الاحتلال يريدها حرباً أهلية
د. عماد محمد ذياب الحفيظ
أما التفجيرات التي يقوم بها الآخرون ـ ومنهم جهات مدعومة من الاحتلال أو جرى تجنيدها بحجّة محاربة الإرهاب المفتعل المصطنع أو بدعوى الانتقام والثأر ـ فإن جميع هذه الأحداث طابعها تطرف طائفي وعرقي وبمباركة من المحتل، ويشارك بها العديد من المجموعات السياسية المؤيدة للاحتلال؛ فبعضها من الجهات المشاركة في السلطة فاقدة السيادة في السابق من أجل الكسب غير المشروع، أو الحكومة منقوصة السيادة في الوقت الحاضر، وبغضِّ النظر عن حقيقة الانتخابات أو تزويرها؛ فالمهم أن يعتبرها الاحتلال مقبولة من وجهة نظر ساسته، وكذلك الميليشيات التي تتبع الأحزاب والحركات والمجموعات المتطرّفة طائفياً وعرقياً وغير المتجانسة في شيء سوى سرقة ما يمكن سرقته من الحق العام والخاص للشعب العراقي وقوته وحضارته التي نهب معظمها وهرّب لخارج العراق. وما يؤكد التطرّف الطائفي أن معظم قوى الأمن الداخلي والاستخباراتي والجيش تكاد تكون مقتصرة على أحزاب متطرفة طائفياً مؤيدة للاحتلال؛ من طائفة الشيعة أولاً، ثم من أحزاب مؤيدة للاحتلال من بعض الأحزاب المتعصّبة للقومية الكردية العلمانية ثانياً، وغيرها من بعض المجموعات والأحزاب العلمانية والماركسية أو الإسلامية في الظاهر، ومن بعض الأقليات القومية والدينية غير الإسلامية الأخرى.
أما باقي أبناء الشعب العراقي من غير المؤيدين للاحتلال ـ الذين يشكلون نسبة كبيرة جداً من الشعب العراقي ـ فهم مغيّبون ومحرومون من كل شيء، بما في ذلك فرص العمل وغيرها من الامتيازات التي تمنح للآخرين مكافأة لولائهم للمحتل، وهذا سوف لن يخدم الشعب العراقي على المدى القريب والبعيد.
في حين أن المحتل ما زال يقدم الكثير من الفُتات لبعضٍ، ومنهم أحفاد المغول والصفويين المتطرّفين، والعلمانيون والماركسيون والشعوبيون وغيرهم الذين ليس لهم شاغل غير السلب والنهب والاغتصاب والقتل، والتي يقدم لهم المحتل الدعم والمكاسب وبمختلف الوسائل لبث الفتنة الطائفية والعرقية أكثر فأكثر في كل يوم ومناسبة أو غير مناسبة بين أبناء الشعب الواحد، ومن هذه الوسائل إساءة استغلال الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، حيث يروّج هذا الإعلام في كل مناسبة أو غير مناسبة لما يريده أولئك، ويمكن توضيح هذا الاستغلال من خلال منح التصاريح والإجازات لأعداد كبيرة من محطات التلفزيون والإذاعة والصحف اليومية ذات السمة الطائفية والعرقية والتحريضية، التي تم تأسيس معظمها منذ سقوط بغداد في ٩/٤/٢٠٠٣م وحتى وقتنا الحاضر وذلك لفرض سطوته وسلطته.
ولما وجد المحتل أن الرافضين للاحتلال في ازدياد أخذ يزيد من وسائل الإعلام المأجورة هذه في سبيل خدمة أغراضه حتى أصبح متوسط وسائل الإعلام الموجّهة للتطرف والتعصّب يفوق التصوّر (شكل ١، ٢، ٣) ، وكل هذا من أجل صب نار الطائفية فوق حطب الشعب الذي وصل إلى مرحلة ما عاد يحتملها، لدرجة أن الكثير من شرائح الشعب العراقي أصبحت تنشد أي طريق من أجل الوصول إلى أي مخرج لهذه الأزمات وإن كان يؤدي إلى حرب أهلية من أجل تحقيق الأهداف التي رسمها لهم الاحتلال وجهات أخرى خارجية في سبيل تحقيق مصالحها.
لذلك نجد هناك الأعداد الكبيرة من المحطات التلفزيونية الفضائية والمحلية وغيرها من وسائل الإعلام المغرضة التي تعكس حجم الفتنة المراد بثّها بين أبناء الشعب الواحد، والتي ظاهرها طائفي وهي في الحقيقة لدعم الموالين للاحتلال من خلال هذه الوسائل والمحطات، والتي يتحكم بها المحتل بواسطة مكتب إعلامي مقرّه في المنطقة الخضراء في بغداد تشرف عليه أجهزة استخباراتية تابعة للاحتلال، مما يؤكد الممارسة المريضة التي يمارسها الاحتلال والكثير من الأحزاب الفاقدة للقواعد الشعبية من الذين يؤيّدونه ظلماً. وحقيقة الأمر يمكن اعتبارها من أهم الأسباب التي تثير الفتنة الطائفية والعرقية، والتي يشجع عليها المحتل لإشباع رغباته الانتقامية والطامعة وتكريس الاحتلال.
كل ذلك يتم بتحريض من قِبَل المحتل والصهاينة وغيرهم المتحالفين معه والدوائر الاستخباراتية الغربية المختصّة التي تخطط لذلك. وعلى أصحاب العقول من القيادات ورجال الدين والشخصيات وزعماء العشائر العراقية وغيرهم التنبّه لذلك، والعمل على مواجهته لكي يساعدوا العراقيين في محنتهم، ولا يعطوا فرصة للطامعين والفاقدين للانتماء العراقي لنهب ثروات وخيرات العراق، وعلى كافة العراقيين من الشيعة وأهل السنة عرباً وكرداً وتركمان وأقليات أخرى قومية أو دينية أن يعملوا جميعاً من أجل خدمة الشعب العراقي، كل الشعب دون تفرقة أو تعصّب طائفي وعرقي، كي يتمكن هذا الشعب الأصيل من الوصول إلى شاطئ الأمان، وينتهي من هذا البلاء والشر المستشري في جسد البلاد ـ إن شاء الله تعالى ـ.
وبذلك فإنه سوف لن يبقى لطرف طامع أو حاقد دور في التسلط على رقاب الشعب العراقي، بل سيتسامى الجميع فوق هذه الأطماع والتفاهات من أجل الشعب كل الشعب وليس لفئة طائفية معينة أو عرقية محدّدة دون أخرى. وإن كان هناك من يقول غير هذا القول فهو للتجارة بالشعب والوطن من أجل مكاسب ذاتية وطروحات طائفية وعرقية جوفاء يسعون من خلالها للحفاظ على تلك المكاسب غير المشروعة والتي تمكنوا من تحقيقها بأساليب وطرائق تؤكد عدم انتمائهم للشعب العراقي، وإنما جاؤوا دخلاء بطرائق لا يرضى بها الله ورسوله وكل مؤمن شريف، وإن الشعب العراقي سيعرف كيف يتخلص منهم في مزبلة التاريخ أو يعيدهم إلى جادّة الصواب.
أما من قتل آلاف الأبرياء أو أرهبهم أو هجّرهم من مواطني شعب العراق ـ في البصرة وذي قار والأنبار والموصل وكركوك وبغداد والحلة والكوت والنجف وبغداد وغيرها ـ فإن هؤلاء قد قدّموا الدعم للاحتلال بمختلف أشكاله من المتطرّفين أحفاد المغول والصفويين وغيرهم من الحاقدين والطامعين؛ في الوقت الذي يدّعون أنهم يعملون ذلك خدمة للوطن، بينما نجدهم قد قتلوا آلاف العراقيين أو شاركوا المحتل في قتل عشرات الآلاف من العراقيين الأبرياء بما فيهم النساء والأطفال والشيوخ، وكذلك تشريد مئات الآلاف من العوائل العراقية منذ سقوط بغداد عام ٢٠٠٣م وعلى مدى سنتين فقط في النجف ومدينة الصدر والفلوجة والرمادي والموصل وسامراء والكاظمية وتلعفر وغيرها؛ حيث نلاحظ أن جميع هذه الأعمال تُنفّذ قبيل انتخابات الجمعية الوطنية والتي ستتكرّر أيضاً قبيل الانتخابات اللاحقة وغيرها، والهدف من كل ذلك تمرير المؤامرات والاحتيال والتزوير في نتائج الانتخابات والتصويت من أجل تكريس الاحتلال. فضلاً عن اعتقال عشرات الآلاف من شباب وشابات العراق في سجون معلومة ومجهولة داخل وخارج العراق، والذين يتعرّضون يومياً إلى أسوأ أنواع التعذيب والمهانة، والذي يؤدي في أحيان كثيرة إلى قتلهم بعد توقيفهم ليتم قتلهم بأبشع الوسائل وأكثرها وحشية دون محاكمة أو جرم اقترفوه. وأنواع هذا التعذيب متعددة كاستعمال المثاقب الكهربائية التي تستخدم لثقب الرؤوس والصدور أو «نار لحم» الألواح المعدنية وغيرها، وهذا ما أقرته اللجنة المختصة الأمريكية على الرغم من أنها غير مستقلة، حيث لم تشر سوى إلى بعض الحالات دون إحصائها وإدانتها أو إحالة المجرمين المنفذين لهذه الجرائم إلى المحاكم المختصة أو محاكم مجرمي الحرب الدولية.
إن الذين تم اعتقالهم كان على أساس معلومات كاذبة أو ملفقة ومفبركة تقدم لقوات الاحتلال والقوى الداعمة له من القوى المحلية والخارجية. وإن الكثير من المعتقلين مفقودون لا تعلم عوائلهم أي معلومات عنهم، في الوقت الذي نجد فيه هؤلاء المتطرفين الطائفيين والمتعصبين العرقيين من أوائل الذين يقاتلون في سبيل الملذات والشهوات المادية والمعنوية والمصالح الشخصية والطائفية والعرقية، وإن الصور المسجلة في وسائل الإعلام المختلفة خير دليل على هذه الجرائم، وما لم ينشر أعظم، ولم أجد سلطة في أكثر دول العالم تخلّفاً تفرح عند تدمير مدن العراق والتنكيل بأبنائها من قِبَل محتلٍّ ما ـ في الوقت الذي شعر فيه شعب المحتل بالأسف نتيجة أفعال بعض جنوده وضباطه ـ وأنها ترقص عندما يقتل المحتل أبناء شعبها نساء وأطفالاً وشيوخاً؛ كما شاهدت ذلك يحصل لدى بعض الطائفيين والعرقيين المتطرفين وهم يهنِّئون بعضهم بعضاً ويتندّرون حينما يشاهدون على شاشات التلفزيون صور القتلى والمنكّل بهم في سجون المحتل وخارجها من أبناء شعب العراق؛ الذين هم عرب من أهل السنّة في الأنبار وغيرها، أو من الشيعة في النجف ومدينة الصدر والكاظمية، أو من أهل المدائن وتلعفر وهم مزيج من أهل السنة والشيعة عرباً وأكراداً وتركمان وغيرهم.
أما ما نشرته الصحف الغربية والأمريكية عن عدد القتلى من العراقيين فحقيقة الأمر قد تجاوزت أعدادهم اليوم أكثر من (١٠٠) ألف عراقي قتيل من رجال ونساء وأطفال وشيوخ، ليس لسببٍ سوى أنهم رافضون الاحتلال منذ عام ٢٠٠٣م وحتى الوقت الحاضر، على الرغم من معاناتهم خلال النظام السابق؛ إلا أن النظام الحالي هو كسابقه إن لم يكن أسوأ. والغريب في الأمر أننا نجد بعض وسائل الإعلام المروّجة لاستمرار الاحتلال تحاول أن تقلل من أعداد القتلى، فتقدّرهم مثلاً بـ ٢٥ ألف قتيل فقط، ولعلهم يستهينون بهذا الرقم أو يجدونه ما زال قليلاً، ولعل بعضهم ينادي فيقول: ألا تقتلون المزيد من أجل الاحتلال؟!
بل إن هذه الأفعال المشينة للإنسانية جمعاء وجدتها متطابقة مع ما فعله المغول في العراق خلال القرن الثالث عشر الميلادي، والصفويون من بعدهم في القرن السابع عشر الميلادي، والذين قتلوا ونكلوا وشرّدوا العرب والأكراد والتركمان وغيرهم؛ ليس لشيء سوى أسباب طائفية متشددة وعرقية متعصبة شوفينية، كما فعل ويفعل الإسرائيليون من قتل وترهيب وتنكيل بالفلسطينين، من خلال جيش الاحتلال المغتصب أو المستوطنين المتطرفين، وذلك منذ منتصف القرن العشرين الميلادي الماضي وحتى يومنا الحاضر؛ فما أشبه ذلك بهذا! أولئك الذين يعودون للأصول ذاتها الحاقدة على العرب والمسلمين والإنسانية؛ فهؤلاء الطامعون والحاقدون ما زالوا يحلمون ببقائهم في المنطقة ليعيثوا في الأرض فساداً من أجل تحقيق الشهوات الذاتية
ما زال العراقيون يعانون منذ سقوط بغداد عام ٢٠٠٣م من التطرّف الطائفي والعرقي الذي يستخدم ضد جميع أبناء الشعب العراقي من عرب أهل السنة وعرب الشيعة والأكراد والتركمان والأقليات الأخرى غير المسلمة الرافضين للاحتلال، بما في ذلك عمليات القتل والاختطاف ليلاً (من قِبَل الميليشيات الطائفية التي جعلوها بإطار وزارتي الداخلية والدفاع، التي تعتبر نفسها مخوّلة من قِبَل السلطة منقوصة السيادة إن كان لها سيادة حقيقية في ظل الاحتلال) .
(*) عضو اتحاد المؤرخين العرب.