للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مصر «الجائزة»]

تحرش أمريكي.. تحرك علماني.. وتحرق إسلامي

د. عبد العزيز كامل

منذ أن مَنَّ الله ـ تعالى ـ على مصر وأهلها بالإسلام، بدخول الفاتحين المسلمين إليها في عهد الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في العام الثامن عشر للهجرة، وهي تحظى بدور بارز في صنع التاريخ الإسلامي، وبخاصة إذا كانت الشام عضداً لها، أو كانت هي عضداً للشام، ولا عجب في ذلك؛ فقد سرت كلمات الوحي في كتاب الله وعلى لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - بالثناء على تلك البلاد وساكنيها الذين اختار الله منهم ـ على مر العصور ـ أتباعاً وأجناداً للعشرات من الأنبياء، وعلى رأسهم الأربعة العظام من أولي العزم من الرسل إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد ـ عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه. فالشام جاء الثناء عليها في مواضع عديدة من كتاب الله بوصف: الأرض المباركة والأرض المقدسة. ومصر ذُكرت باسمها الصريح في خمس مواضع من القرآن، وذكرت بالكناية عنها في ما يقرب من ثلاثين موضعاً (١) ، وخصت منها أرض سيناء بوصف القداسة مرتين (٢) ، فقد شهدت الشطر الأهم والأعظم من حياة موسى ـ عليه السلام ـ حيث تنزلت عليه فيها التوراة، وتكاثرت معجزاته حتى جاءت وفاته فدفن فيها ـ عليه السلام ـ على قدر رمية حجر من الأرض المقدسة بالشام. وكانت سيناء أيضاً معبراً لعيسى ـ عليه السلام ـ، إلى داخل مصر؛ حيث عاش فيها مدة قبل عودته إلى الشام. ووطئ تراب مصر من الأنبياء غير موسى وعيسى ـ عليهما السلام ـ إبراهيم ويعقوب والأسباط ويوسف وهارون ـ عليهم صلوات الله وسلامه. وسوف تكون سيناء ملاذاً في آخر الزمان للمؤمنين مع عيسى ـ عليه السلام ـ عندما ينزل؛ حيث يوحي الله تعالى إليه أن يحرز عباده في طور سيناء للنجاة من شرور القوم المفسدين (يأجوج ومأجوج) .

ومنذ بداية التاريخ الإسلامي، وأعداء هذه الأمة يدركون أن تقويض قوة المسلمين في مصر والشام، ينعكس ضعفاً على بقية الجسد الإسلامي، وقد تجلى ذلك في حملات الصليبيين التي تناوبت على بلاد الشام ومصر، ثم حملات التتار التي اجتاحت بلاد الشام، ثم انكسرت على صخرة التلاحم بين جند الشام ومصر.

وفي العصور المتأخرة، لم تُغفِل مشاريع السيطرة على الشرق الإسلامي خطر مصر والشام على مستقبل التطلعات الإمبراطورية، فتناوب نصارى فرنسا (الكاثوليك) ونصارى إنجلترا (البروتستانت) التآمر على تلك البلاد، لأجل الانطلاق منها إلى مشاريع استقطاب إمبراطوري عالمي، فرنسي أو بريطاني، ليتحول هذا التآمر بعد أفول نجم الإمبراطوريتين؛ إلى تنافس بين القطبين الوريثين (روسيا وأمريكا) على المنطقة نفسها، بغية الانطلاق منها إلى مشاريع إمبراطورية جديدة، حتى انتهى الأمر إلى مشروع إمبراطوري أمريكي واحد لا يجد من ينافسه أو يوقفه.

والأمر يحتاج ـ قبل الوصول إلى المرحلة الأمريكية الراهنة ـ إلى تعريج سريع على المرحلتين السابقتين، لندرك أن استهداف مصر والشام كان جزءاً لا يتجزأ من أي حسابات إمبراطورية في الشرق الإسلامي؛ هكذا كان الشأن مع المشروع الفرنسي، وهكذا كان مع المشروع الإمبراطوري الإنجليزي، ثم مؤخراً مع المشروع الإمبراطوري الأمريكي الجديد. (إمبراطورية القرن الحادي والعشرين) كما يسمونها.

ولكني سأركز الحديث على الجانب المتعلق بمصر من هذا الاستهداف، نظراً لتعلق ذلك بموضوع هذا المقال، حول التطورات الراهنة في مصر.

- مصر في المشروع الإمبراطوري الفرنسي:

بعدما استرد الأيوبيون بقيادة صلاح الدين الأيوبي ممالك المسلمين من براثن الصليبيين إبَّان حملاتهم على الشام، عاد هؤلاء الصليبيون لإعادة الكرَّة مرة أخرى، فجهزوا حملتين صليبيتين لغزو مصر، التي أصبحت قاعدة للحكم الأيوبي المظفر، وقد تولت فرنسا قيادة هاتين الحملتين، حيث عُرفت إحداهما بالحملة الصليبية الخامسة بقيادة (جان دي برس) وعُرفت الأخرى بالحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع. لكن الحملتين هزمتا هزيمة مرة، المرة الأولى عام (٦١٨هـ ـ ١٢٢١م) والثانية عام (٦٤٨هـ ـ ١٢٥٠م) . وتطهرت مصر من أدرانهما وشرهما.

غير أن الفرنسيين (الفرنجة) ظلت أعينهم مسمَّرة صوب مصر للعودة إليها في حملة صليبية جديدة، ضمن مشروع إمبراطوري خاص بفرنسا، ظل يراود قادتها، ولا يردهم عنه إلا شدة بأس العثمانيين الأتراك، الذين قيضم الله لحماية العالم الإسلامي من الاجتياح الصليبي أزمنة متطاولة.

وبضعف هؤلاء العثمانيين، قوي رجاء الفرنسيين في البروز على المسرح العالمي كقوة دولية ضاربة، فبدؤوا يجهزون لشن حملة على العالم الإسلامي، تنطلق من مصر، لتعبر إلى الشام، وتنازل التطلع البريطاني الطامح إلى الغرض نفسه، وصدر القرار من فرنسا بإسناد قيادة ما سُمي بـ (جيش الشرق) إلى الجنرال (نابليون بونابرت) في ١٢ /٤/ ١٧٩٨م، في حملة ترمي إلى اجتياح مصر، وسلبها من يد المماليك وخلع الغطاء العثماني عنها، وأيضاً بقصد محو هويتها الإسلامية على المدى البعيد وفرنستها (مثلما حاولوا في الجزائر) ، ولهذا لم تكن الحملة عسكرية فقط، بل كانت حملة تغيير شامل ركز على الجانب الثقافي والحضاري، وهو ما يشبه الآن محاولات التغيير الأمريكي في بلدان العالم الإسلامي باسم (الإصلاح) .

لكن الأعداء اللدودين للفرنسيين ـ وهم الإنجليز ـ تيقظوا للأمر، وبدؤوا التحرك لاستباق الفرنسيين إلى مصر، واستطاع (نيلسون) قائد الأسطول الإنجليزي الوصول إلى ميناء الإسكندرية قبل وصول الفرنسيين بثلاثة أيام، وحاول من خلال وفد أرسله أن يتفاهم مع حاكم الإسكندرية (محمد كُريِّم) للتعاون في مواجهة الفرنسيين القادمين لاحتلال مصر، ولكن الرجل لم يصدق الإنجليز ولم يحسن الظن بهم، ورفض التعاون معهم، وتمكن الفرنسيون في النهاية من غزو مصر، ولم يكن ميزان القوى متكافئاً مع المماليك حكامها باسم العثمانيين، فسقطت في حبائل الاحتلال الفرنسي، لينفذ الفرنسيون عملياً ما اقتنعوا به نظرياً من ضرورة إخضاع هذه البلاد أولاً، للانتقال منها إلى ما جاورها، وبخاصة بلاد الشام. وهو ما كان؛ لولا أن الله ـ تعالى ـ تدارك المصريين والشوام، بأن سلط على الفرنسيين ـ إلى جانب بأس المجاهدين ـ بؤس الطاعون، الذي انتشر في جند الطاغوت الفرنسي (نابليون) ، إضافة إلى تقاطع مصالح البريطانيين مع العثمانيين في ضرورة خلع الأنياب الفرنسية من الكيان الإسلامي في مصر والشام.

- مصر في المشروع الإمبراطوري البريطاني:

باستمرار الإمبراطورية العثمانية في الضعف والتلاشي، كانت بريطانيا تعد نفسها للتمدد محلها بوراثه أملاكها، وسبْق فرنسا إلى مواطن نفوذ الأتراك، وبخاصة في الكتلة العربية الجامعة لجزيرة العرب وما حولها، إلا أن نجاح الفرنسيين الفعلي في السبق إلى مصر والشام، أعطى الإنجليز دوافع أخرى إضافية، حولت الاهتمام البريطاني بالاستيلاء على مصر والشام إلى مسألة حياة أو موت، وهو ما تُرجم إلى تغير في سياسة بريطانيا برمتها، حيث بدأت تركز وجودها في أطراف الجزيرة العربية من عدن إلى الكويت، وأمعنت في فرض وجود استراتيجي واقتصادي مناوئ لفرنسا حتى لا تتمدد شرقاً إلى حيث التاج الإمبراطوري البريطاني في الهند، ولم تكتف بذلك؛ بل عملت على مطاردة الوجود الفرنسي في مصر بالتعاون (التكتيكي) مع الأتراك العثمانيين، إلى أن تم الهدف الاستراتيجي بجلاء الفرنسيين عن مصر عام ١٨٠١م، بعد احتلال دام ثلاث سنوات، وقد ظل الإنجليز يتحرشون بها لاحتلالها بعد الفرنسيين، وهذا ما حدث بعد خروج فرنسا بست سنوات؛ إذ سيرت إنجلترا حملة عسكرية بقيادة الجنرال (فريزر) إلى مصر، إلا أنها انتهت إلى هزيمة منكرة أوقعتها المقاومة المصرية بالإنجليز في ذلك الوقت في مدينة رشيد، ولم يستطع الإنجليز أن ينقذوا قواتهم بمدد أكبر، نظراً لتزايد الخطر الفرنسي داخل أوروبا نفسها، حيث كانت جيوش نابليون تسقط المدائن الواحدة تلو الأخرى، وهو ما كان يحتاج إلى احتفاظ بريطانيا بأكبر عدد ممكن من قواتها في أوروبا للتصدي لهذا الخطر.

لكن بريطانيا لم تتخل عن فكرة احتلال مصر ضمن برنامجها الإمبراطوري، وبخاصة عندما ظهرت طموحات (محمد علي) ، في إنشاء قوة عربية في الشرق الأوسط مركزها مصر، فبدأ الإنجليز في التعاون مع العثمانيين الذين تمرد عليهم محمد علي، لتحطيم مشروعه الطموح، وبالفعل نجح الإنجليز في تقليص أحلامه وإخراجه من الشام، وكفه عن الجزيرة العربية، ليظل محصوراً في مصر تحت رقابة إنجليزية صارمة، عليه وعلى أبنائه من بعده، حتى صاروا ألعوبة في يد الإنجليز، انتهى المطاف بها إلى استدعاء إنجلترا لاحتلال مصر بدعوى حفظ الأمن وإطفاء الثورة التي قام بها أحمد عرابي سنة ١٨٨٢م، وعملت إنجلترا بعد احتلال مصر على تأمين مصالحها تحت قوة السلاح، واستطاعت أن ترتب أوضاعها في الشام، فاحتلت الأردن وفلسطين، لتخرج بعد ذلك بعسكرها من كل تلك الأراضي، وتحتفظ بفلسطين فقط لتسلمها لعسكر اليهود، ليقوموا ـ نيابة عنها ـ بكل ما تريد في حقبة ما بعد الانسحاب.

وقد كان الإنجليز مدركين منذ البداية أهمية إضعاف الدور العربي والإسلامي في كلٍ من مصر والشام، لإنجاح واستمرار مشروعهم الإمبراطوري في الشرق الإسلامي؛ فقد كتب ذئب الإمبريالية الإنجليزية الحديثة، ورئيس وزراء بريطانيا في تلك الحقبة (اللورد بالمرستون) رسالة إلى السفير الإنجليزي في إيطاليا، بتاريخ ١٢/٣/١٨٣٣م، يقول فيها: «إن هدف محمد علي الحقيقي كان إقامة مملكة عربية تضم جميع البلاد التي تتكلم العربية، وهذا كان سيؤدي إلى تفكيك قوة تركيا ليحل هو محلها، ونحن لا نرى سبباً يبرر إحلال مُلك عربي محل مُلك تركي، يقطع الطريق أمام امبراطورية إنجلترا في الشرق» (١) .

لكن الله الذي كف بأس الإمبراطورية الفرنسية عن المسلمين، فك عُرى الإمبراطورية الإنجليزية بعدها، وها نحن الآن أمام مشروع إمبراطوري صليبي جديد، يروم إحياء روما القيصرية، في صياغة صهيونية تجمع بين النصرانية واليهودية. وتتكرر القصة باستهداف مصر والشام معاً لتكون الهيمنة عليهما إحدى الركائز المفصلية في مشروع الإمبراطورية الأمريكية الجديد.

ولكني أيضاً سأركز على ما يتعلق بالملف المصري في هذا الصدد لطبيعة موضوع المقال.

- مصر في المشروع الإمبراطوري الأمريكي:

بعدما ورثت الولايات المتحدة الأمريكية من أوروبا توجهاتها الإمبراطورية الاستعمارية، بعد الحرب العالمية الثانية، ظلت أمريكا قلقة من أوروبا الغربية (العجوز) ، ومتخوفة من أن تسلك هذه سبلاً خاصة ومنفردة لهيمنة جديدة، ترتكز على الثورة الصناعية والمالية لكل من ألمانيا وفرنسا، ولهذا حاولت جاهدة أن تستعمل الثورات والتغييرات في أوروبا الشرقية (الجديدة) كحصان طروادة لخدمة مصالحها في أوروبا القديمة، ولتجهض جهودها في البروز كقوة مستقلة في العالم، وهكذا سارت أمريكا في تحدي روسيا أيضاً، حتى سقط الاتحاد السوفييتي وتفكك ليبدأ الأمريكيون بعد ذلك في رسم مسار استراتيجي جديد يقوم على شن حروب وقائية على هواهم، لإزالة أي تهديد محتمل أو حتى مختلق يمكن أن يعرقل انتظام سير التمدد الأمريكي في العالم. والحقيقة أن هذه التهديدات المحتملة أو المختلقة، تركزت في النهاية على العالم الإسلامي، بعد أن سارعت أمريكا (البروتستانتية) إلى لملمة الخلاف مع أوروبا الغربية (الكاثوليكية) وتسوية الأوضاع مع روسيا وأوروبا الشرقية (الأرثوذكسية) وتسكين الأحوال حتى من الصين (الشيوعية) . وأصبحت للدول العربية والإسلامية وحدها أوضاعاً خاصة في نظر الأمريكيين؛ إذ أضحت في نظرهم تمثل أخطر المعوقات للمشروع الإمبراطوري الأمريكي، مع كونها تمثل في الوقت نفسه أهم المنطلقات لهذا المشروع.

وقد أوجدت أمريكا معايير جديدة للتدخل في شؤون العالم الإسلامي لإحداث خلخلة في أركانه، تمنع من جهة قدرته على مقاومة الهيمنة، وتسهل من جهة أخرى اختراقه باللين تارة وبالعنف تارة، فالتدخلات العسكرية والعودة الفجة لأساليب الاستعمار القديم، أعادتها أمريكا جذعة في أفغانستان والعراق، والتدخل بذرائع إنسانية؛ ابتكرته ونفذته في الصومال والبوسنة وكوسوفا، أما التدخل بالضغوط السياسية والدبلوماسية؛ فهو المتبع الآن مع كل من إيران ولبنان وسوريا والسودان ... وأخيراً.. مصر، مع عدم استبعاد الأساليب والمعايير الأخرى معها من عسكرية أو إنسانية، والهدف من كل ذلك في مصر وغيرها، إحداث نظام إقليمي جديد يضمن استمرار سير مشروع الهيمنة الأمريكية العالمية إلى جانب مشروع الهيمنة الإقليمية الإسرائيلية.

والأمر لا يجري ـ بحسب ظن بعض الناس ـ كمجرد تطورات وتداعيات (بريئة) للأحداث، وإنما يسير وفق برامج وخطط، رسمت معالمها الاستراتيجية خلال العقد المنصرم؛ فمنذ أكثر من عشر سنوات، وُضعت الخطوط العريضة لمشروعي الهيمنة الأمريكي والإسرائيلي، في مؤسسة (هريتاج) التي تعد أهم مراكز البحوث الفعالة والمتخصصة في الفكر والتخطيط السياسي في الولايات المتحدة، وهي ذات توجه يميني متشدد، ومعروفة بارتباطها الوثيق بتيار المحافظين اليهود الجدد في الحزب الجمهوري الحاكم في أمريكا؛ حيث وضعت استراتيجية للتغيير في الشرق الأوسط، بانتظار ما يسمى في علم الاستراتيجية بـ (لحظة الاقتناص) والتي تعني الاستمرار في تهيئة الظروف للخطط ـ ولو لعقود ـ حتى يجيء وقت تنفيذها. ومعروف أن هناك (لحظات اقتناص) كثيرة، جرى استغلال بعضها وتجري تهيئة الظروف لبعضها الآخر، فكما كانت لأفغانستان لحظتها وللعراق لحظتها؛ فالظروف تتهيأ الآن للحظة الاقتناص في كل من سوريا ولبنان، والصومال والسودان، ومصر وغيرها.

لكن لحظات القنص هذه لا يدري النسر الأمريكي، أنها تقرب لحظة قنصه هو، والتي ستأتي لا محالة ـ بإذن الله ـ حيث تهيئ أمريكا بنفسها الظروف من أجل تقريبها.

إن التهيئة الأمريكية الجاري تحقيقها في البلدان المستهدفة، يدور معظمها حول شعار (الإصلاح) وإحلال «القيم» الديمقراطية، إما بإغراء العملاء للتحرك تحت هذا الشعار، وإما بالتدخل المباشر تحت زعم صعوبة التغيير السلمي.

وفي الحالة المصرية، وبالرغم من رغبة الجميع في التغيير واسترجاع الحقوق، فإن الأمريكيين يلعبون على هذا الوتر، بعد فترة طويلة وثقيلة من (التهيئة) لما يجري الآن، كانوا يتعمدون خلالها ترك الأمور على ما هي، حتى سنحت الفرصة، وأطلق جورج بوش دعوته إلي التحول الديمقراطي في مصر.

فقد كرر جورج بوش أكثر من مرة تمنياته، أو بالأحرى تعليماته، بأن تتولى مصر قيادة المنطقة إلى «قيم» الديمقراطية الأمريكية كما قادتها إلى «روح» السلام الأمريكي؛ فقد قال في خطاب حالة الاتحاد: في ٣/٢/٢٠٠٥م «الأمة المصرية، بادرت بنهج السلام، وكانت منارة على طريقه في الشرق الأوسط، وهي تستطيع الآن أن تأخذ زمام المبادرة نحو الديمقراطية، تنهج نهجها وتدل عليها وتكون رائدتها في الشرق الأوسط» وأضاف قائلاً: «إن الولايات المتحدة، ستقف مع حلفاء الحرية لدعم التحركات نحو الديمقراطية في الشرق الأوسط، لإنهاء الاستبداد في عالمنا» . فهو إذن يخاطب الشعب المصري مباشرة، أو «حلفاء الحرية» فيه، بأن يأخذوا المبادرة إلى التغيير نحو الديمقراطية، لا كآليات تتعلق بالانتخابات والتعددية ونحو ذلك فحسب؛ ولكن كقيم ومنهج يؤصل للعلمانية ويوصل لإقصاء الدين بشكل نهائي، وكأن أمريكا لم تقنع بمظاهر العلمنة التي تضرب بأطنابها في مصر منذ الاحتلال الفرنسي ثم الإنجليزي، حتى تسعى الآن إلى إعادة صياغة المجتمع المصري في قالب أكثر علمانية وأكثر جفافاً في القيم وجفاءً للدين، لتقود بذلك بقية دول المنطقة إلى تبعية أمريكية كما سبق أن قادتها إلى الشعارات الثورية والقومية باسم النضال الاشتراكي العربي، ثم قادتها إلى السلام مع العدو الغاصب المحارب تحت شعارات المحبة وحسن الجوار بين الشعوب.

ولكن «تأهيل» مصر للقيام بهذا الدور يحتاج إلى ترويضها حكومة وشعباً، لتتقبل أوهام بوش وتخضع لأحلامه الإمبراطورية، بالترغيب حيناً والترهيب أحياناً ... بوعود الديمقراطية مرة، وبالتلويح بالحرب مرات، في إيقاع تتناغم فيه حماقات قطيع شارون، مع تحرشات عصابة بوش من الإنجيليين والمحافظين اليهود الجدد.

وقد تكاثرت في الآونة الأخيرة رسائل التحرش بمصر من الطرف الصهيوني ـ أمريكياً كان أو إسرائيلياً:

فقد أوردت صحيفة (يو إس إيه توداي) الأمريكية في عددها الصادر في (٤/١/٢٠٠٥م) معلومات تحذيرية من أن مصر تمتلك برنامجاً نووياً سرياً، وأنها أجرت تجارب قد تؤدي إلى إنتاج أسلحة نووية.

ونقلت محطة (CNN) في ٤/٤/٢٠٠٥م عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تقريراً تتهم فيه مصر بأنها زودت الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين، بأسلحة كيماوية أثناء حربه ضد إيران في حقبة الثمانينيات، وأكد التقرير المذكور أن الحكومة المصرية دعمت الجيش العراقي بخبراء عسكريين طوال تلك الحرب، وأنها أمدت ذلك الجيش بالغازات السامة» .

والسؤال هنا هو: لماذا يثار هذا الاتهام الذي مر عليه أكثر من عقدين من الزمان في هذا التوقيت بالذات؟! وهل كانت أمريكا غافلة عن ذلك التعاون ـ إن صح ـ أم أنها كانت وراء ذلك؟

وانتقدت صحيفة نيوزويك الأمريكية الصادرة في (١٦/٦/٢٠٠٤م) الإدارة الأمريكية لبدئها بغزو العراق للتركيز عليه في مشروع التغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط، مع أنه كان الأجدر بتلك الإدارة ـ بحسب الصحيفة ـ أن تكثف الجهود تجاه مصر، إذا ما أرادت تغييراً حقيقياً في المنطقة يوصل إلى صياغة عملية لمشروع الشرق الأوسط الكبير؛ لأنها ـ أي مصر ـ ستظل عقبة في تحقيقه إذا استمرت على وضعها الراهن الرافض للإصلاح بأجندة أمريكية.

في مناظرة كبرى نظمها اتحاد الطلبة في جامعة أكسفورد البريطانية قبل مدة، أدلى (جيمس وولسي) الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (سي. آي. إيه) بتصريح قال فيه: «حان الوقت لاستبدال جميع الأنظمة المستبدة، وإصلاح الأخطاء التي ارتكبتها الإدارات الأمريكية المتعاقبة» وأضاف: «ما أن ننتهي من الصداميين، حتى ننتقل إلى المباركيين» وقال: «إن الولايات المتحدة عازمة على تكرار تجربة التغيير في أوروبا الشرقية في دول الشرق الأوسط» .

وفي معرض حديثها عن الطريقة التي ستتبعها أمريكا لفرض التغيير في المنطقة، قالت وزيرة الخارجية الأمريكية (كوندليزا رايس) : «سنعتمد طريق (الفوضى البناءة) لتغيير الأوضاع» وقد رددت ذلك في مناسبات متعددة، معبرة عن قناعات جورج بوش بأن ذلك هو النهج الذي ينبغي اتباعه في تسخين بعض الساحات على الترتيب، وهو ما حدث في أوروبا الشرقية في أوائل التسعينيات، ويحدث الآن في بلدان آسيا الوسطى.

وكان (كولن باول) وزير الخارجية الأمريكي السابق، قد تحدث صراحة عن أنه آن الأوان لتغيير نظم الحكم في منطقة الشرق الأوسط، وذلك ضمن خطابه عن سياسة الاصلاح الأمريكي المقررة لهذه المنطقة أمام صندوق دعم الديمقراطية.

إن هذا التصريحات ـ وغيرها كثير ـ هي رسائل موجهة للحكومة المصرية وغيرها، وهي لا تعني فقط جذب المعنيين للارتماء في الأحضان الأمريكية بلا تحفظ، بل تهدف إلى إبطال مفعول صمام الأمان في القنابل الأمريكية الموقوتة المزروعة هنا وهناك، بحيث يظل الخوف من مصير شاوشسكو أو سلوبودان ميلوسوفيتش أو صدام حسين أو الملا عمر، هو الهاجس الأكبر عند كل من يفكر في أن يقول (لا) للطغيان الأمريكي.

ورسائل التحرش والابتزاز هذه، لا تقتصر على الجانب الأمريكي، بل تعضدها وتساندها رسائل أكثر فجاحة من الجانب الإسرائيلي؛ فعندما نشرت صحيفة (يو إس إيه تودي) الأمريكية في عددها الصادر في (٤/١/٢٠٠٥م) تحذيرها المذكور سابقاً من أن مصر تمتلك برنامجاً نووياً، سارعت صحيفة (ها آرتس) الإسرائيلية في اليوم التالي مباشرة إلى إضافة «معلومات» جديدة، لصب الزيت على النار قبل أن تخبو، فذكرت في (٥/١/٢٠٠٥م) أن مصر أنتجت بالفعل بضعة كيلو جرامات من عنصر اليورانيوم المستخدم في صناعة الإسلحة النووية!

ولم تمض أسابيع على نشر تلك «الأدلة» التآمرية، حتى اتهم (مائير دوغان) رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد) كلاً من مصر والسعودية وسورية بامتلاك برامج نووية، وقال: «إن في حوزة إسرائيل معلومات استخباراتية حول امتلاك تلك الدول برامج نووية» ، وقال «إن هناك مؤشرات على أن سورية تطور خططها في المجال النووي أسوة بمصر، وكذلك فإن السعودية ـ كما ادعى ـ أجرت اتفاقات مع دول أخرى للحصول على التكنولوجيا النووية» ! وقد صدرت تلك التصريحات منه أمام جلسة عقدتها لجنة الأمن الخارجي بالكنيست الإسرائيلي.

وفي حملة مشابهة، نقلت صحيفة (جيروزاليم بوست) الإسرائيلية في (٤/١/٢٠٠٥م) عن مصادر عسكرية إسرائيلية زعمها أن إحدى تلك الدول الثلاث، قد حققت بالفعل قفزة نوعية في المجال النووي، ونقلت الصحيفة نفسها عن رئيس الموساد السابق ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي الحالي (إفرايم هاليفي) إعرابه عن القلق من أن تكون إحدى تلك الدول قد حصلت بالفعل على مكونات نووية، وقال: «ربما كان الأنسب صرف النظر الآن عن إيران، للتركيز على الخطر الظاهر للعيان في أماكن أخرى» .

أما أكثر رسائل التحرش والابتزاز وقاحة، والتي استقيت منها عنوان هذا المقال؛ فهي العبارة التي صدرت واشتهرت في لقاء دعا إليه (ريتشارد بيرل) أحد أبرز رموز المحافظين اليهود الجدد، وأقوى صقور البنتاجون وهي: «العراق هدف تكتيكي، والسعودية هدف استراتيجي، ومصر هي الجائزة» !

ولا أريد أن أقف طويلاً أمام هذا الترتيب الغامض في وضوحه، أو الواضح في غموضه؛ لأن المخزون المكنون من العداء على ألسنة هؤلاء قد طفح خارج كيلهم، وما تخفي صدورهم أكبر. لكن مغزى كلمة «الجائزة» يشير إلى مدلولات خطيرة، ويشي بمعان كبيرة، ليس أقلها أن عملية عزل مصر وفصلها عن محيطها، كان ولا يزال هو الأسلوب المتبع لإبطال مفعول الدور الذي كان ينبغي أن تقوم به، حتى تضعف في محيطها، ويضعف محيطها بها، وتكون في النهاية كالفريسة التي استفردت بها الذئاب، بعد أن أقصتها عن أخواتها، لتلقى مصيرها دون مدافع أو منقذ.

لا يعني ذلك بالضرورة أن تخاض حرب مباشرة ضد مصر في مرحلة قريبة، ولكن بالتأكيد فإن حروب التجويع والإفقار المادي والروحي، ومعارك التهييج والإلهاء وتسييد التفهاء، ستدور رحاها بمكر كُبَّار؛ لأن الصيد سمين، والهدف ثمين، والخصم كبير؛ يستحق التأني والتريث لإيقاعه في شباك إمبراطورية الدجل القادم، ولهذا يجري استثمار أوضاعها الراهنة الواهنة، لتثبيت هذا الوهن بعد طلائه بألوان الخديعة الفاقعة.

- الأوضاع الراهنة ... والفرص السانحة:

يبدو أن المعادلات الدولية والإقليمية بالحسابات الأمريكية، كانت تستدعى إطالة الحالة التي غلبت على الأوضاع في مصر بعد إخراجها من دائرة ما كان يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي، بتوقيع اتفاق سلام «نهائي» مع دولة اليهود؛ فقد استغرق العهد الأخير في حكم مصر نحو ربع قرن (يقارب مجموع عهدي عبد الناصر والسادات) ، تقلبت فيه البلاد في أزمات عديدة كان معظمها داخلي، وقد تضافرت عدة مؤثرات طيلة تلك المدة، لتوصل البلاد إلى حالة الانسداد الحالية، التي يجري استغلالها بدقة واستثمارها بذكاء من قِبَل القوى المتربصة في الداخل والخارج كي تحتل مكانها في الخريطة المستقبلية لمصر.

وأحوال البلاد المتردية تعطي مسوغاً للجميع كي ينادي بالتغيير، ليس بالضرورة تغيير النظام، ولكن تغيير النظام الذي يسير عليه. فعلى الصعيد الاقتصادي ذي التأثير المباشر على الناس، تتضارب التقارير الحكومية وغير الحكومية في تقدير الحالة الحالية، فبينما تتسم التقديرات الحكومية بمضامين مطمئنة دائماً تحت شعار (لا داعي للقلق) ؛ فإن التقديرات والتقريرات غير الحكومية تصل بالصورة إلى حد الأزمة المعضلة والمأزق الخانق؛ فهي تتحدث عن نسبة بطالة بلغت ما بين ٢٠ إلى ٣٠% من مجموع القوى العاملة، بينما تقصرها التقديرات الحكومية على نحو ٨% فقط، وهو ما يتنافى مع ما تؤكده مصادر غير حكومية من وجود أكثر من ٣.٥ ملايين عاطل عن العمل من خريجي الجامعات والمعاهد العليا والمتوسطة، بحيث لا يستطيع إلا نحو ١٠% من مجموع الخريجين أن يجدوا وظيفة، وهؤلاء الذين يفترض أن يكونوا عدة للنهوض وسواعد للبناء؛ أصبحوا يمثلون وقوداً محتملاً في أي محاولات تسخين متعمد؛ فمثل هذه الشريحة المهمة التي تعتمد علىها مشروعات التنمية؛ هي التي تجري عليها رهانات أطراف الأزمة الحالية على اختلاف مشاربهم.

إن ضمور معدلات التنمية قد انعكس بشكل واضح على الموازنة العامة في البلاد؛ حيث أصبحت تعاني من عجز كبير تشير التقديرات الإحصائية إلى أنه قد بلغ في العام الحالي (٢٠٠٤/٢٠٠٥) مبلغ ٥٢.٣٥٦ مليار جنيه وبلغ عجز الميزان التجاري ٣.٨ مليارات دولار، بما يساوي ٤٠ مليار جنيه، وبلغت الديون الخارجية ١.٢٧ مليار دولار، أي ٢.١٢٤ مليار جنيه وهو ما يمثل ٨.٢٧% من الناتج المحلي، بينما بلغ الدين العام الداخلي ١.٧٤ مليار دولار، أي ٦.٣٤٤ مليار جنيه، وهو ما يعادل ٣.٧٧% من الناتج المحلي.

كل هذا في ظل حزب يحرص على الظهور بمظهر الصلاحية النادرة، التي جعلته يقتنع بأهليته لاحتكار إدارة البلاد بأغلبية برلمانية مطلقة مصنوعة، تتوالى عليه طوال الدورات البرلمانية التي مرت على البلاد خلال ربع قرن؛ فقد بلغ ذروة الشعبية (التسعينية) في أواسط التسعينيات، حيث سيطر الحزب الحاكم على ٩٥% من مقاعد مجلسي الشعب والشورى، بعد أن كان قد (فاز) بنسبة ٨٠% من تلك المقاعد في أول انتخابات بعد عهد السادات عام ١٩٨٤م، ثم حظي بنسبة ٧٧% من المقاعد عام ١٩٨٧، لتزداد النسبة بعد ذلك إلى ٨٠% في آخر انتخابات برلمانية عام ٢٠٠٠م.

وهذه الهيمنة الحزبية البرلمانية؛ تسبقها وتقود إليها هيمنة حزبية بلدية، فسيطرة الحزب الوطني على مقاعد البلديات في المدن والقرى تصل إلى ٩٧%. وعندما يتحكم حزب الحكومة في هذه النسبة المخيفة من المقاعد في المدن والقرى، فلا شك أن ذلك سيمكنه من تصنيع ما يكفي من الأصوات والأدوات التي تسهل له حشد وحصد الأصوات التي تتكون بها «الأغلبية» بطريقة تلقائية، وهو ما جعل بقية الأحزاب الرسمية التسعة عشر مقطوعة الأمل عن الوصول أو المشاركة في إدارة البلاد، مما ورثها بلادة وفتوراً، وحولها إلى قوى هامشية غير فاعلة طيلة السنوات الماضية، حتى أصبحت أكثر تلك الأحزاب لا تعدو أن تكون نوعاً من (الديكور) الدكتقراطي. وما يقال عن الأوضاع الاقتصادية؛ يقال أسوأ منه عن الأوضاع الاجتماعية والأمنية، وكل ما يتعلق بالحريات والحقوق العامة، وهو ما لا يتسع المجال لذكره هنا.

وقد فاقم الأمر، أن هذه الوضعية الشاذة، باتت مرشحة للاستمرار والدوام، بسبب حراسة (قانون الطوارئ) لها؛ فهذا القانون يحول بين القوى السياسية في البلاد ـ باستثناء الحزب الحاكم ـ وبين التحول إلى قوى منافسة يمكن أن تصلح أو تقوِّم.

قانون الطوارئ ينفذ في مصر ـ كأصل وليس استثناء ـ منذ عام ١٩١٤م؛ فقد فرضه الاستعمار الإنجليزي في أعقاب اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ حيث أعلنه الجنرال ماكسويل، ثم جرى تعميمه ـ بعد مصر ـ في معظم أنحاء العالم العربي، لظروف لا تخص العرب، ولكن تخص الإنجليز لحماية قواتهم في تلك الحرب العالمية الأولى، ولم يرفع العمل به إلا بعد نهايتها، ثم أعاد الإنجليز العمل به بعد نشوب الحرب العالمية الثانية حتى انتهائها عام ١٩٤٥م، ولم تطل المدة حتى فُرض مرة أخرى عام ١٩٤٨م بسبب ظروف الحرب العربية الإسرائيلية الأولى عام ١٩٤٨م، ثم ألغي بعدها بعامين في ظل حكومة الوفد في العهد الملكي، إلا أنه أعيد العمل به بعد قيام انقلاب عبد الناصر، ليتحول هذا القانون في عهد الثورة إلى ما يشبه الدستور في ظل ما يسمى بـ (الشرعية الثورية) التي كان يريد صاحبها ألا يُسأَل عما يفعل، صحيح أنه قد تواردت على مصر أحداث كبيرة، جعلت الحديث عن إلغاء حالة الطوارئ مجرد أمانٍ، إلا أن تلك الأحداث لم تكن متواصلة، ومع ذلك ظل هذا القانون مفروضاً على سائر البلاد بعد حرب ١٩٦٧م، وظل مفروضاً بقية عهد عبد الناصر، وبداية عهد السادات، الذي قام «بثورة» أخرى في ١٠/٥/١٩٧٠م أسماها: ثورة التصحيح، وقد ألغى بعدها ذلك القانون، وبعد اغتياله في ٦/١٠/١٩٨٠م أعيد العمل بقانون الطوارئ ليظل معمولاً به طيلة ربع القرن الماضي، مع أن تلك المدة الطويلة لم تنطبق عليها حالة من الحالات التي تستدعي فرض قانون الطوارئ ـ بحسب الدستور ـ وهي: (حالة الحرب ـ حالة التهديد بالحرب ـ حالة الكوارث الطبيعية) . إنما كان السبب الوحيد لفرضه هو الإبقاء على ما أُطلق عليه (المواجهة الشاملة) ضد بعض الإسلاميين.

والمواجهة الشاملة هذه لم تقتصر على أعمال العنف، وإنما ظلت مسلطة على سائر أشكال العمل الإسلامي، فكان هذا القانون اللعين شبه المقصور على الإسلاميين؛ يتجدد العمل به لثلاث سنوات كلما انتهت مدته بذرائع جديدة، ومن العجيب أن آخر تمديد له كانت حجته: استعداد التحالف الغربي لغزو العراق!

ولكن، ماذا يعني تطبيق قانون الطوارئ؟

إنه وفقاً لهذا القانون، تتكدس الصلاحيات في يد السلطة التنفيذية؛ حيث تتصرف بمعزل عن السلطة القضائية في كافة ما تراه، من فرض للقيود على حرية الأفراد والكيانات في حقوقهم القانونية، فتحت ذلك القانون؛ تقيد الحرية في الاجتماع والانتقال والإقامة، وتوسع صلاحيات الضبط والإيقاف والاعتقال والتفتيش للأماكن والأشخاص بمجرد الشبهة، كما يهدد هذا القانون الالتزامات المنصوص عليها في المعاهدات الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية، مثل الحريات الشخصية وحرية التنقل والتعبير والاجتماع.

وفي ظله ـ لا أدام الله ظله ـ تعطي صلاحيات واسعة للحاكم العسكري أو نائبه، لمراقبة الرسائل والصحف والمطبوعات والاتصالات، وكافة وسائل التعبير والإعلام؛ حيث تخضع لإمكانية الضبط أو المصادرة أو الإيقاف، وبما أن الحكم تحت الطوارئ يأخذ الصبغة العسكرية؛ فإن القضاء نفسه يحيَّد عندما تشكل المحاكم العسكرية التي جرى إخضاع أكثر قضايا الإسلاميين لها، وهكذا تسير الأحوال في مصر وكأنها ـ بل إنها ـ «حالة حرب» مستمرة. ومن المضحكات المبكيات، أن العدو الحقيقي لمصر والمصريين والعرب وسائر المسلمين، وهم اليهود الإسرائيليون؛ يُتغاضى عن خطرهم الجسيم على المستوى المحلي والإقليمي ليفرض (التطبيع) معهم ويقدم (السلام) إليهم، بينما تظل حالة «حرب الطوارئ» مفروضة على سائر المصريين، وبخاصة الإسلاميين، ومن الأعجب والأنكى أن دول العالم (الحر) تسكت على كل ذلك بدعوى دعم الاستقرار.

- مفترق الطرق:

اكتشفت أمريكا أن التغاضي عن الاستبداد والفساد بدعوى الاستقرار في العالمين العربي والإسلامي، ولَّد الأحقاد وورث الضغائن ضد الغرب ومن يحمي مصالحه، وهو ما ترجم في العقود الأخيرة إلى ثورات عنف مسلح هنا وهناك، ظلت تتوسع رقعتها وعملياتها حتى طالت أمريكا نفسها في الداخل، وهنا ... هنا فقط، شعر الأمريكان أنه آن الأوان لإيقاف الاستبداد المدعوم لأجل الاستقرار المزعوم؛ وذلك انطلاقاً من مصالحها أيضاً، وليس مصالح الشعوب.

فذهبت تدعو إلى (الإصلاح) وإلى (الديمقراطية) وإلى (إعادة حقوق الإنسان) وهي كلها دعوات تنسجم مع خوف الأمريكيين من تزايد التوجهات العنيفة من جهة، وتتلاءم من جهة أخرى مع ما قررت أمريكا المضي فيه، وهو استكمال مشروعها الإمبراطوري العالمي، انطلاقاً من شرقنا الأوسط (الكبير) .

وقد اتضح أنها تهدف من خلال الدعوة إلى إحلال الديمقراطية لإحراج الأنظمة بتهييج الشعوب عليها إذا لم تستجب أكثر للمزيد من التنازلات الخادمة للمشروع الإمبراطوري، وتهدف أيضاً إلى استبعاد من يستعصي على تقديم هذه التنازلات تحت دعوى التجديد والإصلاح، ليأتي آخرون أكثر استعداداً للولاء والاستخذاء، وتهدف أخيراً إلى تحسين صورتها القبيحة التي أظهرتها التصرفات الهمجية ضد العرب والمسلمين في السنوات الأخيرة، ليبدو الأمريكان في نظر المغفلين أنهم هم قوى (الكاوبوي) المنقذ ... والمقاتلون الرحماء من أجل حقوق الضعفاء.

وإزاء هذه الخلفية الأمريكية للأحداث الجارية، تتطور الأمور في مصر، ليتبلور المشهد الراهن في صورة مواجهة حتمية، لا أراها بين الإدارتين الأمريكية والمصرية، بقدر ما أراها بين الإرادتين العلمانية والإسلامية في مصر؛ فالعلمانية القديمة الشائهة، تتطلع إلى وراثتها علمانية فتية جَلدة، تريد أن تفتك بما تبقى من عُرى الإسلام في مصر، ليجد الإسلاميون أنفسهم ـ مهما كان شكل التغيير القادم ـ أمام علمانية جديدة وعنيدة، مسنودة بعداء الأمريكان وأطماعهم وأحقادهم كجزء من حربهم ضد العالم الإسلامي.

والمستقبل المصري المقدم على التغيير لا محالة؛ تتنازعه هاتان الإرادتان اللتان اصطرعتا طيلة قرنٍ ماض، احتمى العلمانيون فيه على اختلاف راياتهم ـ بالقوى الخارجية لفرض رؤاهم وسلطتهم وسطوتهم، لتدور رحى أطول معركة بين أهل الإيمان وأتباع الشيطان في العصر الحديث، انتهت بنجاح أهل النفاق في إيقاع الافتراق بين السلطان والقرآن.

وها هي المعركة ذاتها، بنفس أطرافها ... ونفس شعاراتها ... ونفس قضاياها؛ توشك أن تشب في جولة جديدة بين العلمانيين المتوثبين للسطو على السلطة في ثوب جديد لإجهاض مكتسبات الصحوة تحت حماية أمريكا؛ وبين الإسلاميين الذين يناضلون لأجل حماية تلك المكتسبات، التي أوجدت ـ في أقل نتائجها ـ تعاطفاً جارفاً بين جموع الشعب مع الإسلام وقضاياه وقيمه ونظامه في الحياة.

فلمن تكون (الجائزة) مصر، ومن هو الذي سيفوز بالسهم الأهم في توجيه مسير تها وفرض إرادتها؟

إن الأمر يحتاج إلى مزيد إيضاح، عن هوية التحرك العلماني في مصر وطبيعة التحرق الإسلامي في مواجهته، ومواجهة من يقف خلفه هذه المرة ... وهذا ما سأحاول معالجته في عدد قادم بإذن الله.


(١) ذكر ذلك السيوطي في كتابه (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) .
(٢) في قوله ـ تعالى ـ: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ} [التين: ١ - ٢] ، وقوله: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ} [المؤمنون: ٢٠] .
(١) كتاب (يقظه العرب) تأليف جورج أنطونيوس، تعريب على الركابي ص ٢١.