للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المنتدى

نعم.. كانوا كِبَاراً في كل شيء

طارق محمد العمودي

ما أن نتصفح سير أسلافنا، وخاصة أهل القرون الثلاثة الفاضلة حتى نرى ما

يُتعجب منه.

لقد كانوا كباراً في كل شيء.. في عبادتهم لله تعالى، والمنقول عنهم في ذلك

معروف عجيب، وفي خوفهم من الله تعالى وخشوعهم له، في تربيتهم لأبنائهم،

وفي تربيتهم الذاتية لأنفسهم، وفي معاملاتهم مع العباد وكذا مع غير المسلمين،

وفي فعل الخيرات واستغلال مواسم العمر.

ولو حلفت بالله العظيم أنهم قد أعجزوا من بعدهم لم أكن حانثاً.

ووصل الأمر بهم أنهم كانوا كباراً حتى فيما يتمنونه؛ فلم يتركوا لحب الدنيا

منفذاً لدى أمنياتهم.

وما ذلك إلا لعلمهم بأنَّ التمنّي يدل على الهمّ الذي يحمله الإنسان، ومن أجله

يصل إلى الغاية المنشودة.

فانظر رحمك الله إلى ما يتمناه الكثير منا في زماننا هذا. لا تجد في كثير

منها إلا أمنيات شكلية، مادية بحتة، تقليدية منبهرة بالغرب، تتصدر لدى الكثير

منا دعاءه لله تعالى ويشفعها بعد ذلك على استحياء منه بنصرة هذا الدين وإخواننا

المسلمين في كل مكان! ! فكنا بذلك صِغَاراً، فهُنَّا على الله عز وجل، فَصغَّرَنا في

عيون أعدائنا من إخوان القردة وأكلة الخنزير، والجزاء من جنس العمل، وما ربك

بظلام للعبيد.

ولقد تفطَّن لهذا الأمر الحافظ المؤدِّب ابن أبي الدنيا رحمه الله، فألف كتاباً

عظيماً مشوقاً في بابه سماه: (كتاب المتمنين) ساق فيه بأسانيده عن سلفنا الصالح

ما كان يتمناه الواحد منهم، فأودع فيه ما يدهش القارئ والسامع معاً، فأحسن في

جمعه، ولا أعلم من صنف في موضوعه مثله.

وأسوق إليك بعضاً من أمنيات المتمنين من سلفنا لشحذ الهمم والاقتداء بهم كي

نكون كباراً مثلهم: - لما طُعن عمر رضي الله عنه قال له ابن عباس: أبشر

بالجنة. قال:

والله! لو أنَّ لي الدنيا وما فيها لافتديت به من هوْل ما أمامي قبل أن أعلم ما

الخبر [١] .

- وهو القائل رضي الله عنه: وددت أني شعرة في صدر أبي بكر. فضرب

بذلك مثالاً للتقدير والاحترام [٢] .

- وهو القائل لجلسائه: تمنوا. فتمنّى كل واحد منهم شيئاً، فقال عمر:

أتمنى بيتاً مملوءاً رجالاً مثل أبي عبيدة ابن الجراح [٣] .

فانظر إلى ما تمناه هنا ولم يُعِرْ للذهب والفضة اهتماماً، واختار بدلاً عنهما

مثل (أمين الأمة) يكونون ولاة حق وعدل على رعيته.

- وتمنى أبو عبيدة فقال: يا ليتني كبش فذبحني أهلي فأكلوا لحمي وحَسَوْا

مَرَقي [٤] .

- وكانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقول: يا ليتني إذا متُّ كنت

نسياً منسياً [٥] .

- وقال مالك بن دينار: وددت أنَّ الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول لي:

يا مالك! فأقول: لبيك، فيأذن لي أن أسجد بين يديه سجدة، فأعرف أنه قد رضي

عني، فيقول: يا مالك كن اليوم تراباً [٦] .

- وقال يزيد الرقاشي: يا ليتني لم أُخلق، وليتني إذْ خُلقتُ لم أُوقَف، وليتني

إذ وقفت لم أحاسب، وليتني إذ حوسبت لم أُناقش [٧] .

- وخطب الحجاج بن يوسف فقال: أما بعد؛ فإن الله قد كفانا مؤنة الدنيا،

وأمرنا بطلب الآخرة، فليت الله كفانا مؤنة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا؛ فقال الحسن

البصري عندما بلغه كلامه: ضالة مؤمن عند فاسق، فلنأخذها! [٨] .

وأقول: إذا كان الحجاج مع فسقه بهذا الوعي فهو أفضل بكثير من عقلاء

زماننا قطعاً.

- وقيل لعيسى بن وردان: ما غاية شهوتك من الدنيا؟ فبكى ثم قال: أشتهي

أن ينفرج لي عن صدري، فأنظر إلى قلبي ماذا صنع القرآن فيه وما نكأ [٩] ؟

- وكان ابن عمر يتمنى لو أنَّ له مثل أُحُد ذهباً، فيحصي عدده ويؤدي

زكاته [١٠] .

ونسأل الله التوفيق في القول والعمل.


(١) أخرجه ابن أبي الدنيا في (كتاب المتمنين) ، ص ٢٨، وابن أبي شيبة في المصنف، ١٣/٢٨٠
(٢) أخرجه ابن أبي الدنيا في (كتاب المتمنين) ، ص ٥٧.
(٣) أخرجه ابن أبي الدنيا في (كتاب المتمنين) ، ص ٣٨، وأبو نعيم في الحلية، ١/١٠٢.
(٤) أخرجه ابن أبي الدنيا في (كتاب المتمنين) ، ص ٣٠، وأحمد في الزهد، ٢/١٤١، والبيهقي في شعب الإيمان، ١/ ٤٨٦.
(٥) أخرجه ابن أبي الدنيا، ص ٣٢، وأحمد في الزهد، ٢/ ١٤٥ (٦، ٧، ٨، ٩، ١٠) أخرجه ابن أبي الدنيا، ص ٣٥، ٣٦، ٤٠، ٤٩، ٥٢.