للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[من الرطانة إلى المسخ]

محمد بن حامد الأحمري

هناك معارك تعترك فيها اللغات كما تعترك الجيوش على حدود الدول وفي

أعماقها وقد لا تراها العيون، ولأن الناس يصلون نار المعارك العسكرية وتسيل

الدماء وتهلك الجموع؛ فلا يهتم أحد بالمعارك الثقافية الأخرى، وبخاصة معارك

اللغات..

اليوم تنكمش اللغة العربية، وتحاصر في كل ركن، وتحل محلها اللغة

العبرية والإنجليزية والفرنسية. فدول المشرق العربي تعيش نهباً للغة الإنجليزية

وأحياناً الفرنسية، في القرى النائية وأعماق الصحراء تجد اللوحات باللغة

الإنجليزية في الوقت الذي لم يقف على أبواب هذه الأماكن متحدث بهذه اللغة. بل

وصل الأمر بشركتين عربيتين في بلد عربي أن تكتبا العقود بينها بالإنجليزية

وتمنعا عمالها من الحديث بالعربية، وبلغ الجهل والتخلف بهؤلاء أن تكون جميع

اللوحات الإرشادية بالإنجليزية، وأحياناً نصف اللوحات.

وفي دول المغرب العربي مشروع فرنسة شامل، ففرنسا تقوم بمعونات ثقافية

مجانية بإرسال مدرسي اللغة الفرنسية وإغراق الأسواق بالكتب والأفلام الفرنسية

بالإضافة إلى البرامج التلفزيونية. وأوقف مشروع التعريب في هذه البلدان بحجة

أن التعريب أدى للأصولية.

ويوم ينتهي النفوذ السياسي والاقتصادي للفرنسية والإنجليزية - وقد يكون

قريباً - هل سترثها اللغات المتخلفة جداً كاليابانية والصينية والهندية وندرسها في

مدارسنا ونحول وسائل إعلامنا لها، أم أن المستقبل للعبرية والتي تتزايد شهرتها

واهتمام العالم بها، لأن اليهود احترموا لغتهم ففرضوها على العالم، ولم يكن أحد

يتحدث بها إلا كهنة معابد اليهود وكانت العبرية والديانة اليهودية أهم وسائل تكوين

دولة مترابطة، لأن اليهود قدموا من شعوب شتى ولغات شتى فجمعتهم العبرية

والديانة اليهودية.

إننا لنلوي ألسنتنا بعجمتهم ورطانتهم في كل بلدانهم حيث لا يحترمون لنا لغة

ولا ذات، ويوم يدخلون بلداننا ترانا نستبق تحت أقدامهم لنترجم لهم خدماً طيعين

بلا أجر، بل ونحرص ألا تعكر مزاجهم كلمة عربية واحدة، بل إن المريض في

الدول العربية عندما يشتد به المرض قد لا يفكر في الذهاب إلى المستشفى لأنه لا

يستطيع أن يشرح مرضه بلغة أخرى، وهم لا يفهمونه بل ربما أمرضوه أو قتلوه

لأنه لا يعرف لغتهم ولا يعرفون لغته.

لقد انهارت الثقافة الإسلامية وعلومها العربية يوم أن كانت اللغة التركية لغة

ثانية بل لغة مسيطرة في البلاد العربية، وعشنا زمناً طويلاً من الانطواء وضعف

العلوم والثقافة، لأن اللغة المهيمنة لم تكن لغة المجتمع فلم تكن العربية، ولم

يتعرب الأتراك، واليوم سيكون بقاء اللغات الأجنبية مسيطرة في بلاد المسلمين

علامة انهيار ثقافي وتبعية سياسية شاملة، فمجتمع يعيش بلغتين ويحيا ثقافتين

مجتمع مصيره المسخ والانهيار، فاختاروا لكم حياة ثقافية وحضارية واحدة، إما أن

تكون العربية، أو الفرنسية، أو الإنجليزية، وتجنبوا مشاريع التقليد الفاشلة قديماً

وحديثاً. ونحن اليوم نعيد تجربة العهد التركي الفاشلة ثقافياً مع أنها حمت المسلمين

عسكرياً زمناً طويلاً، نعيد التجربة مع الغربيين. لقد آن لنا أن نعي ثقافتنا ونعرف

أهمية لغتنا وألا نحيا حياة المسوخ، وليس في هذا منع لوجود مختصين ونقلة لما

نحتاجه من الغرب أو الشرق، فتكون هناك حاجة دائماً لمن يعرف هذه اللغات

سواء اليابانية أو الصينية أو العبرية أو الإنجليزية أو الفرنسية، ولكن ليس بهذه

العملية الماسخة لشعوبنا، الممزقة لها سياسياً وثقافياً، آن لنا أن نتخلص من هذا

الاستعمار الفكري المزري.