم

الإسلامي، وانسحابهم من الميدان لصالح زعامات من علماء غير عاملين أو عاملين

غير علماء، مما أوقع العمل الإسلامي في دوامات (التجربة والخطأ) المتكررة

التي تستهدف اكتشاف الأخطاء بشكل عملي بدلاً من تجنبها ابتداءً بتأصيل علمي.

٧ - استشعار بعض القيادات أنها بذلت ما في وسعها، بل أكثر مما في

وسعها دون الوصول إلى نتائج مرضية، ولسان حال أحدهم يقول: (آن للمقاتل

أن يستريح) وهو شعور مخدِّر، أوصل إلى حالة من الاسترخاء ظهرت آثاره في

انصراف قطاع عريض من شباب الأمس المتحمس إلى التشاغل بالأمور المعيشية

التي قد لا تمتُّ لأعمال الدعوة بصلة، وهذه الظاهرة تؤدي بصورة متكررة إلى

تصدع في بنيان العلاقات والصلات التي لا بد منها لاستمرار أي عمل ناجح

متواصل.

٨ - التهام نار المواجهة في بعض البلدان للعناصر المتميزة أولاً بأول،

بالقتل أو السجن أو التوقيف أو التجميد أو الاحتواء، مع قلة توافر الظروف التي

يمكن في ظلها تعويض العنصر الفاقد أو ملء المكان الشاغر.

٩ - اكتشاف كثير من العاملين للإسلام أنهم كانوا يقعون بشكل منتظم ضحية

العمل الارتجالي الذي لا يدري إلى أين وصل، كما لم يكن يعلم من قبل من أين بدأ،

وافتقاد بعض آخر لتوازنهم الفكري نتيجة صدمات واقعية أفاقوا منها بعدما

اكتشفوا أنهم كانوا يكمّلون النقص الخطير في معالم لوحة الصراع من مخيلاتهم

ويملؤون فراغاتها بظنونهم.

١٠ - وصول الكثيرين إلى قناعة ببُعد البَوْن بين الآمال والأعمال، أو بين

الواقع والخيال، أو بين الإمكانات والطموحات، أو بين الحقائق والمثاليات، وبدلاً

من إعادة النظر في محاولة تقريب هذا البون، كان اللجوء إلى الهروب هو الحل

الأسهل والأمثل لدى بعض من تعتمد الجماهير على توجيهاتهم وتنتظر تنظيراتهم.

ومع أهمية الاعتراف بوجود تلك الأسباب التي مرَّ ذكرها وغيرها؛ فإن

المراجعات ووقفات التأمل من الأمور البالغة في أهميتها حد الضرورة؛ فهي واجبة

على فصائل العمل الإسلامي قبل أن تكون حقاً لها في ظل المتغيرات المتلاحقة التي

تتتابع على ساحة الدعوة الإسلامية، ولا أظن أن أحداً من المهتمين بأمر المسلمين

يشك في أهمية المراجعة في هذه المرحلة، ولو من باب تقويم ما مضى من مراحل

النشاط الإسلامي في أشكاله كافةً، وإذا كان ذلك كذلك، فإن التشارك في التشاور

من أجل هذا تحتمه الفريضة الإسلامية المحكمة في النصح لله ورسوله وللمؤمنين

خاصتهم وعامتهم؛ فالمراجعة أو المحاسبة أصل إسلامي أصيل؛ وخاصةً إذا

سارت الرياح بما لا تشتهي السفن.

وهذا الأصل مستمد من قوله - تعالى - لأصحاب رسول الله صلى الله عليه

وسلم بعد أن دهمتهم نازلة أُحد: [أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى

هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران: ١٦٥) ،

وقوله تعالى: [وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ]

(الشورى: ٣٠) .

وفي سياق التنقل بين محطات المحاسبات والمراجعات، هذه وقفات تأملية

نأمل منها أن تفتح آفاقاً لحوار أوسع وأعمق:

أولاً: بين المراجعة والتراجع خيط رفيع، ومع ذلك فهو لا يُرى إلا عن بُعد،

وهو أشبه بالمعْلَم المطموس عند مفترق الطرق، من لم ينتبه إليه التبست عليه

السُبل، وربما رجع القهقرى، وهو ينشد الشد في المسير.

ثانياً: مثلما تتحول المراجعات - في بعض الأحيان - إلى تراجعات، فإن

التراجعات قد تتطور إلى انتكاسات، والانتكاسات المنهجية منها أخطر من

الانتكاسات الحركية؛ فالحركات تضعف وتقوى، وتقع وتقوم، أما المناهج فقلما

تنهض بعد سقوطها على مستوى الفرد والمجموع.

ثالثاً: محطات الإقبال على المراجعة قد تكون في لحظات ضعف منسحب -

وهذا على الغالب - أو لحظات اندفاع غير محسوب، وفي كلا الحالتين فإن

المراجعة وقتذاك قد تقع تحت وطأة ظروف نفسية غير مستقرة، أو نظرات

شخصية عجْلى، تختصر التأمل وتبتسر النتائج. واستصحاب هذا الملحظ مفيد عند

أي مراجعة حتى لا تخضع لمؤثرات خارجية ضاغطة.

رابعاً: لا يحدث الإقبال على التراجع - في الغالب - إلا تحت مسمى

المراجعة، ثم تنتحل تلك التراجعات أسماء براقة، وشعارات خدّاعة، تتسريل

بالحكمة طوراً وتتلفع بالواقعية تارةً، وترتدي أثواب زور من العلم والتعقل والأناة

مرات أخرى.

خامساً: كثيراً ما يحدث التورط في مستنقعات التراجع، بدفع من أوهام

تضخم (التجربة) ومبالغات تفرد (الرمزية) التي تخلع ألقاباً وأوصافاً على

أشخاص قد يكونون بالفعل رموزاً أو أصحاب تجارب، ولكن التفويض المطلق

لبعض (الرموز) وأصحاب التجارب في المراجعات هو الذي يفتح الأبواب وسيعةً

أمام التراجعات التي تتسلل سَلِسةً على ألْسنةِ مَنْ لا يفكر أحد في مناقشتهم أو

مراجعتهم.

سادساً: التواصل بين الأجيال عامل مهم في إكساب عمليات المراجعة شيئاً

من العصمة النسبية، وكما أن رصيد سابقة الابتلاء أو التجربة لا يكفي لإفراز

مراجعات ناجحة في كل الأحوال، كذلك فإن الأجيال الجديدة بدمائها الجديدة لا

يصلح لها أن تستغني بجدتها وفتوتها عن خلاصات (تجربة العمر) لمن سبقوهم

على الطريق فعرفوا منحنياته الخطرة، وخبروا معالمه ومراحله.

سابعاً: من أخطر مزالق المراجعة، الانشغال باجترار مرارات الماضي، أو

التلمظ بحلاواته، وأخطر من ذلك الاحتراب في ميدانٍ مَّا قد كان، حيث ينشغل

بعضٌ بتقاذف التهم في تلاوم ضار غير نافع. وعندها يكون حرص قوم على نفي

الآخرين وتصفيتهم معنوياً هو بوابة الولوج والخروج في أي حوار يستهدف

المراجعة، ولهذا لا يرجعون من ذلك بشيء.

ثامناً: عندما تحل المناطحة محل المناصحة، والجدال بالتي هي أخشن بدلاً

من التي هي أحسن، فإن نزغات الشيطان وتحريشاته تتسوَّد الموقف، وتتصيد

الفرص للإيقاع في انتكاسات التراجع التي لا يفرح الشيطان بشيء فرحه بها في

صفوف المؤمنين، وإذا كانت الحزبية صفةً قبيحةً مقيتةً، فالعنصرية أقبح وأشد

مقتاً، ولهذا لا ينبغي أن يكون لهما موضع شبر على بساط النقاش والتقويم.

تاسعاً: جل المراجعات تنصب على أمور عملية تطبيقية مع أن الأصل هو

الأمور المنهجية التي لو سلمت لسلمت الأعمال والتطبيقات، والتركيز على اتهام

التطبيق العملي لا ينبغي أن يدفع التهمة عن التنظير المنهجي، بل الأصل أن يُبدأ

بمقدمات الشيء لا بنتائجه.

عاشراً: هناك من المناهج ما تم وضعه في عجلة قبل استكمال شروطه من

النضج العلمي والفهم الواقعي، ومن الجناية على الدين أن تعاد مراجعته بالنَفَس

المتعجل نفسه.

حادي عشر: هناك أشكال من التأصيل المنهجي أشبه بالتفكير بصوتٍ عالٍ،

ومع هذا تلتقط هذه السوانح الفكرية العابرة، وتقتطف فجة غير ناضجة، ويحاول

بعض الناس أن يصنع منها (بخةً) سائغةً، لمجرد أنها فكرة فلان أو سانحة علان،

وبعضها يطلق كأنه شعارات، مع أن التأصيلات لم تكن يوماً بالشعارات.

ثاني عشر: قد تكون المراجعات (محطةً) يتوقف عندها القطار توقفاً نهائياً

على مستوى أفراد أو مجموعات، قد يكون بعضهم مهيأً نفسياً ليحط رحاله في

أقرب المنازل تعللاً بالنوازل، وفي هذه الحالة لا تكون تلك المحطة إلا خطة، أعد

لها الشيطان بمكر وحيلة تورَّطوا فيها في لحظات ضعف وغفلة.

ثالث عشر: ومن المناهج ما أملتها ظروف نشأتها الزمانية أو المكانية؛ فلا

ينبغي تجاهل ذلك عند التقويم، بحيث تقوَّم سلع الماضي في سوق الحاضر أو

المستقبل، وكذلك لا يصلح تقويم كل تجارب العالم بالمقاييس المحلية لبلدٍ مَّا،

فالمعايير المحلية لا تصلح للتعميم في التطبيق فضلاً عن التقويم.

رابع عشر: هذه الظروف الزمانية والمكانية المختلفة لا يصح معها استعارة

المناهج (في غير الثوابت) لتطبيقها في غير زمانها أو في غير مكانها، فتلك

مزلة أقدام قد لا ينتبه إليها كثير من الناس، وقد لا يكون العيب في جزئية معينة

في المنهج، بقدر ما يكون في ملاءمة الزمان أو المكان له.

خامس عشر: من المعلوم أن الأمور القدرية لا تحكم على الأمور الشرعية؛

فعدم التحقق قدراً لا يستلزم عدم الصحة شرعاً؛ فلا يصلح أن يقال: كل التجارب

البرلمانية لم تنجح فهي غير شرعية، أو كل الحركات العسكرية قد أخفقت فهي

لذلك غير شرعية. ومن الأخطاء المنهجية في تقويم المناهج ومراجعتها: التعميم

والإطلاق، كأن يتخِذ من رأوا الإخفاق في أعمال جهادية معينة - مثلاً - موقفاً

رافضاً لأي عمل جهادي، حتى يتحول ذلك إلى شعار، خاصةً عندما يطلق على

الجهاد لفظ (العنف) لتسهيل نبذه على النفس الضعيفة أو المترددة، وبشكل يُراد

له أن يُعمم على كل الساحات التي قد تكون ظروف بعضها مختلفة ومستوجبة لمثل

هذا الجهاد. والعكس أيضاً قد يحدث، عندما تنجح تجربة جهادية ما، فيطلب من

المسلمين في كل ساحات العمل الإسلامي أن ينقلوها بحذافيرها إلى مواقعهم، وقس

على ذلك في قضايا سرية العمل أو علانيته، وسلمية المواجهة أو عسكرتها،

والموقف من الحكومات والأنظمة، وطريقة التعامل مع الشعوب، وأساليب

التعاطي مع القوى الكبرى ونحو ذلك.

سادس عشر: للتأصيل العلمي أهميته وخطورته في وضع المناهج الدعوية

أو تقويمها أو مراجعتها، وكذلك الفهم الواقعي للقضايا الكبرى. وهناك جفاء قد

طال من بعض فصائل العمل الإسلامي لأحد الأمرين أو كلاهما، وذلك ناتج عن

موقف غير متوازن من العلماء، فبينما تُقطع الأواصر والوشائج مع العلماء في

بعض الأماكن بما يحرم الدعوة من خير ما عندهم، فإن هناك أماكن أخرى تبالغ

في ربط الدعوة الإسلامية كلها بفرد أو ببضعة أفراد من العلماء، بحيث تُرهن

قضايا الأمة كلها بكلمات منهم، قد لا تأخذ حقها من النظر والتدقيق، أو قد تكون

خارج نطاق تخصصهم أصلاً.

سابع عشر: عندما تقتصر عمليات المراجعة على رموز التجربة نفسها، فإن

ذلك يعرض المناهج والتطبيقات لتكرار الأخطاء؛ لأن عين الإلف والعادة ربما

تعشي عن المعايب والخروق، وهذا يمكن تلافيه بإخضاع المراجعات لمتفحصين

جدد، وذلك أحرى بتخليص الدعوات من حظوظ النفس ونزوعها الدائم نحو الدفاع

وتحسين الصورة تشبثاً بنظرية: «ليس في الإمكان أحسن مما كان» .

ثامن عشر: الظروف النفسية المتقلبة عامل خطير في اتخاذ المواقف العملية،

وربما العلمية؛ فكم من طروحات ومواقف اكتست أرديةً دعويةً، وهي في

حقيقتها ردود فعل نفسية ربما نشأت عن مواقف شخصية، لمحبة مفرطة أو بغض

غير متوازن، وهذا أمر ليس من السهولة منعه، ولكن ليس من الصعوبة رصده

والحذر منه.

تاسع عشر: التراجع ليس قريناً للمراجعة في كل الحالات، فقد تكون

المراجعة - أو هكذا يجب أن تكون - نقطة انطلاق نحو تجديد جديد، ينفي الخَبَث

وينقِّي المعادن، وللنية الصالحة في ذلك دور كبير [إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً

يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ] (الأنفال: ٧٠) .

وأخيراً نقول: المناهج أبنية، تتفاوت في سلامة قواعدها، وصلابة أعمدتها

ورحابة مرافقها، وهي تحتاج بشكل دائم إلى صيانة وتجديد، وإلى إشراف وتقويم.

وتقويم الأبنية الدعوية، وترميمها، وإصلاحها أوْلى من التوالي في هدمها بعد

بنائها، فتلك طريقة مَرَضيَّة غير مَرْضية، يولع بها بعض المعجبين بعادة (خرقاء

مكة) [٢] التي أنزل الله - تعالى - في أمثالها قوله - تعالى -: [وَلاَ تَكُونُوا

كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً] (النحل: ٩٢) . فهذا الإنكاث هو

أخطر مظاهر الانتكاس والارتكاس.

وحتى لا يكون الكلام ملقىً على عواهنه، أذكر بعضاً من مظاهر الانتكاس

الدعوي الذي تتعرض له بعض القضايا والمفاهيم والثوابت بشكل متدرج، تحت

مسمى: المراجعات، وسأكتفي الآن بالإشارة إليها اختصاراً، حتى تتيسر

الفرصة - بإذن الله - للتعرض لها أو لبعضها تفصيلاً، فمن ذلك:

- الاضطراب الجديد في المواقف من النظم العلمانية ورموزها وأحزابها

وطروحاتها الفكرية وأساليبها العملية.

- التغير المتردد في المواقف من الفرق المبتدعة ومفاصلتها ورفضها وطرق

التعامل معها.

- التحول المتسلل إلى مفهوم الجهاد، ومحاولات تفريغه من مضمونه

الشرعي إلى مضامين أخرى قد تصلح لغيره ولا تصلح له.

- التخلي المتزايد عن التعاطف العملي مع قضايا المستضعفين والأقليات

بدعوى السآمة من إضاعة الجهود فيها.

- التميع الطارئ في التعامل مع كثير من المسائل الكبرى التي كانت تمثل

أهدافاً استراتيجيةً لدى الكثيرين حتى وقت قريب، مثل: السعي إلى الوحدة

الإسلامية، أو توحيد فصائل أهل السنة، أو السعي لإقامة كيان حقيقي لهم تمهيداً

لإقامة أو إعادة دولة الخلافة.

- التراجع المستمر أمام هجمة الإعلام الشرسة ضد الإسلاميين، إلى حد

تحرج بعضٍ من الانتساب لمنظومة العمل الإسلامي، أو الخجل من استعمال

المصطلحات الشرعية التي تزعج أعداء الدين مثل: الموالاة والمعاداة، والإيمان

والكفر، والمعروف والمنكر، والتحاكم لله، والجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك.

- وأخيراً: تعريض قضايا حساسة جداً في العمل الإسلامي لفوضى

التصريحات والشعارات والطروحات غير الناضجة، وإعادتها إلى نقطة البدء، بعد

أن كانت قد استقرت إلى وضع مقبول بين غالبية الفصائل العاملة للإسلام، مثل

قضايا الحكم والتحاكم، والموقف من العلمانية، ومسألة العمل الجماعي ومشروعيته،

ووسائل الدعوة وأساليبها، ومسائل الهدي الظاهر وضوابطها، والموقف من

وسائل الإعلام المعادية للدين، والموقف من علماء السلطة ورموز ما يسمى بـ

(التنوير) ونحو ذلك من المسائل والقضايا.

ولعل الله - تعالى - ييسر على صفحات (البيان) الغراء، تجاذب الحديث

حول هذه القضايا، قضايا المراجعات، في مطارحة لا تخلو من المصارحة....

والله من وراء القصد.


(١) رواه أبو داود في الملاحم، ح/ ٤٢٩١، والبيهقي في معرفة الآثار والسنن، ١/١٣٧، وأخرجه الحاكم في المستدرك، ٤/٥٢٢، وابن عدي في الكامل (المقدمة/١٨١) ، وصححه الألباني (السلسلة الصحيحة، ٢/١٥٠) ، ح/٥٩٩.
(٢) هي امرأة كانت معروفة بمكة تقوم بغزل الخيوط في نسيج محكم ثم تنقضه، ثم تنسجه ثم تنقضه، انظر تفسير الطبري، ج ١٤، ص ١١٠.