للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

الحذرَ الحذرَ

من أعداء الإسلام

عبد القادر حامد

ظنَّ كثير من أعداء الله أن المسلمين لن تقوم لهم قائمة بعد نشوة الانتصار

التي حققها الغربيون على المسلمين، فأزالوا تأثيرهم السياسي من الوجود، وقضوا

على آخر طلل من أطلال قوتهم - وهو الدولة العثمانية - وبينما ينظر هؤلاء

بالنظر البشري القاصر؛ ويزنون الأمر بميزان اللحظة العابرة؛ فإن المسلم له

ميزان آخر وتقويم مختلف، وهذا الميزان وذاك التقويم مستمد من عقيدته التي

يستقيها من قرآن ربه وحكمة نبيه، فهو يعتمد أن الأيام دول، وأن الحق غالب إن

حمله من يؤمن به ويثبت عليه، وأن الله ناصر دينه بعز عزيز أو بذل ذليل، وأنه

تعالى [أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً ومِمَّا

يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والْبَاطِلَ

فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ

الأَمْثَالَ] [الرعد: ١٧] .

وبعد أن ظن أعداء الإسلام أن الارض قد خلصت لهم؛ وأن لا أمل من عودة

الروح إلى جثة هذا الجبار المجندل الذي يسمونه - علي مضض - «العالم

الإسلامي» ؛ يفاجئون بأن ما حسبوه قد أصبح جثة هامدة لم يمت حقيقة،

وعلامات حياته تشاهد في كل مكان.

ومن أظهر هذه العلامات ما شهده العالم على أرض أفغانستان، حيث عجز

جبروت الشيوعية أن يخضع هذا الشعب الفقير - إلا من العزة الإيمانية - فخرج

الروس وأذنابهم يجررون أذيال الهزيمة والخيبة، بل ولم تقم لهم قائمة لا في

أفغانستان وحدها؛ بل على المسرح العالمي بأسره.

بعض المرجفين من أنصار الشيوعية في بلادنا، وإخوانهم من العلمانيين

وأعداء الإسلام، على كافة ألوانهم؛ يتمضَّغون بكلمات تهوينية، وإشاعات تخذيلية، من أن الأفغان لم ينتصروا إلا بالسلاح الغربي الذي أمدتهم به أميركا، ليخلصوا

إلى نتيجة تقول: إن الغرب وأميركا والرأسمالية هي التي انتصرت على الشيوعية، وليس الإسلام.

وهذه دعوى عملاء الغرب في بلادنا!

أو أن الإسلام كان وما زال عميلاً لأميركا، وهذه دعوى أيتام الشيوعية في

بلادنا!

ونحن نقول: إن بلاد المسلمين بمصادرها وثرواتها أصبحت مجالاً حيوياً

يستغله غير المسلمين لمصالحهم، وعندما نقول «ثروات» لا نعني البترول

والمعادن والثروات الاقتصادية وطرق المواصلات فحسب؛ بل نعني كل ما تذخره

هذه الأرض الإسلامية من أفكار وعقائد وأموال. إن الغربيين يسخِّرون كل شيء

ليجنوا من ورائه الأرباح المادية، فيصنعون الأفكار ويعيدون تعليبها كما يعلِّبون

الفواكه والخضار والأدوية، ويستثمرون العادات ويتاجرون بالمآسي والكوارث كما

يتاجرون بالمواشي والمواد الخام ولذلك فلا يستغرب المسلم الحصيف استغلال

هؤلاء لكل شيء، حتى الإسلام، كعقيدة ودين، والمسلمين، كبشر من لحم ودم

وعواطف ومشاعر.

وإذاً؛ فلا يجادل المسلم العاقل في حرص القوى الخارجية على استثمار

الأزمات والكوارث التي تحل بالمسلمين، بل لا يجادل في أن أكثر هذه الأزمات

والكوارث هي من صنع هؤلاء ومن اختراعهم، ولكنه يعترض على أن يُجَرَّدَ من

كل جهد نافع، وتغتصب منه تضحياته، وتسرق منه نتائج جهاده بهذه الأساليب

الخبيثة، إن السلاح عنصر مهم في معادلات النصر والهزيمة، ولكنه في النهاية

ليس هو الذي يحسم، بل الحاسم هو الإنسان الذي يستعمله. والذين يشيعون أن

السلاح هو كل شيء يمهدون الطريق لهمينة صانعي السلاح، ويقتلون الإرادة

الإنسانية والعزيمة الجهادية في صدور المسلمين، فيسلس قيادهم لكل طامع،

ويضيفون - إلى إيمانهم بالحق الأزلي - إيماناً باطلاً بديمومة الباطل.

وأما أن المسلمين عملاء لأميركا فهذه فِرية ساقطة، لا لسقوط أصحابها

فحسب؛ بل لما يشاهده الناس من تحامل أميركا على المسلمين، وخذلانها قضاياهم

المصيرية الحقيقية في كل مكان: في فلسطين، وفي أفغانستان نفسها، وفي

البوسنة والهرسك.. وأما ما يشاهده المتابع للأحداث مما يحدث في أفغانستان، من

خلافات ومعارك بين فئات الأفغان فهذا أيضاً من دلائل هذا الدين وعلامات صدق

محمد عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن الخلاف الذي يقع

في أمتي من السنن الكونية، ففي صحيح مسلم، عن سعد بن أبي وقاص أن رسول

الله قال: «سألت ربي ثلاثاً، أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا

يهلك أمتي بالسنة [١] فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها» [٢] .

وعلى هذا فنفي الخلاف بين المسلمين أو تجاهله مكابرة، ولكن من الظلم أيضاً

تضخيم هذا الخلاف، وجعله علامة فارقة للمسلمين، وشيئا ميؤوساً من علاجه

وتخفيف آثاره، وكلما ابتعد الناس عن تعاليم النبوة، وحكموا بينهم الأهواء

والعصبيات والشهوات، تظالموا واعتدى بعضهم على بعض، وكلما ثابوا إلى نور

النبوة، واهتدوا بهدي الإسلام الصحيح ضاقت بينهم شقة الخلافات، واتجهت

طاقاتهم إلى دحر الكفر وأعوانه، ونصر الحق وتثبيت أركانه.

هذه من جهة، ومن جهة ثانية فلو ترك الأفغان دون تدخل خارجي لضاقت

شقة الخلافات بينهم، ولكن أصحاب مصالح كبار يتجاذبونهم، فأمريكا من جهة،

وباكستان من جهة، وإيران من جهة، وروسيا من جهة، وزيد من جهة، وعبيد

من جهة! كل يريد أن يكون له حظ من هذه الفريسة التي لا يمكن أن تشبع الجميع.

إن كل هذا التشويش والشغب في وجه المسلمين لا يقصد منه إلا أن لا يفكروا

في شيء اسمه: «جهاد» وأن يرضوا بواقعهم، ولا يطمحوا إلى التغيير

والتحسين، ولماذا يُعَنُّون أنفسهم هذا العناء؛ وغيرهم يصنع لهم، ويزرع لهم،

ويجاهد لهم، ويفكر عنهم ولهم؟ ! إن رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- قال:

«بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجُعِلَ رزقي

تحت ظل رمحي، وجُعِلَ الذل والصَّغارُ على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم

فهو منهم» [٣] .

ماذا يفعل المسلمون بهذا الحديث؟ هل نسخ العمل به؟ ما الناسخ له؟ هل

يفكرون في مضمونه ويعرضون واقعهم عليه؟ وهل ينظرون إلى الأمم التي يتحدر

منها هؤلاء المرجفون وأعوانهم؛ أليس سلوكهم وأعمالهم على المسرح العالمي

تطبيقاً لهذا الحديث؟ !

هذه هي الولايات المتحدة ودول أوربا تقيم من القواعد العسكرية لحراسة

مصالحها = أي سلب الشعوب حقوقها المادية والمعنوية؛ وتحرك أساطيلها وجيوشها

عندما تشعر بأدنى تهديد لهذه المصالح المدَّعاة، ونحن - المسلمين - نُتَخَطَّفُ من

أرضنا، بل وتسحب هذه الأرض من تحت أقدام أولادنا وبناتنا ونسائنا، ويطلب

منا أن: دعوا الاعتراض، وإياكم وما يسمى بالجهاد، بل دعوا مجرد التفكير فيه!

ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: «من مات ولم يغز، ولم يحدث به نفسه

مات على شعبة من نفاق» [٤] ، ويقول أيضاً: «ستفتح عليكم أَرَضون، ويكفيكم

الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه» انظر إليه -صلى الله عليه وسلم- كيف

يحض المسلمين أن يلهوا ويلعبوا وقت السلم بأدوات الحرب، حتى لا ينسوا الجهاد

ويخلدوا إلى الدنيا، فتضعف همتهم، ويكونوا لقمة سائغة للضواري من البشر.

إن أوضاع المسلمين اليوم من الحساسية بقدر لا تسمح لعرض هذه الأفكار

على الناس، ويجد كثير من المتخوفين فيها سبباً لكتمان الحق وتضليل المسلمين،

وإننا لسنا من المتعجلين ودعاة الفوضى، الذين يتجاهلون الأخذ بالأسباب الصحيحة

لتغيير واقع الأمة، وطموحنا إشاعة الفكر الجهادي المضبوط بالعلم الصحيح والرأي

السديد بين الأفراد والجماعات وإن إشاعة هذا الفكر سيكون دواء لكثير من

الأمراض الاجتماعية المتفشية، كما ستكون خيراً للمسلمين على كل حال، في

الشدة والرخاء، وفي دنياهم وآخرتهم. وإذا كان من الصعوبة بمكان تنفيذ الجهاد

بمعناه المتبادر - وهو جهاد الكفر وأعوانه بالسلاح - لما لا يخفى من فقدان

الأسباب لذلك - وأهمها الإرادة والعزيمة - فإن أمامنا أبواباً كثيرة تمهد لذلك، وقد

لا تقل عنه أثراً مثل: الجهاد بالمال، وإعانة المسلمين الذين يلاقون العسف

والجور، وتفرض عليهم الفتنة في دينهم فرضاً، ويدفعون عن بلادهم، ويجردون

من أموالهم، وكذلك الجهاد في نشر العلم، والوعي في صفوف المسلمين،

وتجميعهم على دين الله، وإقامة المؤسسات القوية الدائمة التي تخدم ذلك. وإن

أضعف. الإيمان أن نحدث أنفسنا بالغزو، فمن يدري ماذا يخبئ لنا الغد، إن ما

حولنا من أحداث يجعل هذا من أوجب الواجبات، وتجاهله والسكون إلى الراحة

والحياة السهلة انتحار ما بعده انتحار.

إن هؤلاء الصرب الصليبيين المتوحشين كانوا يُعِدُّون لهذه الأفاعيل التي

فعلوها بالمسلمين منذ زمن بعيد، وكان في أحداث تاريخهم القريب عبرة وأي عبرة

للمسلمين، ولكن - يا للأسف - إن المسلمين يعيشون دائماً ضحية الساعة التي هم

فيها، وتفكيرهم بالماضي ليحتاطوا من أحداثه للمستقبل قليل، وإن كثيراً من أبناء

جلدتنا ممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يعتقد (ولا يظن) أن أوربا

قد ودعت الهمجية منذ قرون وتحضرت، بل هي الآن تعلَّم العالمين الحضارة! بل

إذا ضربت له مَثَلَ الصرب لوى شدقه وقال: الصرب وليس باقي الشعوب

الأوربية، وماذا يشكل الصرب بالنسبة لأوربا؟ ولو فكر قليلاً لعلم أن الذي يرى

المذابح والكوارث أمام عينيه ولا يهتز لها ويهب لمنعها - وهو قادر - أشد وحشية

وأَمْوَتُ [٥] قلباً ممن يرتكبها!

لا نريد الاسترسال في وصف حدث من أحداث الساعة تتحدث عنه وسائل

الإعلام كل يوم؛ وإنما نقول للمسلمين في كل مكان: في الأقاليم الرخية، وفي

الأقاليم المنكوبة، في المناطق التي هم فيها أغلبية، والأخرى التي هم فيها أقلية.

حيث يسوسون أمورهم ويستقلون بشؤونهم - ولو افتراضياً - وحيث يساسون من

قبل غيرهم بسياسة العصا الغليظة، ويضربون ضرب غرائب الإبل [٦] .

إياكم ونسيان أن العدو متربص بكم من كل جانب، بل كونوا على ذكر أنكم

مخترقون من داخلكم، وتُصِمُّ لأسماعَكم أصواتُ النفاق والمنافقين، ويزيدكم ضعفاً

إلى ضعفكم إرجاف العلمانيين الحاقدين. حدثوا أنفسكم بالغزو والجهاد، فلعل الله

ينظر لكم، ويرحمكم بما يرحم به عباده، حيث يختار لهم ما قد لا يمر لهم ببال.

من كان يظن أن الله سيمحو الشيوعية ويفكك دولتها دون أو يُوجَفَ عليها خيل ولا

ركاب؟ ! ولو توقع ذلك المسلمون - من كانوا تحت نير الشيوعية ومن كانوا غير

ذلك - وأعدوا له عدته؛ أما كان حالهم سيكون أفضل وأحسن؟ ! الحمد لله على كل

حال، يحفظ دينه، ويؤيده بعز عزيز أو بذل ذليل، نسأله أن يعز دينه، وينصر

عباده، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.


(١) القحط.
(٢) الحديث مروي بألفاظ متقاربة عن: معاذ، وثوبان، وخالد الخزاعي، وخباب بن الأرتّ، وابن عمر ولتخريجه راجع: منهاج السنة ٦/٢٣٠ تحقيق محمد رشاد سالم ومسند أحمد (ط الحلبي) ٥/٢٤٧، (ط المعارف) ٣/٦٠-٦١، ٨٦، صحيح مسلم ٤/٢٢١٥-٢٢١٦، صحيح الجامع الصغير ٢/ ٣٠٩-٣١٠، سنن الترمذي ٣ /٣١٩-٣٢٠ تفسير ابن كثير، سورة الأنعام، آية: ٦٥، فقد استقصى رواياته كلها تقريباً.
(٣) الحديث مخرج في: إرواء العليل في تخريج أحاديث منار السبيل رقم ١٢٦٩.
(٤) صحيح مسلم بشرح النووي ١٣/٥٦، وقال النووي: إن ترك الجهاد أحد شعب النفاق، وفي هذا الحديث أن من نوى فعل عبادة فمات قبل فعلها لا يتوجه عليه من الذم ما يتوجه على من مات ولم ينوِها.
(٥) لا يصاغ اسم التفضيل وفعل التعجب من الفعل: (مات) لأنه غير قابل للتفضيل والتفاوت، لأن الموت واحد، وإنما تختلف أسبابه إلا إذا أريد بالموت الضعف أو البلادة وقلة الحسّ مجازاً كمثلنا هنا فيجوز أن نقول: فلان أموت قلباً من فلان، وما أموت قلبه! .
(٦) مأخوذ من قول الحجاج: (ولأضربنّكم ضرب غرائب الإبل) قال ابن الأثير: هذا مثل ضربه لنفسه مع رعيته، يهددهم، وذلك أن الإبل إذا وردت الماء؛ فدخلت عليها غريبة من غيرها، ضربت وطردت، حتى تخرج عنها (لسان العرب) .