[المحادثة بين الرجال والنساء من أجل التعارف]
محمد بن شاكر الشريف
مع التقدم الكبير في وسائل الاتصال تظهر كثير من الطرق التي لم تكن معهودة في ما مضى من إمكان محادثة الرجال والنساء بعضهم بعضاً، ولم تزل هذه الطرق بمرور الأيام تتطور وتنتقل من طور إلى طور متقدم في تلك الإمكانيات، حتى وصلت إلى ما يُعرف بـ (الشات) و (غرف الدردشة) عن طريق الإنترنت الذي تغري تكلفته الزهيدة بالانسياق في هذا الأمر.
والإسلام يحرص حرصاً شديداً على نقاء المجتمع وسلامته من كل أسباب الشرور ومظاهرها، وخاصة في جانب الأعراض؛ فما من سبيل يضمن ذلك إلا وقد سلكه وأمر بسلوكه، وما من سبيل يعارض ذلك إلا وقد نهى عنه، وحذر منه، فنهى عن الخلوة بين الرجل والمرأة وإن كانا قريبين ـ ما لم يكونا من المحارم ـ ومنع المرأة أن تسافر من غير محرم، أو أن تسافر مع غير محرم، وأمر المرأة بارتداء الحجاب، ومنع من الاختلاط بين الجنسين، ونهى المرأة عن الخضوع بالقول (١) ، كما جعل على مخالفة ذلك عقوبات زاجرة، تزجر من تسوِّل له نفسه تجاوز ما شرعه الله تعالى.
وقد يكون في استخدام (الشات) سواء كان كتابة باليد أو تكلماً بالصوت بين أفراد الجنس الواحد أي بين رجل يخاطب رجلاً، أو امرأة تخاطب امرأة، نوع من التعارف الذي قد تترتب عليه بعض المصالح، وهذا في دائرة المباح؛ وإن كان هناك احتمال عدم صدق البيانات؛ فقد يكتب بعض الناس بيانات مخالفة لبياناته الحقيقية، وخاصة في خانة الجنس ليوقع الجنس الآخر في مخاطبته.
وأما مخاطبة الرجل للمرأة، أو المرأة للرجل تكلماً أو كتابة من أجل التعارف بينهما، فالذي يظهر من توجيهات الشرع التي مرت أن هذا لا يجوز، ولو كان كلاماً بريئاً خالياً مما يخدش الحياء أو نحو ذلك؛ فلم تجرِ بذلك عادة بين المسلمين من قديم الزمن، وإنما كان الحديث الذي يمكن أن يحدث بينهما للحاجة وليس للتعارف؛ على أن يكون ذلك وفق ضوابطه كما قال ـ تعالى ـ: {وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: ٥٣] .
ولم يظهر شيء من ذلك بين المسلمين إلا بفعل تقليد الأمم الغربية، وهذا النوع من المخاطبة فيه ـ عندي ـ بعض معاني الخلوة الممنوعة، وإن لم يكن خلوة كاملة؛ حيث يجلس الرجل والمرأة كلاهما إلى جهاز الحاسب، فيكتبان ما يشاءان من غير أن يدري أحد غيرهما بما هو مكتوب؛ فهذا وإن لم يكن خلوة جسدية فهو خلوة معنوية، فإذا اختلى الرجل بالمرأة أو المرأة بالرجل على (الشات) ؛ فإذا قُدِّر أن أحداً من أوليائهما اطَّلع على ذلك فإنهما يشعران بقريب من الحرج الذي يحدث لهما عندما تكون الخلوة جسدية، مما يدل على أن هذه الخلوة فيها من معاني الخلوة الجسدية، وهذه الخلوة المعنوية قد تورث تعلُّق القلوب بعضها ببعض، وربما تقود مع مرور الوقت وتكررها إلى الخلوة الجسدية.
أما المخاطبة من أجل تحقيق مصلحة دنيوية كأن تخاطب امرأةٌ طبيباً مثلاً، أو يخاطب رجل طبيبة للسؤال والاستفسار عما فيه مصلحة من ذلك، فهذا لا حرج فيه، ولكن ينبغي أن يكون الكلام من أجل ذلك الغرض حقاً، وأن لا يسترسل أحد المتخاطبين في كلام خارج عن المطلوب، حتى لو لم يكن فيه كلمات غير مناسبة.
وأما المخاطبة من أجل تحقيق مصلحة دينية كالاستفسار مثلاً عن تفسير آية أو حديث أو السؤال عن حكم فقهي فهو جائز أيضاً، إذا كان المسؤول ممن يقدر على ذلك، وينبغي أيضاً الانتباه إلى عدم الاسترسال في الكلام الخارج عن موضوع السؤال حتى لو لم يكن فيه شيء؛ والشيطان هنا قد يضحك على كل منهما فيمنيهما بأنهما صالحان طيبان وأنه لا خوف عليهما من الاسترسال في الكلام؛ فهما ليسا بمنزلة الأشرار؛ وهذا من مخادعة الشيطان لهما. فليحذر المتخاطبون من هذا المنزلق الذي قد يجر إلى ما لا تحمد عقباه!
لكن الرجل الصالح والمرأة الصالحة إذا استزلهما الشيطان في لحظة الضعف البشري التي قلما ينجو منها أحد، فجعلهما يسترسلان في الحديث فيما لا تدعو إليه الحاجة ـ وإن لم يكن محرماً ـ يدركان سريعاً بفضل الله خطأهما، وأنهما قد استرسلا أكثر مما ينبغي فيما لا تدعو إليه حاجة، فيستغفران الله ويتوبان إليه، والله غفور رحيم.
ولو أردنا أن نضع ضابطاً لما يمكن أن يكون استرسالاً فيما لا تدعو إليه حاجة، لقلنا: لو كان الرجل الصالح والمرأة الصالحة يستحيان أن يطلع على هذه المخاطبة أحد من الناس، لكان هذا استرسالاً غير محمود، لكن هذه ليست قاعدة كلية مطلقة، بل هي قضية أغلبية، وإنما قيَّدنا القول بالصالح والصالحة؛ لأن غير الصالح وغير الصالحة منهم من لا يستحي من أن يطلع غيرهما على المخاطبة، بل ربما سعيا ذاتهما إلى إطلاع الآخرين.
وفي كِلا الأمرين (المصلحة الدينية، أو المصلحة الدنيوية) إذا أمكن أن تكون المخاطبة عن طريق الكتابة بغير عَنَتٍ أو مشقة فلا ينبغي العدول عنها، ولا ينبغي أن تكون عن طريق الصوت وخاصة من المرأة، إلا إذا تعذر ذلك، أو كان فيه مشقة، وعلى المرأة حينها ألاَّ تخضع بالقول، على أن الخضوع بالقول ليس قاصراً ـ من وجهة نظري ـ على ليونة الصوت فقط، فقد يكون في الكتابة أيضاً؛ وذلك إذا كتبت المرأة ألفاظاً وتعبيرات تدل على ضعفها، كأن تكتب المرأة عندما يأمرها الرجل بما فيه المصلحة: أنا تحت أمرك أو ما شابه ذلك من العبارات، وقد تظن بعض النساء ـ هداهن الله ـ أن هذا من قبيل الأدب في الحديث، وهو لا أدب فيه، بل الأدب في اختصار العبارة ووَجازتها والبعد عن مثل هذه الألفاظ والتعبيرات. ومما يلبِّس على الناس في مثل هذا المجال تفاوت العمر بين الرجل والمرأة، فيظنون الأمن مع التفاوت في الأعمار بين المتخاطبين وهذا غير صحيح. ومن المهم في هذا المجال أن يعلم الرجل أن المرأة مرأة، وأن تعلم المرأة أن الرجل رجل، وإن كان بينهما فرق كبير في العمر.
وهناك مشكلة أخرى في هذا (الشات) وهي أن المتخاطِبَيْن يكونان في أغلب الأحيان بأسماء وهمية غير حقيقية، وهذا يرفع عنهما الحياء مما يتيح للبعض أن يتوسع في الكلام وهو آمن من العقوبة أو المساءلة.
ومن الأشياء التي ربما توسع فيها البعض في هذا (الشات) هو البحث عن زوجة بالنسبة للرجل أو البحث عن زوج بالنسبة للمرأة، وكل منهما يحدِّث نفسه بأنه لا غبار عليه وأنه يبحث عن الحلال، وقد يكون هذا من استدراج الشيطان له أو لها، وهذا المسلك في نظري غير سليم، فلا ينبغي للرجل أن يختار زوجته عن هذا الطريق، كما لا ينبغي للمرأة أن تختار زوجها عن هذا الطريق أيضاً؛ فكم من رجل يقول: أريد من وراء ذلك اختيار زوجة وهو يعلم من نفسه أنه كاذب، وكم من امرأة تقول: أريد من وراء ذلك اختيار زوج وهي تعلم من نفسها أنها كاذبة، وإن كان الكذب في جانب الرجال في هذه المسألة أكثر، وقد يسألها عدة أسئلة مثل اسمها وأين تقيم، وكم عمرها، وهل تقيم مع أهلها؟ ونحو هذه الأسئلة وهي تجيبه عن كل ذلك بزعم أو رغبة في الزواج، ثم هو يستغل كل هذه المعلومات فيما لا يعود على الطرفين إلا بالشرور
وربما يكون هذا الاتصال في بعض الأحيان أو أكثرها وسيلة من البعض للتسلي وقطع الأوقات؛ مع أن الأوقات أغلى من الأموال، أو لمحاولة الحصول على ما لا يمكن الحصول عليه.
ألا فليكفَّ الرجال والنساء عن البحث عن زوجات أو أزواج عن هذا الطريق، لكن هذا لا يعني أن كل من يسلك هذا الطريق فاسدون أو فاسدات، غير أن المشكلة أننا لا نستطيع التحقق من ذلك وخاصة في ظل الأسماء غير الحقيقية، والإسلام، كما ذكرت، يحرص دائماً على نقاء المجتمع، ولا يمكن أن نغامر بسمعة بيوت المسلمين من أجل مصلحة متوهمة.
هذا والله أعلم، وصلى الله ـ تعالى ـ وسلم على عبده ورسوله محمد.
(١) الخضوع بالقول: إلانة الكلام.