وفاة الشيخ حمود التويجري
هيثم الحداد
توفي في مدينة الرياض عن عمر يناهز الثمانين، فضيلة الشيخ حمود بن
عبد الله التويجري - رحمه الله - رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.
ولا يتسع المجال هنا لذكر ترجمة مفصلة للشيخ، ولكن سنذكر أهم ما تميز به. فأولها جلد عجيب على طلب العلم وتحصيله، وكان سمة بارزة في حياته منذ أن
بدأ الطلب في سن مبكرة حتى أصبح من حملة العلم وناشريه، فقد بدأ بحفظ القرآن
الكريم، فأتمه ولمّا يبلغ الحادية عشرة من عمره، ثم بدأ بطلب العلوم الأخرى على
علم المجمعة وفقيهها العلامة عبد الله بن عبد العزيز العنقري -رحمه الله تعالى-،
وإنك لتعجب حينما تسمع أنه كان يقضي يومه كله من بعد صلاة الفجر، حتى بعد
صلاة العشاء في القراءة والطلب. وقد لازم شيخه عبد الله قرابة ربع قرن، قرأ
فيها عليه الصحيح والمسانيد والسن، وأجازه شيخه فيها إجازة عامة، وقرأ عليه
فتح الباري، والمغني لابن قدامة المقدسي، ومنهاج السنة النبوية ودرء تعارض
العقل والنقل، والفتاوى المصرية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية، وزاد المعاد
لابن القيم، وطائفة من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأئمة الدعوة،
وغيرها كثير، وأخذ عن العلامة قاضي مكة سليمان بن حمدان، وعنه عن رواية
المغرب الكبير محمد بن عبد الحي الكتاني يروي الكتب الستة.
ولم تفتر همة الشيخ عن الطلب والتحصيل بمثل هذه القوة والرغبة مع تقدمه
في السن. وإنك لتجد تعليقاته وتعقيباته وتصويباته، على ما يقرأ، فله تعليقات
كثيرة على نسخة مسند الإمام أحمد بن حنبل المطبوعة بتحقيق أحمد شاكر، ومثل
هذا تجد على فتح الباري، وغيرها. وكما كان حال سلفنا الصالح من الجمع بين
الجلد على العلم، وكثرة العبادة، كان الشيخ كذلك وهذا من دلائل الإخلاص. وله
في دماثة الخلق وطيب المعشر، شيء عجيب، يقول أبناؤه: ما كان الشيخ يطلب
من أحد شيئاً البتة، وحتى بعد أن ضعفت صحته، فكان يقوم بإعداد الشاي والقهوة
بنفسه، مع إلحاح أبنائه عليه بعدم فعل ذلك راحة لجسده، بل إنا لنجد أبعد من هذا
عند شيخنا، فهو خادم رفقته في السفر، حتى وقد تقدمت به السن، مع حظوته
وتقدير الرفقة العظيم له، وقد يقوم بإعداد الطعام، ومن ذلك أنه كان يقوم الليل
الآخر كعادته ثم يضطجع اضطجاعة خفيفة حتى يحين وقت الصبح فيسخن الماء
لرفقته من أجل الوضوء. وتلك العبادة أكسبت ذلك الشيخ -رفع الله درجته- ورعاً
في الأموال والأعراض، فلم يلِ طيلة عمره عملاً رسمياً، خوفاً من عدم القيام به
على وجهه الأتم، أو لأمر آخر قد رآه، وأُلزم بالقضاء فهرب منه متخفياً إلى
الرياض، ثم أُجبر عليه متنقلاً بين مدينة رحيمة بالمنطقة الشرقية حيث مكث فيها
ستة أشهر، ثم الزلفى سنتين ثم لم يعد إليه إلى أن توفاه الله.
واكتفى ببعض التجارات التي لم يكن يليها بنفسه، فكان زاهداً في الدنيا،
وقبل وفاته أعطى أكبر أبنائه جميع ما يملك - ولم يكن شيئاً كبيراً - ليتصدق به
كله، فلم يخلف -رحمه الله- وراءه عقاراً أو مالاً، سوى البيت الذي يعيش فيه مع
أبنائه. أما ورعه في الأعراض، فمضرب مثل، فلم يُسمع أنه تكلم في أحد البتة،
لا عالماً ولا متعلماً، ولا عامياً. ومما يحسن ذكره أن الشيخ كان من المتابعين
لأحوال المسلمين وما يجري لهم، فكان يتحرق لآلامهم حتى أن أبناءه أوصوا
زواره بعدم ذكر جراحات المسلمين أمامه حتى لا يزداد عليه المرض. وكان ذا
مواقف مشهودة في دعم أهل الخير وإصلاح ذات البين وكان كثير الثناء والدعاء
للصحوة الإسلامية ورجالاتها.
ترك الشيخ ما يزيد عن خمسين كتاباً منها:
- الإيضاح والتبين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين.
- تحفة الإخوان في ما جاء في الموالاة والمعاداة والحب والبغض والهجران.
ومن آخرها صدوراً:
- قصص العقوبات والعبر والمواعظ.
- تغليظ الملام على المتسرعين إلى الفتيا وتغيير الأحكام.
ولد الشيخ في مدينة المجمعة عام ١٣٣٤هـ ووافته المنية يوم الثلاثاء لخمس
مضين من رجب عام ثلاثة عشر وأربعمائة للهجرة عن عمر يقارب الثمانين عاماً.
وكان مشهد جنازته مهيباً وتمثل لنا مقولة الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: قولوا
لأهل البدع بيننا وبينكم يوم الجنائز.
وكم في ذلك المشهد من إغاظة لأهل الزيغ من مبتدعة، أو علمانيين، فتلك
الجموع التي بدأت بالتوافد على مدينة الرياض منذ سماعها النبأ، ما حملها على ذلك
إلا حب العلماء والصالحين بشكل عام، فكثير ممن شهد جنازته لم يكن على معرفة
شخصية بالشيخ.
وإن في ذلك المشهد إثباتاً لا يدع مجالاً للشك في التفاف الناس حول علمائهم،
ومقدار الحب العظيم الذي يكنونه لهم.