فرنسا ما بعد ديغول
تدفن أسطورة مساندتها للعرب
تحليل مترجم عن " الجارديان ويكلي "
إن شبح الجنرال شارل ديغول الذي أرسى مبدأ مساندة العرب، ونغمة
معارضة أمريكا في سياسة فرنسا الخارجية في الستينيات قد وُوري التراب وإلى
الأبد في جزيرة مارتنيك خلال القمة الأمريكية الفرنسية في ١٤/٣/١٩٩١، وقد
اختار الرئيس ميتران بشكل يدعو للاستغراب إقليماً فرنسياً ليعلن خضوع بلده للقوة
العظمى الوحيدة (أمريكا) وليدفن أسطورة مساعدة فرنسا لنضال العرب ضد إسرائيل. وكل من بوش وميتران في مؤتمرهما الصحفي - الذي عُقد بعد ٩٠ دقيقة محادثات - قد عبرا عن تصميمهما على الاستمرار بالوفاق الذي ظهر بين واشنطن وباريس خلال حرب الخليج. لقد كان دور فرنسا ثانوياً لكنه بالغ الأهمية في مساندة الهجوم الذي قادته الولايات المتحدة ضد العراق. لكن حكمة الوفاق قد تعني التغطية على الخلافات، وقد ذهب ميتران إلى أبعد من ذلك عندما قال: (إن بلاده مستعدة لتأييد موقف أمريكا في سياستها تجاه الشرق الأوسط) .
وقد ذكرت صحيفة (هيرالد تريبيون) أنه بدلاً من التأكيد على وجهة نظر
فرنسا السابقة - وهي أن ترعى منظمة الأمم المتحدة مؤتمراً دولياً للسلام في الشرق
الأوسط كخطوة أولى - فإن ميتران أيد بوش في اتخاذ موقف عملي واستطلاعي
بدون تحديد مسبق.
وقد حيت الصحافة الفرنسية تراجع ميتران هذا واعتبرته صفحة جديدة في
العلاقات بين أمريكا وفرنسا. فقد قالت جريدة (لوموند) : لقد تبنت فرنسا بلا شك
مسؤولية تحمد عليها وهي موقفها الجديد من واشنطن.
وأضافت الصحيفة أن الرئيس ميتران قد اقتنص كل فرصة سانحة ليزيل
تحامل الرأي العام الفرنسي على الولايات المتحدة.
وقد مهد وزير الخارجية الفرنسي رولان دوما الطريق أمام إعلان ميتران
الرسمي التحالف مع الولايات المتحدة.، وذلك خلال المقابلة الطويلة مع جريدة
لوموند في ١١/٣/١٩٩١، حيث قال: إن باريس ستقف إلى جانب الجهود
الأمريكية في العمل على حسم النزاع العربي الإسرائيلي. وقد انتقد سياسة فرنسا
الخارجية خلال حكم الجنرال ديغول ووصفها بأنها كانت سلسلة من الأوهام. وقد
كان أهم عنصر في تلك السياسة تجنب التعاون المفتوح العلني مع الولايات المتحدة، وبناء عناصر تأثير ديبلوماسية في العواصم العربية.
لقد التزمت الحكومات الفرنسية المتعاقبة سياسة ديغول هذه التي واءمت بين
إرضاء أمريكا سراً، وإرضاء العرب في العلن. ولعل رولان دوما هو أول
مسؤول فرنسي ينتقد هذا الأسلوب علناً؛ فقد أعلن أن فرنسا ليست مقيدة إلي الأبد
بفكرة المؤتمر الدولي تحت إشراف مجلس الأمن من أجل بحث المسألة الفلسطينية.
لقد دعت فرنسا مراراً خلال أزمة الخليج لانعقاد هذا المؤتمر من أجل تهدئة غضب
المسلمين من سكانها، وإرضاءاً للحكومات العربية.
وحيث انتصرت أمريكا انتصاراً ساحقاً في هذه الحرب، وحيث اشترك في
هذه الحرب عدد لا بأس به من الحكومات العربية فقد وجدت فرنسا في الانضواء
تحت إرادة أمريكا فوائد أكبر من تأييدها للأهداف الفلسطينية.
ومعلوم أن الولايات المتحدة - على تعاقب إداراتها - تفضل سياسة الاقتراب
خطوة خطوة لانعقاد المؤتمر الدولي، هذا المؤتمر الذي يمكن أن يعطي الاتحاد
السوفييتي دوراً ما في الشرق الأوسط، الأمر الذي لا توافق عليه واشنطن.
لم يكن ديغول صديقاً مخلصاً للعرب أو للمسلمين، فيما يخص هذا الأمر،
وقد كان موقفه ذاك مجرد تلاعب بالألفاظ لإظهار باريس قوة دولية مستقلة عن
الولايات المتحدة التي تهيمن على المؤسسات الغربية بما فيها منظمة حلف الأطلسي، والجنرال الذي تخلى عن حلف الأطلسي لهذا السبب أعلن تأييده الكاذب للهدف
الفلسطيني بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بالجيوش العربية في حرب الأيام الستة
عام ١٩٦٧، ولم تحقق باريس من تعاطفها كله ذاك إلا الوهم الذي سمته استقلالاً
في سياستها الخارجية، وسرقة ملايين الدولارات من الدول العربية دُفعت مقابل
أسلحة ومعدات لا يمكنها هزيمة ترسانة الأسلحة الإسرائيلية. والنتيجة الوحيدة
المحسوسة لسياسة فرنسا المسانِدة للعرب كانت في إقناعها لدول السوق الأوربية
المشتركة إصدار إعلان البندقية عام ١٩٨٠ مع أن ذلك الإعلان ظل حبراً على
ورق منذ إعلانه؛ لأنه لا فرنسا ولا غيرها من دول المجموعة الأوربية كانت
مستعدة لتحدي الولايات المتحدة في تعهدها بتمويل وتسليح الدولة الصهيونية،
وبدون ضغط دولي مؤثر على الولايات المتحدة لوقف مساندتها لإسرائيل، فإن هذه
لا ترى حاجة للتفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية.
وعلى أي حال فإن الاتجاه الدولي قد تحول لمصلحة الولايات المتحدة بعد
انهيار الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى، وبعد تطلع أمريكا المقنّع للهيمنة كقوة وحيدة.
وقد اعترفت كل من فرنسا والاتحاد السوفييتي بهذه الهيمنة باتباعهما الخط
الأمريكي في الحرب على الرغم من محاولتهما معاً تقديم خطط سلام اللحظة الأخيرة
قبل الهجوم على العراق وقد كانت جهودهما الديبلوماسية غير الجدية لإنقاذ العراق
للحفاظ فقط على صورتهما كقوتين عظميين ذواتي تأثير في العواصم العربية. إن
حرص فرنسا للتعاون مع واشنطن يعكس هذه الحقيقة الدولية الجديدة.
تغير آخر في موازين القوى في أوربا وهو (إعادة توحيد ألمانيا) قد بعث
الخوف الفرنسي من أن تكون بون هي القوة الجديدة المهيمنة في أوربا بدلاً من
فرنسا.
إن ألمانيا الموحدة في وضعها الجديد تحاول أن تجد مكاناً بين الدول دائمة
العضوية في مجلس الأمن التي لها حق النقض، وأي مراجعة لدور مجلس الأمن
لإحلال ألمانيا فيه سوف يؤثر بالتالي على فرنسا.
وفي مقابلة دوما مع (لوموند) كان واثقاً من أن مساعدة فرنسا للولايات المتحدة في حرب الخليج ثم مساندة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط يحمل أمريكا على معارضة أية جهود ألمانية لدخول العضوية الدائمة، سوف يجعل أمريكا توافق على جهود ألمانيا لإطفاء دور فرنسا في مجلس الأمن، فألمانيا لم ترسل قوات لتحارب في الخليج.
وقد أشار دوما إلى أن الانشقاقات في العالم العربي التي أسفرت عنها حرب
الخليج كانت الأساس لمراجعة سياسة فرنسا في الشرق الأوسط.، إن الوحدة
العربية التي بُنيت عليها فكرة سياسة ديغول المؤيدة للعرب أظهرتها هذه الحرب
كخرافة، وفي الحقيقة فإن سياسة الجنرال كانت مزدوجة.
إن الحديث عن شيء اسمه (عرب) هو أسطورة كما يقول دوما، والحديث
عن شيء اسمه سياسة عربية موحدة أسطورة أخرى، وسياسة ديغول العربية كانت
سلسة من الأوهام، بالرغم من ذلك فقد ظل السياسيون متشبثين بها رغم خرا فتها.
وهناك دلالة أخرى لتقارب فرنسا مع الولايات المتحدة وهي قرار فرنسا في
١٥ من آذار الماضي الانضمام إلى مجموعة دراسة ومراجعة وتجديد استراتيجية
الحلفاء فيما يحصل بعد الحرب الباردة. وقد تألفت هذه المجموعة بعد قمة لندن
لحلف الأطلسي في تموز عام ١٩٩٠.
ولم تُنتخب باريس لتشارك في جدول الأعمال الذي كان مقصوراً على الأمور
العسكرية. ومع هذا فسوف تظل فرنسا تدعو إلى الأمن والاستقرار والسلام في
الشرق الأوسط من أجل العواطف العربية للحصول على عقود إعادة البناء في
الكويت والعراق ولبيعهم السلاح، ولكن دعوتها هذه سوف تظل غير مسموعة؛
لأن واشنطن في وضع يجعلها تمنع أي عقد بين فرنسا من جهة وبين حلفاء أمريكا
في المنطقة.
ولعل أكبر مفارقة ساخرة قامت بها فرنسا هي دخولها في حرب ضد حليفها
القديم الذي ساعدت على تسليحه خلال علاقتها المميزة معه في الخمس عشرة سنة
الأخيرة؛ فقد احتكر الفرنسيون العقود المدنية والعسكرية فى العراق، وربحوا من
ذلك بلايين الدولارات، هذه العلاقة بين فرنسا والعراق بدأت عام ١٩٧٤ على زمن
رئيس الوزراء جاك شيراك، لكن قدرة العراق على الدفع مقابل الأسلحة والمعدات
الفرنسية تناقصت بشدة خلال سنوات الحرب مع إيران التي استهلكت إنتاج العراق
من البترول، ونتيجة لذلك أصبحت بغداد مدينة لباريس بحوالي ٢. ٥ بليون جنيه
إسترليني بالإضافة إلى بليون جنيه إسترليني فوائد، وهكذا لم يعد العراق زبوناً
جذاباً كغيره في هذه الظروف.
عن " غارديان ويكلي " ١٥/٤/١٩٩١