دراسات تربوية
[الإيمان هو المنقذ]
د. عبد المجيد الزنداني
إذا استعرت الأهواء في النفوس، وحُطّمت القيم، وتجاوزت الحدود؛ فإن
الإيمان هو المنقذ من جحيم تلك الأهواء التي تدمر حياة البشر وتفسدها، وإذا
ازدحمت النظريات المتناقضة، واحتجبت الرؤيا الصحيحة، وأُعجب كل ذي رأي
برأيه، وأظلمت الطرق فإن الإيمان هو المنقذ.
وإذا حيكت المؤامرات لتلبيس الحقائق وإحباط الهمم وتفريق الصفوف
واستدراج الشعوب فإن الإيمان هو المنقذ.
وإذا أحاطت الجيوش، ونصبت المنصات لإطلاق الصواريخ، وزمجرت
الطائرات، وصوبت المدافع فإن الإيمان هو المنقذ.
يقول كثير من الناس: هل هذا صحيح؟ وهل يمكن أن يكون؟ وهيّا لنرى
الجواب:
إن النفس البشرية قد جُبِلت على حب الخير والاستكثار منه، والخوف
والفرار من الأخطار والاحتياط من الوقوع فيها، وليس من الخير مثل الجنة التي
فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كما وصفها الله بقوله:
[فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (السجدة:
١٧) ؛ فهي دار الخلود التي يتحقق فيها كل ما تشتهي الأنفس، وليس من الخطر
مثل النار التي وقودها الناس والحجارة التي قال الله في أهلها: [وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن
تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ] (فاطر: ٣٧) .
وإذا استقر الإيمان بحقيقة الثواب والعقاب هذه في النفس البشرية انطلقت تلك
النفس لممارسة الأعمال الصالحة رجاء الفوز بنعيم الجنة، وأحجمت عن الانطلاق
وراء الأهواء والشهوات خوف الوقوع في النار.
وعندئذٍ يفيض الخير في المجتمع فيضاً، ويغيض الشر فيه غيضاً، وتنجو
البشرية من شر النفوس ونزعاتها المدمرة لحياة الأفراد والجماعات، لكن ذلك كله
يتوقف على تحقق الإيمان بالوعد والوعيد.
وإذا استقر الإيمان في النفس البشرية علم صاحبها أن له خالقاًً عليماً قد أحاط
بكل شيء علماًً، حكيماً يهدي إلى الحق وإلى الصراط المستقيم، عدْلاً لا يظلم
الناس شيئاً، خبيراً بدخائل النفوس وخفاياها، وأن ما جاء من عنده هو الحق الذي
لا يشوبه باطل كما قال تعالى: [فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحَاكِمِينَ]
(التين: ٧-٨) .
وكما قال تعالى: [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ
وَاسِعُ المَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ
تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى] (النجم: ٣٢) ، وكما قال تعالى: [قُلْ أَأَنتُمْ
أَعْلَمُ أَمِ اللَّه] (البقرة: ١٤٠) . وعندئذٍ تتجلى أنوار الطريق المستقيم الذي لا
تغشاه ظلمة نظرية قاصرة وفكرة بشرية محدودة، فتنجو البشرية من التخبط في
ظلمات النظريات القاصرة والأفكار المشحونة بالأهواء الجائرة، ويخرج الناس من
الظلمات إلى النور كما قال تعالى: [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ] (البقرة: ٢٥٧) ، وكما قال تعالى: [وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ] (المائدة: ١٦) . فيضع المؤمن رأيه
متخلياً عن إعجابه وغروره برأيه معتصماً بالهدى الذي جاءه من خالقه، فيجتمع
الناس على طريق واحد يعصمهم من كل زيغ وجهل وضلال.
وإذا تحقق الإيمان في مجتمع من المجتمعات تولاه الله ودافع عنه كما في
كتابه بقوله: [إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ]
(الحج: ٣٨) ، فتتحطم شباك المكر والخداع التي يمكر بها الكافرون بالمسلمين كما
قال تعالى: [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ المَاكِرِينَ] (الأنفال: ٣٠) .
فتنفضح مؤامرات وتنكشف خيانات، وتسقط أقنعة وينجلي الصدق وأهله،
ويتمايز الخبيث من الطيب والصادق من الكاذب، ويحتشد جميع المؤمنين صفاً
واحداً معتصمين بحبل الله تاركين أسباب الفرقة والاختلاف كما أمرهم الله بقوله:
[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران: ١٠٣) .
وإذا تمكن الإيمان في النفوس وتحقق في واقع الحياة عبادة صحيحة وأخلاقاً
نبيلة وسلوكاً مستقيماً ودعوة صادقة استحق المؤمنون ما وعدهم الله به؛ والله لا
يخلف الميعاد.
وقد وعد الله المؤمنين إذا صدقوا في إيمانهم، وقاموا بما أوجب عليهم بوعود
لا تُخلف.
وعد الله المؤمنين بالنصر على أعدائهم: [وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ]
(الروم: ٤٧) .
ووعد الله المؤمنين بالعزة فقال: [وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ]
(المنافقون: ٨) .
ووعد الله المؤمنين بأن يتولاهم فقال: [اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا] (البقرة:
٢٥٧) .
ووعد الله الذين آمنوا بالتمكين في الأرض والاستخلاف فقال تعالى: [وَعَدَ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي
لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ] (النور: ٥٥) .
ويتساءل الناس: أيقع كل هذا مع نقص الأسباب وغياب المؤهلات المادية؟
والجواب ما حدَّث به التاريخ: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن
الله. والله لا يعجزه شيء فهو القائل: [وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لاَ
يُعْجِزُونَ] (الأنفال: ٥٩) .
فهيَّا إلى الإيمان نثبته في قلوبنا بالعلم والبينات، ونعلنه بألسنتنا وأجهزة
إعلامنا، ونطبقه بأفعالنا.
وبهذا يتضح أن الإيمان هو المنقذ من كل ما نشكوه.