للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

السيرة النبوية مشروعاً حضارياً

أ. د. عماد الدين خليل

إلى عهد ليس ببعيد (ربما يكون منتصف القرن الماضي) كانت البحوث والدراسات والمصنفات المعنية بسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعصر الرسالة تنحو ـ في معظمها ـ منحى تقليدياً يرمي بثقله في اتجاه المعارك والغزوات والشمائل، وقد يعالج المفردات الدعوية والتشريعية والسلوكية منفصلة عن سياقها العضوي العام، لكنه لم يكد يلتفت إلى البعد الحضاري لهذا العصر الذي أقام دولة كبرى، ونسج تشريعاً خصباً، وهيأ الشروط لقيام حضارة متميزة.

ثم إن معظم الباحثين سحبوا رؤيتهم التجزيئية في تعاملهم مع العصر إلى صيغ التعامل مع «المصادر» التي استقوا منها مادتهم التاريخية، فلم يحاولوا إلا في القليل النادر، أن يكسروا الفواصل بين أنماط تلك المصادر، وأن يستدعوا كل تلك الأنماط من أجل وضع أيديهم على الصورة الأكثر مقاربة لسيرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وعصر الرسالة: القرآن الكريم وتفاسيره، الحديث النبوي الشريف، كتب الأدب ودواوين الشعر، كتب الفقه، كتب الجغرافيا والرحلات، فضلاً عن كتب التاريخ في أنماطها كافة: السيرة، التاريخ العام، التاريخ المحلي، تواريخ المدن، التراجم، الأنساب والطبقات.

وقد التزموا الخط الزمني لوقائع السيرة، فكانوا يتحدثون عن وقائع كل سنة مجتزَأة عن وحدتها الموضوعية، اسوة بما كان الأجداد يفعلونه فيما يسمى بالحوليات. وكان هذا يمارس تقطيعاً للوقائع الأساسية، واختراقاً لنسيجها بوقائع أخرى تتحرك في سياق مغاير، كأن يتم الحديث في السنة أو الحولية الواحدة عن الصراع ضد الوثنية، واليهود، والبيزنطيين، والمنافقين، جنباً إلى جنب مع المعطيات التشريعية أو الدعوية أو التعبدية أو السلوكية ... إلخ.

كما أن الرؤية النقدية كادت أن تغيب عن تلك الأعمال، فكان أصحابها يسلِّمون بالغث والسمين، ما يمكن قبوله وما لا يمكن.. وهو الأمر الذي أضاف إلى وقائع السيرة الأساسية أجساماً غريبة، وقادها إلى نوع من التضخم على حساب بنيتها الأصيلة المتفق عليها.

ولحسن الحظ بدأ النصف الثاني من القرن الفائت يشهد تطوراً ملحوظاً في دراسات السيرة، على مستوى المنهج والموضوع، وراحت هذه الدراسات تزداد ـ بمرور الوقت ـ نضجاً وإحكاماً بسبب من الوعي المتزايد بمطالب منهج البحث من جهة، والرغبة العلمية الصادقة في الرد على المحاولات الجانحة في التعامل مع السيرة، سواء جاءت من الخارج على يد المستشرقين بأجنحتهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم كافة، أو من الداخل على ايدي المغالين أو العلمانيين أو المنساقين وراء الميول والأهواء والتحزبات، أو المتأثرين بالمعطيات الاستشراقية في توجهاتها كافة.

ثم جاء تنامي النشاط العلمي، وتزايد رسائل الدراسات العليا في المعاهد والجامعات، لا لتعزز القيم المنهجية الأصيلة في التعامل مع وقائع السيرة فحسب، وإنما ـ أيضاً ـ لكي تنفذ دراسات معمقة في هذه الواقعة أو تلك، وفق معايير نقدية صارمة، وقدرة على الإمساك بالدقائق والتفاصيل والجزئيات، تعين الباحث على الإيغال في شرايين الواقعة من أجل الوصول، أو محاولة الوصول إلى بنيتها الأساسية كما تشكلت فعلاً، لا كما أراد لها الرواة والأخباريون والمؤرخون أن تكون.

وفي موازاة هذا، أخذت تظهر دراسات تخصصية في السيرة باتجاه آخر ... لا تقف عند هذه الواقعة أو تلك في نسيجها العام، وإنما تتعامل معها ككل، ولكن من منطلق منهجي محدد يسعى لأن يتابع معطيات السيرة عبر هذا التوجه أو ذاك من مجراها العام.

وهكذا ظهر كتاب «فقه السيرة» للغزالي لكي يقدم رؤية «دعوية» للسيرة، وكتاب البوطي (١) بالعنوان نفسه لكي يقدم رؤية فقهية، والأستاذ سيد قطب ومنير الغضبان لكي يقدما رؤية حركية، وباحثون آخرون قدموا رؤية تربوية أو أخلاقية أو سلوكية أو سياسية.. هذا إلى قيام الدكتور أكرم العمري وعدد من طلبة الدراسات العليا بتنفيذ منهج المحدثين في التعامل مع مرويات السيرة (٢) .

وفي موازاة هذا كله استمرت مكتبة السيرة تشهد دراسات شمولية تتناول السيرة في حلقاتها كافة، ولكن وفق منهج أكثر دقة وانضباطاً وإحكاماً، يسعى لأن يضم جناحيه على أبعاد السيرة كافة دعوية وحركية وفقهية وسلوكية وسياسية وعسكرية ... محاولاً ألا يمرر إلا المرويات الأكثر قبولاً على مستوى الرواية والدراية، أو الإسناد والمتن.

ولكن رغم هذا العطاء السخي، ظلت هنالك حلقة لم تنل حظها من البحث والدرس والاستقصاء والتحليل، بالمقارنة مع الحلقات الأخرى، تلك هي الحلقة الحضارية، أو بعبارة أكثر دقة: محاولة متابعة البعد الحضاري للسيرة، وتقديم تصور متكامل عن معطياته الأساسية.

ورغم أن العقدين الأخيرين شهداً عدداً من المحاولات في هذا الاتجاه لا تتجاوز ـ ربما ـ أصابع اليد الواحدة، فإن الحاجة لا تزال تتطلب المزيد من المحاولات، من أجل إعطاء هذا الجانب من السيرة حقه، والإلمام بجوانبه كافة.

لقد بشَّر عصر الرسالة بمشروع حضاري، وتمكن من تنفيذ العديد من حلقاته، ووضع شبكة من الشروط التأسيسية التي مكنت الأمة الناشئة من بناء حضارتها المتميزة بعد عقود معدودة من الزمن.

ولعل المدوَّنات الأولى لأخباريّي ومؤرخي السيرة (كمغازي الواقدي، وسيرة ابن إسحق، وطبقات ابن سعد، وأنساب البلاذري، وتاريخ الطبري ... إلخ) ، بإعطائها مساحة واسعة للمغازي (وأحياناً للرجال أو الشمائل) ضيقت الخناق على البعد العمراني أو الحضاري لعصر الرسالة الذي تمكن بعد كفاح مرير من إقامة دولة الإسلام، ووضع التأسيسات الأولى لحضارته المتميزة.

عشرات السنين ومئاتها، ونحن نتحدث عن هذا العصر من الداخل، وبرؤية تجزيئية تتمركز عند الغزوات، والشمائل، والمفردات الفقهية، ولقد آن الأوان لاعتماد «رؤية الطائر» إذا صح التعبير، لاستشراف الملامح الأساسية للعصر، والإنجازات الكبرى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام رضي الله عنهم.

ولا بد، من أجل التحقق برؤية كهذه، من استدعاء المؤرخ والمفسر والمحدث والفقيه والجغرافي وفيلسوف التاريخ والأديب لتوسيع نطاق الفضاء المعرفي عن العصر.. هاهنا حيث يصير النصّ القرآني والحديث النبوي الصحيح والممارسة التاريخية لعصر الرسالة التي يقدمها المؤرخ والفقيه، والملامح البيئية التي يقدمها الجغرافي، والخبرة الذاتية والموضوعية التي يقدمها الشاعر أو الأديب.. فضلاً عن الدلالات المحددة للكلمات والتعابير التي يحددها اللغوي.. المصادر الأساسية التي يكمل بعضها الآخر من أجل تحديد ملامح المشروع الحضاري الذي وعدت به ومهدت له، ووضعت شروطه التأسيسية، ونفذت بعض حلقاته، «سيرة» رسول الله -صلى الله عليه وسلم -.

إننا ونحن نتحدث عن «السيرة» وشروطها المنهجية، يجب ألا ننسى ـ لحظة واحدة ـ أن القرآن الكريم هو الوثيقة «التاريخية» الأكثر أهمية في دراسة العصر ومحاولة الإلمام بنبضه الأساسي وملامحه المتفردة، وأنه ـ أي القرآن الكريم ـ ينطوي على شبكة خصبة من المعطيات التاريخية التي تحمل مصداقيتها المطلقة، والتي تشكل ـ من ثَم ـ نقاط الارتكاز في بنية السيرة حيث يجيء المحدث والفقيه والمؤرخ واللغوي والجغرافي والأديب فيقيم بنيانه عليها.

وبنظرة سريعة إلى «أسباب النزول» في التفاسير القرآنية والمصادر الخاصة بالموضوع، يتبين للمرء الالتحام الحميم بين التنزيل والتاريخ: أن المعطى القرآني يرهص، ويصف، ويعقب، وينذر، ويعد، وهو في خطواته الخمس هذه يمارس تغطية تاريخية للعديد من وقائع السيرة المتشكلة في الزمن والمكان.. أي في التاريخ.

ولقد تحدث الأستاذ سيد قطب طويلاً عن هذه المسالة وهو يكتب مقدماته الخصبة في (الظلال) ، عبر تفسيره للسور التي قدمت مادة سخية عن العديد من الغزوات والوقائع والمعطيات التشريعية، على مدى عصر الرسالة من بدئه حتى منتهاه ... كما تحدث عن طريقة عمل القرآن الكريم في إحداث التغيير، وهو في بدء التحليل ونهايته، تغيير تاريخي ينطوي بالضرورة على بعده الحضاري أو العمراني، بالمفهوم الشامل للكلمة.

لقد كانت حياة الرسول -صلى الله عليه وسلم - الكادحة وجهده الموصول حتى آخر لحظة، شهادة حية على قدرة هذا الرجل ـ النبي ـ على الإنجاز والتغيير، بكل ما تنطوي عليه الكلمتان من بُعد حضاري، ولقد جاءت شهادة الباحث الأمريكي المعاصر «مايكل هارت» في «المائة الأوائل» تأكيداً لهذا المعنى (٣) .

لقد حاول الباحث المذكور أن يستقصي ويدرس بمعياري الإنجاز والتغيير، أعظم مائة شخصية في تاريخ البشرية ... ثم مضى لكي ينفذ خطوة تالية، باختيار أعظم رجل من بين هذه الشخصيات المائة، وبالمعيارين ذاتهما، فإذا باختياره يقع على محمد -صلى الله عليه وسلم - فيعتبره أعظم شخصية في التاريخ؛ وذلك في قدرته على تنفيذ إنجاز كبير ومتغيرات انقلابية تنطوي على الديني والدنيوي معاً.

وعندما جاءت السنة التاسعة للهجرة، ونزلت آيات (أو إعلان) براءة في صدر سورة التوبة، لتصفية الوجود الوثني في جزيرة العرب، كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قد حقق، وصحابته الكرام ـ رضي الله عنهم ـ على مستوى الفعل التاريخي، المنجزات التالية التي ينطوي كل منها على بُعد حضاري مؤكد:

أولاً: التوحيد في مواجهة الشرك والتعدد.

ثانياً: الوحدة في مواجهة التجزؤ.

ثالثاً: الدولة في مواجهة القبيلة.

رابعاً: التشريع في مواجهة العرف.

خامساً: المؤسسة في مواجهة التقاليد.

سادساً: الأمة في مواجهة العشيرة.

سابعاً: الإصلاح والإعمار في مواجهة التخريب والإفساد.

ثامناً: المنهج في مواجهة الفوضى والخرافة والظن والهوى.

تاسعاً: المعرفة في مواجهة الجهل والأمية.

عاشراً: الإنسان المسلم الجديد الملتزم بمنظومة القيم الخلقية والسلوكية المتجذرة في العقيدة، في مواجهة «الجاهليّ» المتمرس على الفوضى والتسيب وتجاوز الضوابط وكراهية النظام.

وكانت آيات القرآن الكريم وأحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم - وتعاليمه قد أرست جملة من القيم المنهجية وآليات العمل التي مهدت للمتغيرات العشرة آنفة الذكر، ودعمتها، ووضعت ـ إلى جانبها ـ شبكة من الشروط هيأت المناخ الملائم للفعل الحضاري، ومن بين تلك القيم والآليات:

١ - المعرفة هي حجر الزاوية.

٢ - النزوع إلى الأمام.

٣ - التحذير من هدر الطاقة.

٤ - مبدأ الاستخلاف.

٥ - مبدأ التسخير.

٦ - التحفيز على العمل والإبداع.

٧ - مجابهة التخريب والإفساد.

٨ - التوازن بين الأضداد والثنائيات، وتوحدها.

٩ - التناغم والوفاق مع الطبيعة والعالم والكون.

١٠ - تحرير الإنسان والجماعات والشعوب على المستويات كافة (١) .

لقد جاء الإسلام لكي يتحرك وفق دوائر ثلاث تبدأ بالإنسان وتمر بالدولة، وتنتهي إلى الحضارة التي سيقدر لها أن تنداح لكي تغطي مساحات واسعة من العالم القديم.

ولقد اجتاز الإسلام في مكة دائرة الإنسان، ثم ما لبثت العوائق السياسية والاجتماعية والدينية والاقتصادية أن صدته عن المضي في الطريق صوب الدائرة الثانية حيث الدولة؛ لأنه ـ بلا دولة ـ ستظل دائرة الإنسان ـ التي هي أشبه بنواة لا يحميها جدار ـ مفتوحة على الخارج المضاد بكل أثقاله وضغوطه وإمكاناته المادية والأدبية، ولن يكون بمقدور الإنسان الفرد أو الجماعة المؤمنة التي لا تحميها دولة، أن يمارسا مهمتهما حتى النهاية، لا سيما إذا كانت قيمهما وأخلاقيّاتهما ورؤيتهما للكون والحياة والإنسان والمصير تمثل رفضاً حاسماً للوجود الجاهلي، ولا بد إذن من إيجاد الأرضية الصالحة التي يتاح فيها للمسلم والجماعة الإسلامية أن ينسجا مشروعهما قبل أن تسحقهما الظروف الخارجية، وتنحرف بهما عن الطريق، وليست هذه الدائرة سوى الدولة التي كان على المسلمين أن يقيموها وإلا ضاعوا.

لقد تأكد للرسول -صلى الله عليه وسلم - بعد كفاح طويل استمر أكثر من عقد أن القيادة الوثنية المكية لا يمكن بحال أن تهادن الدين الجديد الذي جاء يمثل رفضاً حاسماً لكل قيم الوثنية وأهدافها وتقاليدها ومصالحها، وأنها ستظل تدفع حتى النهاية الأخطار التي يمثلها الإسلام بوجه هذه المصالح والتقاليد والأهداف.

وهكذا جاءت «الهجرة» لكي تنقل المسلمين إلى الدائرة الثانية وتمكنهم من إقامة دولتهم، والبدء بنسج مشروعهم الحضاري المتميز.

إن اليوم الثاني عشر من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة هو نهاية حركة حاسمة من أجل إقامة الدولة التي ستتولّى قيادة حركة الإسلام في العالم، لكنه في الوقت نفسه بدء حركة حاسمة أخرى من أجل تعزيز الدولة وإقامة الحضارة، تماماً كما كانت بعثة الرسول -صلى الله عليه وسلم - في البدء حركة صوب تكوين الإنسان المؤمن صانع الدول والحضارات.

لقد كان هدف الجهد النبوي في عصر الرسالة هو التأسيس لحضارة إيمانية تستمد منهجها ومفرداتها من هدي الله سبحانه، وتقوم على لقاء الوحي بالوجود، لمجابهة حضارات الكفر والضلال، وإزاحتها، والتحقق بالبديل الحضاري الملائم للإنسان ووظيفته التعبدية والعمرانية.. البديل المتوازن في مواجهة حضارات الميل والانحراف: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء: ٢٧] .


(*) مؤرخ سياسي.
(١) كتاب فقه السيرة بالرغم من عنايته الفقهية بالسيرة إلا أنه لم يسلم من أخطاء علمية في العقيدة على نسق الاتجاهات الصوفية في مسائل محددة.
(٢) كما حصل ذلك في الرسائل العلمية التي قام بها كثير من طلاب الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية.
(٣) هذا الباحث الأمريكي بالرغم من حسن ما توصل إليه من جعله المائة الأوائل في العالم على رأسهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم - كان لا يؤمن برسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، ويزعم مزاعم شتى ضد الرسالة ورسولها، حتى لا يغتر به بعض من تخدعهم العناوين.
(١) تمت معالجة هذه المبادئ بالتفصيل في كتاب (مدخل إلى التاريخ والحضارة والإسلامية) للمؤلف، الجامعة الإسلامية العالمية، ماليزيا - ٢٠٠١م، ص ٣٠٩ ـ ٣٢٨.