للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة

تأثير إلغاء سعر الفائدة في المجتمع

(٢ ـ ٢)

عدنان بن جمعان الزهراني

[email protected]

قدَّم الكاتب في الحلقة السابقة مشروع (إلغاء سعر الفائدة) إلى مجلس

الشورى في مدينة (ندى) التي تصورها في خياله، وبدأ بتقديم مسوغات المشروع،

والتي تمثلت في: توفير فرص عمل جديدة، وتشجيع الاستثمار، والحد من

الغلاء، والمحافظة على قوة العملة، وتحقيق الاستقرار في الأسواق، وقبل كل

ذلك رفع المقت الإلهي؛ من خلال إغلاق باب كبير من أبواب الحرب لله ولرسوله

صلى الله عليه وسلم.

ثم قام الكاتب بعرض مشروعه، وتقديم الأمثلة والبراهين المستقاة من الواقع،

والتي تؤكد أن سعر الفائدة هو أحد أهم عوامل البطالة والتضخم في المجتمع؛

مبيناً في الوقت نفسه حال المجتمع عند إلغاء سعر الفائدة، مستنداً في كل ذلك إلى

دراسات عدد من العلماء والخبراء في مجال الاقتصاد.

وفي هذه الحلقة يستعرض الكاتب مداخلات الأعضاء، ثم تصويت المجلس

على المشروع..

ثالثاً: مداخلات الأعضاء.

أ - مداخلة الدكتور حمدان.

أخي عدنان: لدي سؤال أرغب في الإجابة عنه: وهو: أليس ما يسمى

(سعر الفائدة) هو الربا بعينه ولكن باسم جديد؟

أجاب عدنان: الجواب: بلى.

حمدان: فلماذا هذا البحث، وسيقرر مجلسنا منعه تماماً في جميع التعاملات

البنكية؛ لأننا نملك دستوراً شرعياً لا يقر شيئاً يخالف الشرع، فهو أمر ليس مما

يدخل تحت طائلة سلطة مجلسنا؛ لأنه فوقها بموجب دستورنا.

أجاب عدنان: هذا صحيح، ولكننا نجد من أهل العلم مَنْ قبل مثل تلك

التعاملات، ولم يرها من الربا في شيء، وفي مثل هذه الحالة كما هو مقرر في

نظام مجلسنا فإن من حق المجلس اتخاذ قرار في كل ما اختلفت فيه وجهات نظر

العلماء، وخاصة أننا نشهد أن تلك التعاملات موجودة في مجتمعنا لعدم وجود قرار

يخصها، وليس لدى السلطة التنفيذية شيئاً تعتمد عليه في إيقاف مثل تلك التعاملات،

خصوصاً في ظل قاعدتنا الدستورية التي تقول: (الأصل صحة ما يفعل المرء

وجوازه؛ ما لم يرد ما يوجب البطلان أو التحريم) ، وهذا في باب العادات

والمعاملات، فليس لدينا من الوسائل الدستورية ما نمنع به مثل ذلك التعامل ما لم

يُصدر مجلسنا قراراً بهذا الشأن. ثم ومن خلال الواقع سنجد مَنْ يحتجّ ببعض

الفتاوى الصادرة من جهات معترف بها رسمياً تجيز مثل ذلك التعامل، والناس

سيجدون مسوِّغاً للعمل بتلك الفتوى، وهو ما لا حرج عليهم فيه؛ لأنهم ليس لديهم

من العلم ما يميزون به بين البيع والربا، ولكن هذا المجلس حين تتضح له الصورة

سيملك اتخاذ القرار الملزم عملياً حيال ذلك.

ب - مداخلة المستشار محمد.

الأخ عدنان: لقد وصلتني فتوى صادرة عن مجمع البحوث الإسلامية تجيز

الاستثمار مع ضمان نسبة ربح، وأعرض عليك السؤال مع إجابته كما وصلتني من

أحد الأصدقاء، وهي كما يأتي:

فتوى مجمع البحوث الإسلامية

حول استثمار الأموال في البنوك التي تحدد الربح مقدماً

بقلم: الدكتور / محمد سيد طنطاوي - شيخ الأزهر

بعث الدكتور حسن عباس زكي رئيس مجلس إدارة بنك الشركة المصرفية

العربية الدولية، كتاباً بتاريخ ٢٢/١٠/٢٠٠٢م إلى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور

محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، وهذا نصه:

(حضرة صاحب الفضيلة الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فإن عملاء بنك الشركة المصرفية

العربية الدولية يقدمون أموالهم ومدخراتهم للبنك الذي يستخدمها ويستثمرها في

معاملاته المشروعة مقابل ربح يُصرف لهم، ويُحدد مقدماً في مدد يتفق مع العميل

عليها، ونرجو الإفادة عن الحكم الشرعي لهذه المعاملة.

... ... ... رئيس مجلس الإدارة / دكتور حسن عباس زكي) .

وقد أحال فضيلة الإمام الأكبر الكتاب ومرفقه للعرض على مجلس مجمع

البحوث الإسلامية في جلسته القادمة.

وعقد المجلس جلسته في يوم الخميس ٢٥/٨/١٤٢٣هـ الموافق ٣١/١٠/

٢٠٠٢م، وعرض عليه الموضوع المذكور، وبعد مناقشات الأعضاء ودراستهم

قرر المجلس: الموافقة على أن استثمار الأموال في البنوك التي تحدد الربح مقدماً

حلال شرعاً ولا بأس به.

ولما لهذا الموضوع من أهمية خاصة لدى المواطنين الذين يريدون معرفة

الحكم الشرعي في استثمار أموالهم لدى البنوك التي تحدد الربح مقدماً، وقد كثرت

استفساراتهم عن ذلك؛ فقد رأت الأمانة العامة لمجمع البحوث الإسلامية أن تعد

الفتوى بالأدلة الشرعية، وخلاصة أقوال أعضاء المجمع؛ حتى تقدم للمواطنين

صورة واضحة كاملة تطمئن إليها نفوسهم.

وقد قامت الأمانة بعرض نص الفتوى بصيغتها الكاملة على مجلس مجمع

البحوث الإسلامية في جلسته المنعقدة في يوم الخميس ٢٣/٩/١٤٢٣هـ الموافق

٢٨/١١/٢٠٠٢م، وبعد قراءتها ومداخلات الأعضاء في صياغتها تمت موافقتهم

عليها.

وهذا نص الفتوى:

(الذين يتعاملون مع بنك الشركة المصرفية العربية الدولية أو مع غيره من

البنوك، ويقومون بتقديم أموالهم ومدخراتهم إلى البنك ليكون وكيلاً عنهم في

استثمارها في معاملاته المشروعة، مقابل ربح يُصرف لهم ويُحدد مقدماً في مدد

يتفق مع المتعاملين معه عليها. هذه المعاملة بتلك الصورة حلال ولا شبهة فيها؛

لأنه لم يرد نص في كتاب الله أو من السنة النبوية يمنع هذه المعاملة التي يتم فيها

تحديد الربح أو العائد مقدماً؛ ما دام الطرفان يرتضيان هذا النوع من المعاملة.

قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن

تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ] (النساء: ٢٩) . أي: يا من آمنتم بالله حق

الإيمان! لا يحل لكم ولا يليق بكم أن يأكل بعضكم مال غيره بالطرق الباطلة التي

حرمها الله تعالى؛ كالسرقة، أو الغصب، أو الربا، أو غير ذلك مما حرمه الله

تعالى، لكن يباح لكم أن تتبادلوا المنافع فيما بينكم عن طريق المعاملات الناشئة عن

التراضي الذي لا يحل حراماً ولا يحرم حلالاً؛ سواء أكان هذا التراضي فيما بينكم

عن طريق التلفظ أم الكتابة أم الإشارة أم بغير ذلك مما يدل على الموافقة والقبول

بين الطرفين.

ومما لا شك فيه أن تراضي الطرفين على تحديد الربح مقدماً من الأمور

المقبولة شرعاً وعقلاً حتى يعرف كل طرف حقه.

ومن المعروف أن البنوك عندما تحدد للمتعاملين معها هذه الأرباح أو العوائد

مقدماً؛ إنما تحددها بعد دراسة دقيقة لأحوال الأسواق العالمية والمحلية وللأوضاع

الاقتصادية في المجتمع، ولظروف كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها.

ومن المعروف كذلك أن هذا التحديد قابل للزيادة والنقص؛ بدليل أن شهادات

الاستثمار بدأت بتحديد العائد ٤%، ثم ارتفع هذا العائد إلى أكثر من ١٥%، ثم

انخفض الآن إلى ما يقرب من ١٠%. والذي يقوم بهذا التحديد القابل للزيادة أو

النقصان؛ هو المسؤول عن هذا الشأن، طبقاً للتعليمات التي تصدرها الجهة

المختصة في الدولة.

ومن فوائد هذا التحديد لا سيما في زماننا هذا الذي كثر فيه الانحراف عن

الحق والصدق أن في هذا التحديد منفعة لصاحب المال، ومنفعة أيضاً للقائمين على

إدارة هذه البنوك المستثمرة للأموال.

فيه منفعة لصاحب المال؛ لأنه يعرفه حقه معرفة خالية عن الجهالة،

وبمقتضى هذه المعرفة ينظم حياته.

وفيه منفعة للقائمين على إدارة هذه البنوك؛ لأن هذا التحديد يجعلهم يجتهدون

في عملهم وفي نشاطهم؛ حتى يحققوا ما يزيد على الربح الذي حددوه لصاحب

المال، وحتى يكون الفائض بعد صرفهم لأصحاب الأموال حقوقهم حقاً خالصاً لهم

في مقابل جدهم ونشاطهم.

وقد يقال: إن البنوك قد تخسر؛ فكيف تحدد هذه البنوك للمستثمرين أموالهم

عندها الأرباح مقدماً؟

والجواب: إذا خسرت البنوك في صفقة ما فإنها تربح في صفقات أخرى،

وبذلك تغطي الأرباح الخسائر، ومع ذلك فإنه في حالة حدوث خسارة فإن الأمر

مرده إلى القضاء.

والخلاصة أن تحديد الربح مقدماً للذين يستثمرون أموالهم عن طريق الوكالة

الاستثمارية في البنوك أو غيرها حلال ولا شبهة في هذه المعاملة؛ فهي من قبيل

المصالح المرسلة، وليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز التغيير أو التبديل

فيها، وبناء على ما سبق فإن استثمار الأموال لدى البنوك التي تحدد الربح أو العائد

مقدماً حلال شرعاً ولا بأس به، والله أعلم.

... ... ... ... ... ... ٢٧/٩/١٤٢٣هـ ٢/١٢/٢٠٠٢م) .

انتهى السؤال ونص الفتوى.

ثم عقب محمد قائلاً: فما جوابك عن هذه الفتوى التي تجيز ما ترغب من

خلال دراستك منعه، وبقرار من مجلسنا، وتجادل في قوة ملحوظة أن مثل ذلك

التعامل من الربا المحرم؟

وأجاب عدنان: أخي المستشار محمد: ليست هذه الفتوى جديدة في قول

الدكتور سيد طنطاوي، وإن كانت جديدة من حيث صدورها من قِبَل مجمع البحوث،

وقد سبق لي الاطلاع عليها؛ بيد أن هناك وقفات سأذكرها مع تلك الفتوى.

الوقفة الأولى: إني أبدأ بشكري لأصحاب الفضيلة والسعادة الذين صادقوا

على الفتوى، ونحن نقول لهم إن الاختلاف لا يفسد للودِّ قضية، ومن حقهم النظر

إلى المسألة من الجهة التي يريدون، ولكن لدى الاختلاف يُرد الأمر إلى الكتاب

العظيم والسنة المطهرة، ونسلم أن مسألتنا ليست مما وضح أمره حتى نراه ظاهراً

في الكتاب والسنة، بل لقد أخرج مسلم (٤ / ٢٣٢٢) عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:

«خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ

قَالَ: ... ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ وَدِدْتُ أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ

عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهَا: الْجَدُّ، وَالْكَلاَلَةُ، وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» . كما أخرج أحمد

(١/ ٣٦) وغيره عَنْ سَعِيدِ بْن ِالْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: «إِنَّ آخِرَ مَا نَزَلَ مِنَ

الْقُرْآنِ آيَةُ الرِّبَا، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قُبِضَ وَلَمْ يُفَسِّرْهَا، فَدَعُوا

الرِّبَا وَالرِّيبَةَ» . وإسناده لا ينزل عن درجة الحسن، فإذا كان عمر بن الخطاب

رضي الله عنه يجد ذلك - أي عدم وضوح مفهوم الربا -؛ مما حمله على ترك

كثير من أبواب الحلال خوفاً من الربا، قال رضي الله عنه: «تركنا تسعة أعشار

الحلال مخافة الربا» ، أخرجه عبد الرزاق في مصنفه مرسلاً عن عمر رضي الله

عنه، وفي النفس شيء من الاحتجاج به على الرغم من أنه من مراسيل الشعبي

عامر بن شراحيل، وقد قال عنها في معرفة الثقات (٢ / ١٢) نقلاً عن العجلي:

«لا يكاد يرسل إلا صحيحاً» ، أقول ولكنها مرسلة على كل حال، ودون الجزم

باتصالها خرط القتاد، إلا أن تلك النصوص تحملنا على عذر المخالف في مثل هذه

الأبواب، مع يقيننا الجازم بأن الحق لا بد من ظهوره، وخاصة في صدد ما عنه

نتحدث، قال ابن حزم في المحلى (٨ / ٤٧٧) معلقاً على ما سبق ذكره عن عمر

رضي الله عنه: (حاش لله من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين

الربا الذي توعد فيه أشد الوعيد، والذي أذن الله تعالى فيه بالحرب، ولئن كان لم

يبينه لعمر فقد بينه لغيره، وليس عليه أكثر من ذلك، ولا عليه أن يبين كل شيء

لكل أحد، لكن إذا بينه لمن يُبلِّغه فقد بلَّغ ما لزمه تبليغه) أهـ.

ولهذا على أهل العلم دراسة ما يعرض لهم من وقائع جازمين بوجود تشريع

إسلامي يخصها؛ لقوله تعالى: [مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء] (الأنعام:

٣٨) ، ولقوله تعالى: [وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ] (الأنعام: ١١٩) ، وهذا

أصل عليه يعوِّلون في دراساتهم؛ بيد أنهم حين لا يجدون جواباً شافياً يحصل لهم

به الجزم بحكم شرعي، فليس عليهم سوى التوقف، حين لا يطمئن الواحد منهم

للجزم بالرجوع إلى الأصل الكلي الذي نعلم به صحة كل فعل صدر من الإنسان

وجوازه، وهنا لست أجد أدنى ريبة في أن تلك المعاملة من الربا الذي نهى الله عنه،

مع حملي قول المخالف على حسن الظن، وبيان قولي فيما يأتي:

الوقفة الثانية: نجد من خلال ما سبق شرحه في الدراسة أن الربح المحدد

بنسبة ثابتة يُوجد عبئاً ثقيلاً على المجتمع بأكمله، وهو جدير بالمنع لهذا السبب؛

حتى لو لم نسمِّه ربا، فما قولكم ونحن نجزم أنه من الربا الذي حرم الله تعالى؛

لأن ما يدفعه الناس لتلك الجهات الاستثمارية من بنوك ونحوها ليس سوى صرف

[١] أُلبس ثوب الاستثمار؛ لأنهم يدفعون نقودهم ويأخذون بدلها وليس في نيتهم

الارتفاق ولا التعاون على البر والتقوى، بل هو بيع للعملة مع اشتراط زيادة محددة

من قِبَلهم أو من قِبَل غيرهم، فصارت تلك المعاملة صرفاً ولو سموها استثماراً،

فهم لا يريدون سوى تلك النقود، وليس في تصورهم ما يسمى استثماراً أصلاً؛ لأن

الرجل منهم يدفع كمثال ١٠٠٠٠ دولار في إحدى مجالاتهم الاستثمارية، ويعلم أنه

سيأخذ بدلها بعد عام ١١٠٠٠ دولار، فقل لي بالله عليك: ما الفرق بين هذا وبين

رجل أعطى آخر ١٠٠٠٠ دولار، ليرد بدلها تماماً بعد أجل، ولكن مع زيادة

١٠ %، كنسبة مشروطة؟

إنهما في كلا الحالتين لم يفكرا إلا في مردود الـ ١٠٠٠٠ دولار ليس غير،

وفَقَدَ النقد ما من أجله وُجد؛ حيث صار غاية في ذاته دون دخول ملموس إلى

السوق [٢] .

فالقول في الحالتين لا يختلف من حيث الحكم الشرعي، والمعاملة صرف ولو

سميت استثماراً، ومن شرط الصرف التقابض في مجلس العقد [٣] ، وهنا لم يحدث

التقابض، فهو من الربا وإن لم تكن زيادة؛ فما قولنا وقد تم تحديد زيادة

مشروطة [٤] ؟

قال المستشار محمد: لماذا لا نعتبرها مضاربة، والبنك ليس سوى شريك

مضارب مع المستثمر رب المال؟

أجاب عدنان: بداية؛ البنك لم يجعل من نفسه مضارباً، وليس في عقودهم

ما يحدد وضع البنك في تلك العقود، سوى أنه ليس أكثر من جهة تأخذ كذا،

وسترد كذا بعد كذا، ولا يهمه وصف أو تكييف وضعه أكثر من ذلك، وهو الأمر

نفسه لدى من وضع ماله عند البنك؛ لا يفكر إلا في أنه وضع كذا وسيأخذ كذا بعد

كذا، بل الفتوى نفسها لم تجعل البنك في توصيفها سوى وكيل لأولئك المستثمرين

كما جاء في نصها الذي سبق ذكره ونحن لا نستطيع جعلها مضاربة؛ لأن من شرط

صحة شركة المضاربة وهو مما اتفق عليه علماء الشرع الحنيف [٥] لحوق الخسارة

برأس المال عندما توجد خسارة، والمضارب عندها يخسر جهده ليس غير.

وهنا رأس المال مضمون، بل مع زيادة مشروطة، وليس يخسر البنك بتاتاً،

بل لا يُتصور ذلك لأنه شخص اعتباري، وموظفوه تقاضوا رواتبهم، ولا شأن

لهم بخسارة البنك لو خسر. ولو قيل: قد يربحون في مشاريع أخرى؛ فهذا الذي

قد ربحوا فيه يحمل ما وقعت فيه خسارة [٦] .

وأقول عندها: ماذا تقولون لو خسر البنك في جميع مجالاته الاستثمارية بل

وغيرها عندما يعرض كساد عام، أو ما أشبهه؛ لماذا تقع الخسارة فقط على رب

المال، ولا يوجد من يخسر شيئاً في الطرف الآخر؟ ولماذا لا نزال نُصرُّ على

اعتبار تلك المعاملة قراضاً أي مضاربة ضاربين عرض الحائط بكل تلك الفروق،

على الرغم من وجود تخريج أصح وشبه أقرب؛ حين نقول: هو صرف فَقَدَ شرط

حلِّه [٧] ، والسلام.

والوقفة الثالثة: أنها اعتبرت البنك وكيلاً، وهو أقرب من اعتباره مضارباً،

وعلى الرغم من ذلك لا يصح هذا الاعتبار؛ لأن الوكيل من شأنه ألا يضمن إذا لم

يتعد [٨] ؛ لأن يده يد أمينة.

وهنا نجد البنك ضامناً لرأس المال بل ولربْح زائد، ولا نظر إلى ماهية

المشروع، ولا إلى ربحيته أصلاً، وليس يسأل البنك عن خسارة بتاتاً، حتى نقول

بتحميله تضمينه رأس المال؛ قائلين له: لقد قصَّرت فاضمن. فهو ضامن مع

زيادة قصَّر أم لم يقصِّر؛ فهل هذه وكالة؟ ليس هناك توكيل أصلاً، وعقدهم لم

ينص على ذلك حتى نتبرع من قِبَلنا بوضع هذا التوصيف، وخاصة حين نجد ما

هو أصح وأقرب شبهاً!

الوقفة الرابعة: نصت الفتوى على أنه لا مانع (ما دام الطرفان يرتضيان

هذا النوع من المعاملة) .

أقول: وهو صحيح، عندما تكون تجارة يديرونها بينهم، لا صرفاً فاقداً

لشرطه؛ مما صرح الشرع بتحريمه، وجعل آكله كمن يتخبطه الشيطان من المس.

ولعل في بياني السابق ما يوضح صحة هذا التقرير.

الوقفة الخامسة: نصت الفتوى قائلة: (ومما لا شك فيه أن تراضي الطرفين

على تحديد الربح مقدماً من الأمور المقبولة شرعاً وعقلاً؛ حتى يعرف كل طرف

حقه) أهـ.

وهو صحيح ١٠٠% إذا كان المقصود بذلك نسبة من الربح، لا من رأس

المال، فلا بد من التنصيص على نصيب كل من الشريكين من الربح، وبالنسبة

التي يكون بها خراج كل منهما، ولكن ما الجواب لو لم يكن ربح أصلاً؟ فهل مما

لا شك فيه أن يتحمل الخسارة أحدهما دون الآخر، وهل هو من المقبول عقلاً؛

فضلاً عن الشرع؟!

الوقفة السادسة: نصت الفتوى على أن: (من المعروف أن البنوك عندما

تحدد للمتعاملين معها هذه الأرباح أو العوائد مقدماً؛ إنما تحددها بعد دراسة دقيقة

لأحوال الأسواق العالمية والمحلية، وللأوضاع الاقتصادية في المجتمع، ولظروف

كل معاملة ولنوعها ولمتوسط أرباحها) أهـ.

يبدو من الكلام أن أعضاء المجمع ليسوا على دراية كافية بالكيفية التي يتم بها

حساب الأرباح في تلك البنوك.

وللفائدة أقول:

الأموال التي يستثمرها الناس لدى دور المال الكبرى - أوعية الاستثمار على

اختلافها - تسير غالباً - ولعله بنسبة تزيد عن ٧٠% من حجم المال المستثمر في

طريقين.

الأول: الوعاء البنكي.

الثاني: وعاء شركات التصنيع والخدمات ونحوهما، من شركات المساهَمة.

والوعاء الأول: إنما يحكم نسبة الربح فيه سلطة النقد في تلك الدولة، فليس

للبنك دور إلا في هامش يسير تتركه تلك السلطة كي تسهل عمليات التدفق والسيولة

- لدى البنوك لمواجهة بعض الظروف الاستثنائية -، فلدى البنك قدر محدد يدفعه

للناس، وآخر يأخذه بنسب معينة من قِبَل تلك السلطة.

أما الوعاء الثاني: فهو مما لا يقع تحت طائلة دراستنا هنا، وهو لا يكاد

يغطي ما نسبته ٣٠% من حجم المال في الوعائين، على الرغم من تأثره بالنسبة

التي تحددها تلك السلطة؛ باعتباره يستثمر لدى تلك البنوك، وهي تستثمر لديه،

والنسب هنا تقريبية إلى حد بعيد، ولكنه يشبه ألا يختلف معي أحد المختصين في

تقديرها تقريباً.

الوقفة السابعة: نصت الفتوى على الآتي: (ومن فوائد هذا التحديد لا سيما

في زماننا هذا الذي كثر فيه الانحراف عن الحق والصدق أن في هذا التحديد منفعة

لصاحب المال، ومنفعة أيضاً للقائمين على إدارة هذه البنوك المستثمرة للأموال.

فيه منفعة لصاحب المال؛ لأنه يعرفه حقه معرفة خالية عن الجهالة، وبمقتضى هذه

المعرفة ينظم حياته. وفيه منفعة للقائمين على إدارة هذه البنوك؛ لأن هذا التحديد

يجعلهم يجتهدون في عملهم وفي نشاطهم؛ حتى يحققوا ما يزيد على الربح الذي

حددوه لصاحب المال، وحتى يكون الفائض بعد صرفهم لأصحاب الأموال حقوقهم

حقاً خالصاً لهم في مقابل جدهم ونشاطهم) أهـ.

صحيح أن زماننا كثر فيه الانحراف، وخاصة في تعاطي الناس مع

المعاملات المشبوهة، بل ما يجزم أهل العلم بالاتفاق على تحريمه، وليس من دليل

يصحح هذا القول أقوى من صدور هذه الفتوى؛ ليس لأن أصحابها خالفوا الصواب،

كلا، فلعل من حقهم الاجتهاد؛ فيُعذرون ويُؤجرون، ولكن السائل يسأل عن أمر

يعلم مسبقاً أنه يتفق مع ما يريده، وإلا فلماذا لم يوجه سؤاله إلى شيخ الأزهر

السابق رحمه الله تعالى [٩] ؟! ولا أظنه تخفى عليه وجهة نظر فضيلته.

ونحن نقول للسائل: هب أنهم قد قالوا لك: بل هو محرم وكبيرة من كبائر

الذنوب. فقط قدِّر ذلك ذهنياً! هل ستمتثل وتقبل؟ أجب نفسك، بل كل واحد منا

حين يسأل عالماً؛ هل يريد الامتثال، أو مجرد التسلية، أو تحقيق رغبات معينة؟

من يسأل وهو يريد الامتثال؛ فإنه يسأل من يحسبه مكاناً لثقته هو علماً

وتقوى، حتى حين لا يكون صاحب منصب رسمي؛ لأنه يريد ما يبرئ ذمته يوم

لا ينفع مال ولا بنون، ولن يتوجه بسؤاله هكذا كيفما اتفق، فالناس لا بد أن

يراجعوا أنفسهم، ولا بد أن تقوم توعية بهذا الشأن على أوسع مدى، نعم لا بد أن

يفهم الجميع أن السؤال لرفع الجهل والامتثال، ولذلك لا بد من عرض القضية على

أوثق من يجده المرء، في أمر من الأمور [١٠] ، لا أن ينتقي حسب هواه.

ثم نصت الفتوى في القسم السابق الذي عرضته على أن هذه المعاملة مفيدة

لصاحب رأس المال، وللبنك.

هذا صحيح ١٠٠%؛ لأنه حين تقع خسارة: فإنه لا البنك سيتأثر؛ لأنه ليس

أكثر من شخص اعتباري، نال مشغِّلوه رواتبهم، وما استطاعوا الحصول عليه منه

على اختلاف الوسائل وتعددها، ولا المستثمر لديهم سيتأثر؛ لأنه سينال ماله

والربح المقرر من ضمان الدولة، أو من ضمان شركات التأمين. أما كيف ضمنت

الدولة؛ وعلى حساب من؟ هذا لا يهمه وقد رأينا شيئاً منه من قبل وأما كيف

ضمنت شركات التأمين، وعلى حساب من ضمنت فهو أيضاً لا يهمه [١١] .

والحقيقة أنه المجتمع بأكمله؛ على نحو ما سبق شرحه.

يا سادة! نحن أمام كارثة أخلاقية، حتى لو سلمنا من الكارثة الاقتصادية،

أليس من موقف لمثل هذا النوع من الأنانية؟!

الوقفة الثامنة: نصت الفتوى على الآتي: (ومع ذلك؛ فإنه في حالة حدوث

خسارة؛ فإن الأمر مرده إلى القضاء) ؛ أي حين تحدث خسارة.

وأقول: ماذا يستطيع أن يفعل القضاء هنا؟ من سيُحاسب لو وقعت خسارة

فادحة؟ هل المسؤول هو المدير، أو نائبه، أو فلان؟ ثم ماذا؟ يُسجن! يغرم!

حسناً؛ ما فقدناه من خير كان يمكن أن يقدمه رأس المال لو دخل إلى السوق كيف

سيُستدرك؟

بعبارة ثانية: هل سجنهم سيعوِّض المجتمع؟ أليست الوقاية خير من العلاج؟!

ج - مداخلة المستشار فهد.

الأخ عدنان: أليست المصلحة كفيلة لتجعل مثل تلك المعاملة صحيحة؛ نظراً

لحاجة المجتمع في دورته الاقتصادية للاستثمار لدى تلك البنوك، وهو أمر قد نبهت

إليه تلك الفتوى؟

وأجاب عدنان: لعلك وجدت ذلك من قولهم: (ولا شبهة في هذه المعاملة؛

فهي من قبيل المصالح المرسلة، وليست من العقائد أو العبادات التي لا يجوز

التغيير أو التبديل فيها) .

وهنا أقول: لقد ذكر علماؤنا تعريف المصلحة المرسلة، وهي أمر لم يشهد له

الشرع بإبطال ولا باعتبار معين [١٢] ، ولدى تأمل التعريف نجد تلك المعاملة مما

شهد الشرع بإبطاله، كيف لا وهي صرف، أو مما يُسلك به مسلك الصرف على

أقل تقدير، وقد فقد شرط حلِّه، وقرر الشرع تحريمه وفساده، وليس كافياً قولنا:

هذا فيه مصلحة حتى نقول بحلِّه، بل لا بد من موافقة الشرع لاعتبار تلك المصلحة،

أو على الأقل مما لم يشهد الشرع بإبطاله، وإلا فلن يجد أحد عناء في تغيير كل

شيء يرغب في تغييره من الشرع بدعوى المصلحة، وهذا مما يتنافى مع إيماننا

بصلاحية شرعنا لكل زمن.

د - مداخلة المستشار زيد.

الأخ عدنان: ما هي فقرات المشروع الذي تطلب التوقيع عليه؟

أجاب عدنان: ملخص ما أطلبه حسب المذكرة التي بين أيديكم:

١- إلغاء سعر الفائدة.

٢- فتح نافذتين في البنوك؛ إحداهما للاستثمار الشرعي؛ حيث يصير البنك

مضارباً برأس ماله، ويشجع الناس من خلال مشاريع قام هو بدراستها، تنتظر من

يقبل تشغيلها، وتفضيل أصحاب الهمة في هذا الميدان في جميع العطاءات

الحكومية.

٣- فتح نافذة ثانية لحفظ الأموال مقابل أجر، وهي تحتفظ باحتياطي ١٠٠%،

ويكون المال وديعة بالمفهوم الشرعي للوديعة.

٤- قيام توعية كبيرة بخصائص الاقتصاد الإسلامي، على اختلافها،

للأسباب التي سبق بيانها.

صاحب المعالي رئيس المجلس، أيها المستشارون الكرام: أرجو عرض

مشروعي للتصويت، وتقبلوا خالص شكري.

رئيس المجلس:

أيها الأعضاء، الآن يمكنكم التصويت.

وبعد التصويت خرجت النتيجة الآتية:

- موافق بنسبة ٨٥ %

- متحفظ بنسبة ١٠ %

- معترض بنسبة ٥ %

وتم إقرار المشروع، ونحن بانتظار نتائجه في الواقع، والتي نسأل الله أن

تعود بالنفع على أبناء مدينة الندى.


(١) هناك تفاوت في عبارات المتخصصين الاقتصاديين من فقهاء الشريعة في توصيف الوديعة البنكية، مع اتفاقهم أنها ليست وديعة بمعناها الشرعي؛ لأن الوديعة تُحفظ كما هي، وتُرد بعينها، قال المناوي في التعاريف ص ٧٢٣ هي: (استنابة في الحفظ وشرعاً: استحفاظ جائز التصرف متمَوَلاً، أو ما في معناه، تحت يد مثله) أهـ، وليس هو الواقع فيما يسمونه وديعة بنكية اليوم، فهي ليست كذلك شرعاً، ولكن حين تكون في حساب جاري يعدُّونها قرضاً؛ لأنه نقد لا يأخذه الناس بعينه بل يأخذون بدله انظر: المهذب ص ٣٠٢، كشاف القناع (٣ / ٣١٢) ،، وأنبه هنا أن من شرط الشرع في جعل النقد المدفوع قرضاً حالتئذ أن يكون ما دفع إنما دفع من باب الارتفاق والتعاون؛ لأنه إن لم يكن كذلك صار صرفاً، ولهذا قرر فقهاؤنا أن باب القرض جاء على خلاف القياس، وإنما جوزه الشرع رفقاً بالناس، والسؤال الآن: هل ما يودع لدى البنوك بغرض الاستثمار يصح توصيفه قرضاً؟ الجواب: لا يصح، ولذلك قلت: إنه صرف، وإن سُمي استثماراً، فالملح ملح ولو سميته سكراً؛ لأن الصرف كما في التعريفات للجرجاني، ص ١٤٧ هو: (بيع الأثمان بعضها ببعض) ، والمستثمرون هنا يعطون ليأخذون؛ لا بنية الارتفاق بل بنية التجارة، وبالمناسبة؛ قد يطرأ سؤال هنا يقول: هل تعتبر الوديعة في الحساب الجاري قرضاً؛ لأننا فهمنا أنك لا تعتبرها قرضاً سوى بشرط نية الارتفاق؟ الجواب: صحيح هذا الاعتراض، وهو وجيه أيضاً؛ لأن المودعين لدى البنوك لا يضعون أموالهم مساعدة للبنوك، بل لقد جاء في سنن ابن ماجه (٢/ ٨١٢) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَكْتُوباً: الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّدَقَةِ؟ قَالَ: لأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لاَ يَسْتَقْرِضُ إِلاَّ مِنْ حَاجَةٍ) ، والحديث في إسناده خالد بن يزيد الدمشقي، قال عنه النسائي في الضعفاء (١ / ٣٦) : (ليس بثقة) ، كما ضعفه ابن حبان على تساهله، انظر: المجروحين (١ / ٢٨٤) ،، والحديث مع ضعفه إلا أنه يقرر واقعاً من حيث طبيعة القرض؛ لأنه لا يكون سوى من حاجة، والمودعون لا يكون شأنهم كذلك؛ فكيف يصبح ما يضعونه قرضاً، ليس من جهة أنهم يضعونها لا بنية الارتفاق فقط، بل ومن جهة أنهم يعطونها لمن لا يحتاج أصلاً؟ والجواب: إننا لسنا في حاجة لبحث جانب الارتفاق في المسألة على أهميته؛ باعتبار أن التوصيف الشرعي للمعاملات اليوم ليس مطلوباً منه أن يكون دقيقاً على نحو ما ورد في كتب علمائنا من قبل، بل يكفي قرب الصورة وعدم وجود فروق كبيرة ومؤثرة كي يصح التخريج وبناء الأحكام، وبعبارة ثانية سيكون متحتماً التغاضي عن فروق لا أهمية لها في المقارنة وتخريج الأحكام الشرعية، بل لقد رأيت الحنفية مثلاً يعتبرون القرض سالكاً مسلك العارية ويعطونه أحكاماً بهذا الاعتبار انظر بدائع الصنائع، للكاساني (٧ / ٣٩٦) والأمر هنا كذلك؛ إذ لا نملك توصيفاً شرعياً أقرب من اعتبار النقد المودع لدى البنوك في الحسابات الجارية قرضاً، على أن جانب الارتفاق ما زال موجوداً لا من قبل المودع بل من قبل البنك؛ لأنه يتبرع بالحفظ، فهو ارتفاق من هذا الجانب، وأقول: حتى حين يجادل الآخرون في نية الارتفاق هنا، ليخرجوا التوصيف من باب القرض؛ فإننا نسلك به مسلك القرض لعدم نية التجارة البيع من قبل المودع، وللفائدة راجع كتاب: الجامع في أصول الربا، د / رفيق يونس المصري، ص ٢١٣ وما بعدها؛ حيث ميز بجلاء بين الاصطلاحات التي سبق ذكرها، وغيرها مما يقع فيه الخلط، والكاتب متخصص يعمل مستشاراً لدى البنك الإسلامي للتنمية، والرجل مرجع من كبار المراجع في هذا الباب، وفقه الله تعالى.
(٢) ولعلنا نجد شبهاً بين هذه المعاملة وما يسميه علماؤنا بـ (صورة عكس العينة) ، وذلك عندما نضع العقد أي ذلك المشروع الذي يستثمر فيه البنك في الاعتبار، و (عكس العينة) : أن يبيع رجل شيئاً بثمن حال، ثم يشتريه المشتري بثمن أعلى مؤجلاً، فهنا المستثمر اشترى العقد من البنك بثمن ولنقل ١٠٠٠ دولار، وباعه للبنك مؤجلاً بـ ١٢٠٠ دولار، وهي صورة قريبة جداً مما نراه في تلك العقود إلا أن صورة الصرف بل وحقيقته أقرب؛ لأننا في (عكس العينة) نجد سلعة معلومة، وهنا لا سلعة أصلاً فليس لدينا سوى أوراق ثبوتية، فصورة الصرف أقرب، فلا ريب في سلوك العقد هنا مسلك الصرف.
(٣) وقد استقر أن العملة تأخذ أحكام النقدين (الذهب والفضة) ؛ بحيث تعامل العملة باعتبارها صنفاً واحداً، والأخرى صنف آخر، وبذلك صدرت فتاوى كثير من المجامع الفقهية.
(٤) أخرج مسلم (٣ / ١٢٠٨) وغيره، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: أبصرت عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (لاَ تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا أي تزيدوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلاَّ مِثْلاً بِمِثْلٍ، وَلاَ تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلاَ تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ) .
(٥) انظر: الإجماع، لابن المنذر، ص ٩٨.
(٦) هناك قاعدة في الاقتصاد الإسلامي لا بد من التذكير بها ضمن هذا السياق، وتلكم القاعدة تقول: (الخراج بالضمان) ، قال السيوطي في الأشباه والنظائر، ص ١٣٥: (القاعدة الحادية عشرة: الخراج بالضمان: هو حديث صحيح أخرجه الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان من حديث عائشة، وفي بعض الإشارة ذكر السبب، وهو أن رجلاً ابتاع عبداً فأقام عنده ما شاء الله أن يقيم، ثم وجد به عيباً فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرده عليه، فقال الرجل: يا رسول الله، قد استعمل غلامي! فقال: (الخراج بالضمان) أهـ، والسيوطي هنا قد صحح الحديث، إلا أن له طرقاً لا تبلغ به درجة الصحيح، وحسبها أن تصل به إلى درجة الحسن لغيره، وهذا لا يعكر صحة تلك القاعدة؛ لأننا وجدناها تتفق مع قواعد الشريعة وعموماتها، وخاصة أنها قد ثبت من طرق أخرى معنى ما ترشد إليه تلك القاعدة، مثل ما أخرجه أحمد في مسنده (٢/ ١٧٤) وغيره من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قَالَ: (نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِى بَيْعَةٍ، وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ، وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ أي البائع، وَعَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ) ، وهو حديث لا ينزل عن درجة الحسن، والمهم هنا أن الرجل هنا ينال ربحاً وليس يضمن أي ليس يغرم عندما تقع خسارة، وهو ما توضحه قاعدة أخرى تقول: (الغنم بالغرم) انظر: التقرير والتحبير (٢/ ٢٦٩) ومفادها: ألا غنيمة لمن لا يغرم مقابل غنيمته.
(٧) سبقت الإشارة إلى شرط صحة الصرف، وهو المماثلة، والحلول أو التقابض على اختلاف بين أهل العلم في ذلك؛ أي الاكتفاء بمجرد الحلول، وهو يجعل القبض على التراخي حين يتأخر صاحب الحق في قبضه، ولكن الحق مهيأ له تحت طلبه، وهو وما يعني أن القبض على التراخي لا على الفور، أو التقابض وهو مباشرة الاستلام من الطرفين لمجرد وقوع القبض لأحد العوضين، انظر: الجامع في أصول الربا، ص ٨٢.
(٨) انظر: مجلة الأحكام العدلية، ص ٢٨٤، وهو ما لا خلاف فيه بين العلماء من حيث الأصل.
(٩) وقد أفتى فضيلته بتحريم ذلك، فتوى رقم (١٢٥٧) ضمن مجلدات فتاوى دار الإفتاء المصرية، بشأن الأموال المودعة في البنوك وبنك فيصل الإسلامي، بتاريخ ذو القعدة ١٤٠٠ هجرية ٨/١٠/١٩٨٠م، ونصها: قال شيخ الأزهر جاد الحق علي جاد: - المبدأ: تحديد الفوائد عن الأموال المودعة بالبنوك مقدماً من قبيل القرض بفائدة، وهو محرم شرعاً،، - وعدم تحديدها مقدماً هو من قبيل المضاربة في المال، وهي جائزة شرعاً،، سئل: بالطلب المتضمن الإفادة بيان حل أو حرمة الحصول على الفائدة عن المبالغ المودعة بالبنوك التجارية، وكذلك فوائد المبالغ المودعة ببنك فيصل الإسلامي من وجهة نظر الشريعة الإسلامية،، أجاب: جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: ٢٧٥ - ٢٧٦] ، وروى البخاري وأحمد عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي فيه سواء) ،، بهذه النصوص وأمثالها في القرآن الكريم والسنة الشريفة، وبإجماع المسلمين ثبت تحريم الربا، سواء كان ربا الزيادة أو ربا بالنسيئة،، لمَّا كان ذلك، وكان إيداع النقود بالبنوك التجارية بفائدة محددة مقدماً من قبيل القرض بفائدة؛ كانت هذه الفائدة من باب ربا الزيادة المحرم بتلك النصوص الشرعية، وإذا كانت الفوائد التي يؤديها بنك فيصل الإسلامي محددة مقدماً كانت من هذا القبيل المحرم شرعاً، أما إذا كان طريقها الاستثمار دون تحديد سابق للفائدة، وإنما يبقى العائد خاضعاً لواقع الربح والخسارة كل عام أو في كل صفقة كان هذا التعامل داخلاً في نطاق عقد المضاربة الشرعية، والربح واستثمار الأموال بهذه الطريقة حالاً لشدة الحاجة إليها في التعامل؛ لأن من الناس من هو صاحب مال ولا يهتدي إلى التصرف، ومنهم من هو صاحب خبرة ودراية بالتجارة وغيرها من طرق الاستثمار ولا مال له، فأجيز عقد المضاربة الشرعية لتنظيم وتبادل المنافع والمصالح،، هذا، وإن الله سائل كل مسلم ومسلمة عن ماله: من أين أكتسبه؟ وفيما أنفقه؛ والله سبحانه وتعالى أعلم «أهـ.
(١٠) وهو كما عبَّر عنه الأصوليون بقولهم: (مذهب العامي مذهب مفتيه) ، ونص ابن عبد البر في جامع بيان العلم على أن العامي حين يختلف الناس في أمر يسأل عنه؛ فإنه يقلد أكثرهم علماً في نظره، وعدّ ذلك رحمه الله تعالى إجماعاً.
(١١) وشركات التأمين هذه مثار سخرية في وطننا العربي، ليس نظراً للحكم الشرعي، فأنا لست ضدها، ولكن نظراً للخدمة السيئة التي تقدمها، ونظراً للتحيز الخبيث لصالح رأس المال؛ مما سلمت منه كثير من الدول الغربية، وليس هنا مكان شرح ذلك.
(١٢) انظر: روضة الناظر (١/ ١٦٩) .