المسلمون والعالم
المسلمون في الفلبين وصراع الهوية
بقلم: محمد بن عبد الله
تعيش الأقلية المسلمة في الفلبين في ظل ظروف غاية في الشدة والصعوبة
نتيجة للظلم الفاحش والتمييز العنصري الديني الواقع عليها من قِبَل حكومة البلاد
الصليبية، التي تعمل ليلاً ونهاراً على طمس هويتها الإسلامية وتذويبها في المجتمع
النصراني المحيط بها، ومن جهتهم: يسعى المسلمون جاهدين لمقاومة مؤامرات
الاحتواء، والتصدي لخطط أعدائهم، والدفاع عن دينهم وهويتهم وثقافتهم المستهدفة، مما أدخلهم في صراع طويل ومرير مع تلك الحكومة، الأمر الذي ترك آثاراً
واضحة على ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ومن خلال هذا المقال: سنحاول إلقاء الضوء على خلفيات وأبعاد هذا
الصراع، واستشراف مستقبل المسلمين في الفلبين في هذه البقعة من عالمنا
الإسلامي.
الخلفية التاريخية للمسلمين في الفلبين:
من المعروف تاريخيّاً أن المسلمين في الفلبين هم أصحاب البلاد الأصليين،
حيث إن جزر الفلبين كانت قبل أربعة قرون مضت: عبارة عن مجموعة من
الولايات الإسلامية تُحْكَمُ بالإسلام الذي دخلها في نهاية القرن الثامن الهجري على يد
التجار والدعاة العرب، ولم يكن هناك في ذلك الوقت أي أثر للديانة النصرانية أو
معتنقيها، وبقيت كذلك حتى غزاها الأسبان عام ١٥٢١م، بهدف القضاء على
الإسلام الذي كان قد فرض سلطانه على تلك المنطقة من العالم، وتحويل أبنائه عن
دينهم، وامتصاص خيراتهم، وكان هذا استكمالاً للدور الذي لعبه الأسبان في تلك
العصور في محاربة الإسلام واضطهاد المسلمين (كما حدث في الأندلس) ، إلا أنهم
في الفلبين لم ينجحوا في تحقيق النتيجة نفسها التي وصلوا إليها في الأندلس؛ نظراً
للمقاومة العنيفة والشرسة التي واجهوها من مسلمي هذه البلاد، بَيْد أنهم تمكنوا من
إخضاع شمال ووسط البلاد (جزيرتي لوزون وبيسايس) لسيطرتهم، وفشلوا على
مدى (٣٧٧) سنة (هي مدة الاحتلال الأسباني للفلبين) في السيطرة على جنوب
البلاد (جزيرة مينداناو) ، وذلك لتأصل الإسلام في تلك المنطقة منذ زمن بعيد
واستماتة أهلها في الدفاع عنها، وبعد أن احتل الأسبان (جزيرة لوزون) وبها
العاصمة (مانيلا) سارعوا بإرسال حاكم نصراني لها، وتوافدت البعثات التنصيرية
ورجال الدين النصراني على الفلبين لنشر ديانتهم بها، فدخلت في النصرانية أعداد
كبيرة خاصة من الوثنيين الذين كانوا يسكنون هذه المناطق خوفاً من بطش الأسبان
الذين أعملوا القتل والتعذيب في كل من خالف ديانتهم أو لم يستجب لدعوتهم.
بعد رحيل الأسبان احتل الأمريكان جزر الفلبين عام ١٨٩٩ م فساروا على
نهج أسلافهم في صبغ البلاد بالصبغة النصرانية ومواصلة قتال المسلمين
واضطهادهم للحيولة بينهم وبين دينهم، إلا أنهم واجهوا الفشل نفسه الذي واجهه
الأسبان من قبلهم في القضاء على الإسلام، الذي كان قد آوى إلى جزيرة (مينداناو)
وتترس بها، ومضت حقبة الاحتلال الأمريكي، وقررت أمريكا الانسحاب من
جزر الفلبين ومنح الاستقلال لحكومة وطنية من النصارى الكاثوليك، وكان ذلك في
عام ١٩٤٦م، فقرر قادة وزعماء المسلمين عدم الانضمام لتلك الدولة الوليدة،
وأعلنوا أن بلادهم ليست جزءاً من دولة الفلبين الكاثوليكية وطالبوا باستقلال ما تبقى
من بلادهم، إلا أنه غُض الطرف عن رغبتهم، ولم يُسمع لصوتهم، وساعدت
أمريكا حكومة الاستقلال على ضم بلاد المسلمين إليها عنوة، واعترفت بحدود
الفلبين متضمنة مناطق المسلمين الجنوبية، ووجد المسلمون أنفسهم بين عشية
وضحاها جزءاً مما يعرف اليوم بجمهورية الفلبين.
واقع المسلمين الحالي:
الواقع أن جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم الفلبين منذ الاستقلال وحتى
الحكومة الحالية لم تتبدل نظرتها للمسلمين، فهي النظرة الاستعمارية القديمة نفسها،
ولا عجب في ذلك؛ فتلك الحكومات ما هي إلا صنيعة الاستعمار ووريثته.
وعلى الرغم من أنه يطيب للحكومة الفلبينية أن تردد دوماً أن بلاد المسلمين
جزء لا يتجزأ من دولتها، إلا أنها لا تتعامل بالنظرة نفسها مع سكانها المسلمين
الذين تعتبرهم مواطنين من الدرجة الثالثة، ليس لهم أي حقوق وعليهم كل
الواجبات، ولا تهتم بمناطقهم وأحيائهم السكنية ومدها بأسباب الحياة من مرافق
وخدمات ومشروعات تنموية كالتي توفرها للمناطق النصرانية، وعلى الرغم من
أن المسلمين في الفلبين يشكلون نسبة (١٠%) من مجموع السكان إلا أن الزائر
للفلبين لا يكاد يشعر بأي تواجد للمسلمين في هذه الدولة، فهم محرومون بشكل عام
من تولي أية مناصب عليا في الحكومة أو الجيش أو الشرطة، وقد أوصدت في
وجوههم أبواب التوظف سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص الذي يُسيطر
عليه النصارى، وحتى التجارة لا يتمكنون من ممارستها بحرية تامة لتضييق
الحكومة الخناق عليهم في هذا المجال، كل ذلك ضمن خطة مدروسة لتجويع
المسلمين وإضعافهم حتى لا تقوم لهم قائمة أو تقوى لهم شوكة فيفرضوا أنفسهم على
المجتمع النصراني المتعصب المحيط بهم، كما أنهم محرومون تماماً من حرية
التعبير، وليست لهم وسائل إعلام تتحدث باسمهم وتبحث قضاياهم، هذا بعد أن
عمدت الدولة إلى تحريف وتزوير تاريخ البلاد الحقيقي، وأهالت التراب على
بطولات القادة المسلمين التاريخيين؛ في محاولة لغمط أي حق يمكن أن يطالب به
المسلمون في بلادهم المغتصبة، كما سخّرت الحكومة وسائل إعلامها لتشويه
الإسلام والنيل من المسلمين بشكل قد لا يجده المرء في كثير من الدول الأخرى التي
تعيش بها أقليات مسلمة، ولم تتوقف المؤامرة عند هذا الحد، بل اعتمدت الحكومة
النصرانية خطة لتذويب المسلمين ومحوهم من الوجود.
وقد تركزت هذه الخطة على محورين رئيسين، وهما:
١- توطين النصارى في بلاد المسلمين: ويعتمد هذا المحور على تهجير
السكان النصارى من شمال ووسط البلاد وحشدهم في جزيرة (مينداناو) بين
المسلمين، بعد الاستيلاء على أراضيهم وتسكين أولئك المستوطنين فيها، وتهدف
الحكومة من وراء اتباع هذه السياسة إلى تحقيق الأهداف التالية:
أ- رفع الكثافة السكانية للنصارى في المناطق التي يُشكل المسلمون فيها
أغلبية، حتى يصبحوا مع الوقت أقلية لا قيمة لها، وتزول معالمهم وآثارهم من
هذه المناطق.
ب- اختراق المجتمع المسلم ونشر الفساد فيه، حيث إن السواد الأعظم من
أولئك المستوطنين من العناصر الإرهابية ومرتكبي الجرائم التي تشكل خطراً على
المجتمع النصراني نفسه، وبالفعل فإن هؤلاء المستوطنين لا يتوانون عن إشاعة
الإرهاب في مناطق المسلمين وإعمال القتل والاغتصاب والسرقات وتحريق بيوت
المسلمين وقراهم، بهدف إجبارهم على مغادرتها وهجر أراضيهم ومزارعهم -التي
ورثوها عن أجدادهم - وتركها لأولئك المعتدين، وقامت الدولة بتسليح وحماية
هؤلاء المستوطنين بجيشها وميلشياتها، وتقدم لهم جميع التسهيلات اللازمة، وتقوم
بتسجيل الأراضي التي استولوا عليها بأسمائهم.
ج- قطع الترابط والتلاحم بين قرى المسلمين وتجمعاتهم؛ حيث تقوم الحكومة
بتوطين هؤلاء في مستوطنات تختار أماكنها بدقة بحيث تقع في نقاط اتصال هذه
التجمعات بعضها ببعض.
٢- العمل على تنصير المسلمين: تلك السياسة التي لم تتخل عنها يوماً أيّ
من الحكومات التي حكمت الفلبين امتداداً لخطة المستعمر القديم، ولتوضيح أبعاد
هذه السياسة يجدر هنا أن نورد ما صرح به القس الفلبيني السابق الذي اعتنق
الإسلام وكان يعمل في مجال التنصير في (مينداناو) و (نجيب رسول) حيث قال
حول هذه القضية: إن الخطوة التي وضعتها الحكومة الفلبينية، ويشرف عليها
الفاتيكان، وتدعمها كل من الكنيسة الإنجليزية والأمريكية، تقضي بتحويل
(مينداناو) إلى منطقة نصرانية أو ذات أغلبية نصرانية بحلول عام ٢٠٠٠م، لذا:
فإن البعثات التنصيرية تعمل في سباق مع الزمن، ووضعت تلك الجهات المذكورة
بين يديها أموالاً طائلة لتحقيق أهدافها في الزمن المحدد له.. [*] وهذا ما يُفسر
النشاط المحموم لتلك البعثات، والحضور البارز للعنصريين والقساوسة والراهبات
الموفدين من الدول الكاثوليكية المختلفة في مناطق المسلمين في (مينداناو) ،
والانتشار الواسع لمشروعاتهم المتعددة في تلك المناطق حتى القرى النائية منها من: مدارس، ودور أيتام، وخدمات طبية.. وغير ذلك، في محاولة للتأثير على
المسلمين وجذبهم بهذه الطرق، هذا بالإضافة للعديد من البرامج الموجهة بالراديو،
التي تغطي مناطق المسلمين الجنوبية بشكل كامل، وتوزيع النشرات والمطبوعات
المترجمة باللغة المحلية، ولقد أثبت الواقع أن المؤامرات التي تحاك ضد مسلمي
الفلبين، وتستهدف دينهم وهويتهم، لم تنجح في زعزعة الإسلام في نفوسهم بعكس
ما حدث في دول أخرى بل يمكن القول: بأنها قد زادتهم حرصاً على دينهم وتمسكاً
بثقافتهم الإسلامية، ويلاحظ المراقبون أن وجه المجتمع المسلم في الفلبين قد تغير
إلى الأفضل، بشكل كبير عن ذي قبل، وبدت آثار الصحوة الإسلامية التي عمّت
العالم الإسلامي وامتدت لتطول المجتمع المسلم الفلبيني، وقد لعب العلماء والدعاة
دوراً كبيراً في نشر الوعي الإسلامي بين المسلمين، وهو الأمر الذي أزعج
الحكومة بشكل كبير، فبدأت بوصف أولئك الدعاة بالتطرف والإرهاب وتبني أفكار
الجماعات الإسلامية المنتشرة في منطقة (الشرق الأوسط) ! ! .
هذا، وكلما يأست الحكومة الفلبينية من تحقيق أهدافها، وعجزت عن تطبيق
برامجها، واصطدمت بصلابة المسلمين في الذود عن دينهم: لجأت إلى أسلوب
الترهيب، وشن الحروب الغاشمة عليهم، وإعمال القتل والتشريد والتدمير بين
صفوفهم، وعملت على إيقاع الفتن بينهم لإشغالهم بأنفسهم والغفلة عن مواجهة
تآمرها.
وقد شهدت الفترة الأخيرة تصاعداً ملحوظاً على صعيد المواجهات بين
المسلمين وقوات الحكومة العسكرية التي فشلت في حسم المواجهة لصالحها والتمكن
من السيطرة الكاملة على المناطق التي ينتشر فيها المجاهدون المسلمون على الرغم
من الفرق الشاسع بين إمكانات واستعدادات الطرفين وهو الأمر الذي أثر على
هيبتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، فلجأت إلى أسلوب المكر والخداع،
وأعلنت عن استعدادها للدخول في مفاوضات مع (الجبهة القومية العلمانية) ،
لتمنحها بموجبها حكماً إداريّاً في المناطق التي فشلت في إحكام السيطرة عليها، التي
ينتشر بها المجاهدون المسلمون، بهدف توكيل الجبهة العلمانية في المواجهة نيابة
عنها، ولتوفر على نفسها الدماء والأموال التي تستنزف خلال المواجهات التي تقع
بين قواتها والمجاهدين.
وبالفعل عقد الطرفان بعض المباحثات، إلا أنهما لم يتوصلا إلى اتفاق بعد،
ولم تتضح النتيجة النهائية لهذه المفاوضات التي ترفضها أغلبية المسلمين ولا
يعلقون عليها أي آمال.
استشراف مستقبلي:
إن قضية مسلمي الفلبين تمر هذه الأيام بمرحلة من أدق مراحلها، حيث تمثل
المرحلة الحالية مفترق الطرق بالنسبة لخط القضية، لذا: يمكن اعتبار أن ما
ستسفر عنه الأيام القادمة سيساهم بشكل كبير في تحديد معالم مستقبل هذه القضية.
ومن خلال المعطيات المتوفرة إلى الآن، يمكننا استشراف التالي:
أولاً: اتفاقية (الحكم الإداري) الذي قد يمنح للجبهة العلمانية لن تحل مشاكل
المسلمين، ولن تحقق آمالهم في نيل حريتهم وتحكيم دينهم والعيش في أمان، بل
الظاهر أن الدولة تستخدم العلمانيين في محاولة لتصفية المجاهدين أو رصد أنشطتهم
وتحركاتهم على الأقل وهو ما فشلت الحكومة في تحقيقه إلى الآن بكامل أجهزتها،
وربما أدت هذه (الصفقة) إلى انقسام في الصف الإسلامي الذي قد ينخدع جانب منه
بالوعود الزائفة.
ثانياً: ستتميز الصفوف وتتبلور المواقف في المرحلة القادمة بشكل أكثر
وضوحاً، وستلتف جموع الشعب المسلم حول الاتجاه الإسلامي إن شاء الله، مما
سيمكن اعتباره استفتاءً حقيقيّاً صادقاً يعبر عن رغبة الشعب وطموحاته، وهو الأمر
الذي ظهرت بوادره من الآن.
ثالثاً: إن لم تنجح التنظيمات الإسلامية المجاهدة في توحيد صفوفها والعمل
في إطار خطة واحدة مشتركة: فلن تتمكن من تحقيق أهدافها التي تسعى إليها كاملة، ولن توفق في سد الثغرات التي ينفذ منها أعداؤها إلى الصف الإسلامي..
رابعاً: ضرورة توعية الشعب المسلم بحجم وطبيعة المؤامرات التي تستهدفه، وتحذيره من الانخداع بالدعاوى الزائفة التي يروج لها أعداؤه على اختلاف
مشاربهم، وهذه المهمة تقع على عاتق العلماء والدعاة الذين يجب عليهم مواصلة
أداء دورهم بهمة عالية وإخلاص ووعي، لأن المرحلة المقبلة تتطلب عملاً دؤوباً
ومدروساً ومنظماً حتى لا يفلت زمام التوجيه من بين أيديهم ويستلمه العلمانيون
والمنحرفون.
وإن المؤشرات والله أعلم لتوحي بأن مسلمي الفلبين الذين دافعوا جيلاً بعد
جيل عن الإسلام في هذه البلاد على مدى سبعة قرون مضت، وقدموا في سبيل
ذلك التضحيات الجسام: لقادرون بعون الله على مواصلة مسيرتهم في الذود عن
حياض الإسلام والدفاع عن هويتهم، إلى أن يمكن الله (تعالى) لهم، ويتحقق حلمهم
في الاستقلال ببلادهم، وما ذلك على الله بعزيز.
(*) جاء هذا التصريح في لقاء صحفي أجراه معه كاتب المقال ونشر بمجلة الجهاد، العدد رقم (١١٣) بتاريخ سبتمبر ١٩٩٤م.